وربّما لأنّه لم يحفظ جسدها كما ينبغي ، و لم تجد مأوى تسكنه، باتت تظهر أمامه مرارًا، فتنهش أعصابه وتؤرّقه.
وربّما لأنّه لم يرها منذ وقتٍ طويل، بدأ يتنازل خطوةً تلو الأخرى عن شروطه.
فقد كان في البداية يريد امتلاكها إلى الأبد، يحدّق فيها دون انقطاع.
والآن … لم يعد يرجو سوى أن تواصل تعذيبه.
كلّما زادت زياراتها ، كان ذلك أفضل.
فلتزُره في كوابيسه ، كلّ ليلةٍ و كلّ نهار.
ومنذ تلك اللّحظة، كلّما ظهرت له، كان ينقش اسمها على الحائط.
ودون أن يدري، صار جدار الغرفة كلّه مغطّى باسم “بولي”.
كإدمانٍ مرضيّ، كانت رؤيتها علاجًا لولعه، رغم أنّ كلّ ظهورٍ لها يزيد ألمه، لكنّه كان يتلذّذ بذلك الألم، ويغرق فيه بإرادته.
لكن هذا “العلاج” … كان نادرًا و صعب المنال.
حتّى جاء يومٌ استيقظ فيه، وأحسّ أنّ قلبه قد حُفر منه، وخلا تمامًا.
ومنذ ذلك اليوم، لم يعد يرى ظلّها.
ولم يكن بحاجةٍ إلى مرآة ليدرك كم أصبح وجهه مشوّهًا ومخيفًا.
كم كان فرِحًا حين “يشبع” من رؤيتها ، ينهل من أنفاسها بنهم.
وكم كان يتألّم ويُجنّ حين يعود جوعه، ويختنق به.
***
مزّقت بولي قطعةً أخرى من ورق الحائط.
وكان لا يزال اسمها.
الجدار كلّه كان مغطّى باسمها.
لكن عند التّمعّن، بدا واضحًا أنّ هذه الأسماء لم تُنقش في يومٍ واحد.
لماذا نقش إيريك اسمها مرارًا وتكرارًا على الجدار؟
حدّقت بولي في تلك الأسماء، وكأنّها ترى إيريك يتقلّب في غرفة النّوم هذه، ينقش اسمها بتعابير جنونيّة ومفتونة.
كانت تحمل اسم والدتها، وكانت تشكو في طفولتها من عدد الحروف الكثيرة في اسمها، وكانت حين تكتب واجباتها دائمًا ما تخرج بحرف “باو” خارج الإطار.
لكن إيريك، وهو مبتدئ، كتب هذا الحرف بهيئةٍ نحيلةٍ حادّة، و هيكلٍ متناظر ، و كأنّه تدرب عليه مئات وآلاف المرّات في الخفاء.
وفي النّهاية، صار خطّه يتشوّه تدريجيًّا، وتتداخل فيه الأحاسيس العنيفة، حتّى لم يعد يبدو كاسمها، بل كصورةٍ من حالته العقليّة المتدهورة.
أحسّت بولي بحرارةٍ تملأ عينيها وهي تنظر إلى تلك الكلمات.
لم تعد تحتمل، فقرّرت الذّهاب لرؤية الغرف الأخرى.
كانت تتذكّر أنّ ماربيل اعتادت كتابة مذكّراتها.
وإن كانت الغرف الأخرى محفوظةً كما غرفة النّوم الرّئيسة، فربّما تجد دفتر ماربيل ، و تعرف ما حدث بعد “وفاتها”.
كانت بولي تزور غرفة ماربيل أحيانًا وتتحدّث معها ومع فلورا.
كانت ماربيل صريحة، ولم تكن تتحرّج من كتابة مذكّراتها أمامها.
بل وإن حصل بينها وبين إيميلي خلافٌ ذات مرّة، دفعت دفترها إلى يد بولي قائلة: “اقرئي مذكّرات اليوم واحكمي أنتِ!”
دخلت بولي غرفة ماربيل ، و توجّهت نحو سريرها وفقًا لذاكرتها، وفتحت لوحًا مفكوكًا من الأرضيّة، ووجدت دفتر المذكّرات بالفعل.
قالت في سرّها: “أنا آسفة ، ماربيل” ، ثمّ أخرجت الدّفتر ، و جلست على المكتب ، و فتحته بهدوء.
تجاوزت بولي صفحات ما قبل عام 1889، وذهبت مباشرةً إلى ما كُتب بعد “وفاتها”.
23 فبراير 1889
آنسة كليرمونت ماتت. لا نستطيع تصديق ذلك.
فلورا تبكي، وإيميلي أُغمي عليها. ثيودور شاحبٌ ويرتجف، و ريفيرز ظلّ يدخّن ويتجوّل في غرفة الجلوس، يرفع رأسه نحو الطّابق الثّاني مرارًا، وكأنّه يريد أن يصعد ويتحقّق ممّا جرى.
أنا أيضًا بكيت كثيرًا، ولم أتمكّن من تهدئته إلا بصعوبة.
خفض ريفيرز صوته وقال: “ذلك الرّجل هو من قتلها! أنتنّ تخفنَ منه ولا تجرؤن على محاسبته، سأذهب أنا!”
قال هذا، وكانت عيناه تلمعان بالاحمرار.
كانت هذه أوّل مرّة تظهر فيها دموعه أمام الآخرين.
استغرقنا وقتًا طويلًا حتّى أقنعناه بعدم الصّعود.
نحن حقًّا لا نستطيع.
رغم أنّ الآنسة كليرمونت أوصتنا أن نطيع أوامر السّيّد إيريك لاحقًا، إلا أنّ عينيه مرعبتان جدًّا. لم أرَ مثل هذا الرّعب إلا في عيون القتلة.
27 فبراير 1889
استأجرنا أحدهم ليقيم جنازةً للآنسة كليرمونت.
لقد مكث جسدها في المنزل طويلًا، وإن بقي أكثر سيفوح رائحته حتمًا.
قام السيّد إيريك بطردنا—نعم، طردنا، وإن كانت كلماته و تصرفاته مهذّبة، إلا أنّنا كنا خائفين منه للغاية، ونرتجف من رؤيته.
قال: “لا تلمسوا جسدها. إنّها ستعود.”
ثمّ عاد إلى جوار جسد الآنسة كليرمونت، وأمسك يدها، وأراح جبينه على ظهر كفّها.
لقد أرعبنا هذا المشهد كثيرًا، لكنّه أزال شكّنا في كونه قاتلها.
ثيودور كان يحبّ الآنسة كليرمونت، وريفيرز كان يكنّ لها مشاعر معقّدة … لكن حتّى هما لم يجرؤا على الاقتراب من جثمانٍ ميّت.
إذًا، يبدو أنّ الآنسة كليرمونت قد ماتت بالفعل بسبب المرض.
يا إلهي، لماذا تأخذ منّا الطيّبين باكرًا هكذا؟
2 مارس 1889
بدأ الجسد يُطلق رائحة.
يكفي أن تقترب من غرفة النّوم حتّى تشتمّ رائحةً خانقة.
علينا أن ندفن الآنسة كليرمونت بأيّ ثمن.
3 مارس 1889
نشرنا إشاعة أنّ أحدهم رأى شبح الآنسة كليرمونت في الضّواحي.
اليائسون يتمسّكون بأيّ أمل، ولو كان وهمًا.
حين سمع السيّد إيريك بذلك، غادر على الفور للتحقّق.
لكن قبل أن يرحل، قال لنا: “لا تقتربوا من غرفة النّوم، وإلا قتلتكم جميعًا.”
أُصيب الآخرون بالرّعب من تهديده، وسألوني ماذا نفعل.
كنت خائفةً بدوري، لكن حين لمست خاتم الفضّة في إصبعي، تمالكت نفسي بالكاد، وقلت: “لا بأس. الآنسة كليرمونت ستُباركنا.”
ولكي لا يعود السيّد إيريك في منتصف الطّريق ويمنع الدّفن، اختصرنا مراسم الجنازة، و دفنّا الآنسة كليرمونت على عجل.
كنت أُمسك بالدّانتيل الأبيض الّذي ربطته لي آنذاك ، و أستمع لكلمات القسّ، وفجأة انفجرت باكية.
قالت لي الآنسة كليرمونت إنّني فتاة قويّة، لم أستسلم يومًا.
لكنّها كانت مخطئة. أنا لست قويّة.
أنام كلّ ليلة ممسكةً بتنّورة والدتي.
قدماي الكبيرتان جعلتاني بطيئة و محلّ سخرية.
والدتي منحتني حياتي الأولى، والآنسة كليرمونت منحتني حياتي الثّانية.
و الآن … كلتاهما غادرتاني.
4 مارس 1889
سُرق جسد الآنسة كليرمون.
المدينة كلّها تتحدّث عن ذلك.
5 مارس 1889
الشّخص الّذي سرق جسد الآنسة كليرمونت … كان هو السيّد إيريك فعلًا.
نحن جميعًا نعتقد أنّه جُنّ. يريد أن يعيش مع جثّتها إلى الأبد.
أجواء نيو أورلينز شديدة الرّطوبة، والحشرات كثيرة، وإن بقي الجسد أكثر … سيتحوّل إلى مستنقع نتن في غرفة النّوم.
لكن … لا أحد منّا يجرؤ على معارضته.
لم نره سوى مرّةٍ واحدة خلال هذه الأيّام.
كانت عيناه مليئتين بالشّعيرات الدّمويّة، لكنّ نظرته كانت حادّة بشكلٍ مخيف، كأنّ عقله قد انهار كليًّا.
هكذا يبدو المُقامِرين حين يُوشكون على الانتحار.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 97"