رجلٌ مثل ذلك كان ليخضع مباشرةً عند رؤية حبال إيريك.
… لكنّ إيريك ليس بجانبها الآن.
أغمضت بولي عينيها، وكتمت الألم الّذي يتخبّط في أعماقها، وعندما فتحتهما من جديد، كانت قد استعادت رباطة جأشها.
قالت بهدوء: “إذا ضايقتني مجدّدًا، فسأقاضيك بتهمة التّحرّش. أتذكّر أنّك لا تزال طالبًا ، أليس كذلك؟”
وما إن أنهت كلامها، حتّى أُغلِق الخطّ على الفور.
لكن بولي لم تُرد أن تتركه يفلت بهذه السّهولة، فاتّصلت به مرّة أخرى. فأغلق الخطّ مجدّدًا.
ثمّ اتّصلت للمرّة الثّالثة ، فأُدرج رقمها في القائمة السّوداء.
بصفتها ممثّلة غير معروفة، نادرًا ما كانت بولي تواجه النّاس بهذه الطّريقة المباشرة، خوفًا من أن تجعل نفسها هدفًا سهلًا.
لطالما آثرت الأسلوب اللّين لتفادي المشاكل، تمنح الآخر شيئًا من الهيبة، وتُبقي لنفسها مخرجًا.
لكنّ الاستيقاظ وعودتها إلى العصر الحديث، بعد أن فقدت حبيبها ومسيرتها، جعلها تشعر ببعض التوتّر، وكأنّ العنف بات يلوح في أفق قلبها.
وفجأة أدركت أنّها، لم تكن وحدها من يُؤثّر في مشاعر إيريك، بل إنّ إيريك بدوره كان يُؤثّر فيها أيضًا.
… لطالما ظنّت نفسها عقلانيّة أكثر من اللّازم.
ولحسن الحظّ، كانت قد توقّعت مجيء هذا اليوم، وقالت كلّ ما يلزم قوله، وشرحت كلّ ما وجب شرحه.
و عندما يستيقظ إيريك و يجد “جثمانها” ، فلن يكون الأمر صادمًا تمامًا بالنسبة له.
فجأة ، جاء صوت صديقتها من المقعد الأمامي: “بولي، هل عملتِ على أيّ نصوص جديدة في الفترة الأخيرة؟”
قالت بولي: “ماذا؟”
ردّت صديقتها: “لا شيء … لكن لكنتكِ أصبحت غريبة، مثل لهجات المسلسلات الأمريكيّة في عصر الترف.”
“…”
عندها فقط أدركت أنّ لكنتها قد تغيّرت أيضًا.
تبا، يجب أن تُصلح ذلك بسرعة، وإلّا فستُصبح مثل شخص يتحدّث بلهجة ملوك بريطانيا، ممّا سيُثير نظرات الاستغراب من حوله.
***
وخلال ذلك اليوم، كانت ردود فعل بولي بطيئة بعض الشّيء.
اضطرّت إلى اختيار كلماتها بحذر، حتّى لا تفضحها لكنتها التّسع عشريّة الفاخرة.
كان من المفترض أن تُكمل الرّحلة التّخييميّة لمدّة يومين أو ثلاثة، لكنّ صديقتها، وبعد أن رأت مدى سوء حالتها و مزاجها، قرّرت إعادتها إلى المنزل في اليوم التّالي.
شعرت بولي بالحرج، فبادرت إلى دفع ثمن وجبة الغداء شكرًا لصديقتها.
وبعد الأكل، عادت إلى البيت، وألقت بجسدها على السّرير، وأغمضت عينيها.
كان الأمر يُشبه إلى حدّ ما ما شعرت به عندما تمّ قبولها في الجامعة لأوّل مرّة – فرحتها العارمة، ورغبتها في إخبار والديها، لكن لم يأتِها أيّ ردّ.
و بعد شهر ، تلقّت رسالة قصيرة: “مبروك” ، دون حتّى سؤال عن كيفيّة دفعها للأقساط. و ظلّت غارقة في قروض الطّلّاب الثقيلة.
ولهذا السبب، كانت ذكرياتها الجامعيّة باهتة وضبابيّة.
فالمرء يُسقط من ذاكرته الأمور المُحبِطة تلقائيًّا، حتّى لا يُثقل قلبه بالاكتئاب.
كانت بولي قد نسيت تقريبًا كم كانت وحيدة في ذلك الوقت.
ولهذا، غاصت بكلّ كيانها في عوالم الخيال.
وبعد مدّة من السّكون، جلست فجأة، توجّهت إلى مكتبها، فتحت حاسوبها المحمول ، و كتبت في محرّك البحث: “نيكولا تسلا”.
بحثت دون أملٍ كبير، لكن فجأة اتّسعت عيناها من الدّهشة.
اللعنة!
في ذاكرتها، كان من المفترض أن يُنجَز مشروع محطّة توليد الكهرباء في شلالات نياجارا بعد عام 1895، لكنّ ويكيبيديا تُشير إلى أنّه تمّ في عام 1893.
… قبل عامين كاملين!
أخذت نفسًا عميقًا، وواصلت القراءة.
في عام 1888 ، و خلال “حرب التيّارات الكهربائيّة” ، لجأ إديسون إلى نفوذه لدى المجلس التّشريعي في نيويورك ، ليُحوّل عقوبة الإعدام من “الشنق” إلى “الكرسيّ الكهربائي” ، محاولًا ربط التيّار المتناوب الّذي طوّره تسلا بالموت ، لإخافة العامّة.
وفي الوقت نفسه، استأجر أشخاصًا ليُعدموا القطط والكلاب باستخدام الكهرباء ، حتّى يُرهبوا النّاس من التّيار المتناوب.
لكن بما أنّ تسلا كان قد صمّم قابس التّيار المتناوب مُسبقًا ، لم يكن أمام إديسون وقتٌ كافٍ لشنّ حملته التّشويهيّة ، فخسر الحرب.
ورغم أنّ تسلا هو من صمّم القابس، وحسّن الأجهزة الكهربائيّة آنذاك، إلّا أنّه لم يتقدّم بطلب براءة اختراعٍ للقابس طوال حياته.
وفي عام 1889، نُشرت رسائل من بولي في نيويورك تايمز ، قال فيها تسلا إنّ فكرة القابس جاءت من مسقط رأس الآنسة “سي”.
وعندما رأت بولي أنّ تسلا أشار إليها باسم “الآنسة سي”، غمرها شعور جارف.
فبعض الرّسائل الّتي كتبتها بلا اهتمام، فقط لشحن هاتفها، أصبحت ذات قيمة تاريخيّة عظيمة، وساهمت بشكلٍ مباشر في تسريع مجرى التّاريخ.
لكنّ تاريخ اختراع القابس كان معقّدًا، وشمل العديد من المخترعين – فلا اختراع يُولد في لحظة، بل يتطلّب جهود من سبقوه.
و “هارفي هابل”، الّذي يُعدّ المخترع الفعليّ للقابس ، لم يتأثّر بذلك، بل سبق واختَرع القابس ثلاثيّ الرّؤوس.
قرأت بولي كلّ هذا وهي تتصبّب عرقًا.
لقد ظنّت أنّ سفرها عبر الزّمن سيخلق تأثير الفراشة و يُولّد خطًّا زمنيًّا جديدًا، لكنّها لم تتوقّع أن يؤثّر على خطّها الزّمنيّ الأصلي.
وعندما تعود، ستضطرّ للتّواصل مع هابل وإعادة براءة الاختراع له.
لكن … كيف ستعود؟
فكّرت في أنّ كلّ من المرتين السّابقتين ارتبطت بالسّينما.
فهل عليها أن تُشاهد فيلمًا مرّة أخرى؟
أخذت الحاسوب إلى السّرير ، و فتحت فيلم رعب.
لكنّها لم تستطع التّفاعل معه.
كانت أفلام الرّعب قديمًا مهربها من الواقع، أمّا الآن فقد صارت مملّة.
وربّما لأنّ حياتها الحقيقيّة باتت أكثر دراميّة من أيّ فيلم.
بعد الانتهاء من فيلم، فتحت فيلمًا آخر.
وأثناء عرض شعارات الشّركات، فتحت هاتفها وبحثت عن: “بولي كليرمونت”.
ويا للعجب … وُجد اسمها في ويكيبيديا.
شعرت بالقشعريرة تسري في فروة رأسها، وتصبّب العرق من راحتيها، وارتجفت أصابعها، بالكاد فتحت الصّفحة.
لم تكن هناك صور، بل لوحة زيتيّة، تُشبهها بنسبة لا تتجاوز الرّبع.
الاسم: بولي كليرمونت
تاريخ الميلاد: غير معروف
تاريخ الوفاة: 23 فبراير 1889
النبذة: بولي كليرمونت، رائدة أعمال، جنسيّتها غير معروفة، جاءت إلى نيو أورلينز، لويزيانا، في أكتوبر 1888، وأسّست السّيرك الشّهير “سيرك الآنسة كليرمونت”.
وعلى خلاف السّيرك المعتاد، اشتهر هذا السّيرك بعروض “بيت الأشباح”، ويُعدّ أوّل عرض موثّق في هذا النّوع من الأداء المسرحي.
وفي نوفمبر 1888، رفعت كليرمونت دعوى تشهير ضدّ “والتر ميتي”، وتُعتبر هذه أوّل قضيّة موثّقة ترفعها امرأة ضدّ رجل، ما أحدث ضجّة كبيرة في الوسط المحليّ.
وبعد وفاتها، استمرّت القضيّة في أروقة المحاكم ، و تمكّن وكيلها القانونيّ، “ستيف ريفيرز”، من كسب القضيّة لصالحها.
في تلك اللّحظة، لم تستطع بولي وصف ما يجول في صدرها.
ولم تجرؤ على تصديق الأمر إلّا آنذاك:
لقد زارت القرن التّاسع عشر فعلًا.
لم يكن حلمًا، ولا هذيانًا.
لقد وُجدت في التّاريخ بالفعل.
وكان ذلك جيّدًا … أنّه حقيقيّ.
قالت في نفسها: طالما عدتُ مرّة، يمكنني العودة مرّة أخرى.
لابدّ أنّ هناك قناة تربط بين الزّمنين ، لكنّها لم تكتشفها بعد.
شاهدت بولي مزيدًا من أفلام الرّعب ، لكن دون جدوى.
فكّرت أنّ كلا مرّتي الانتقال ارتبطتا بنسخة الرّعب من شبح الأوبرا، فبدأت تبحث عنها مجدّدًا على الإنترنت.
لكنّها ارتجفت من البرودة …
لم تجد شيئًا.
لا وجود للفيلم.
تلك النّسخة الّتي صُوّرت في السبعينيّات، في زمنٍ لم تكن فيه الحقوق الحصريّة موجودة، كان من المفترض أن تكون متوفّرة في أيّ موقع فيديو.
لكنّها لم تجدها.
ولا حتّى سجلّات مشاهدته في هاتفها.
ذهبت إلى حقيبة التّسلّق، أخرجت هاتفها الاحتياطيّ، فتحته، فوجدت أنّ الفيديوهات المخزّنة لا تحتوي عليه.
وجدت المسرحيّة الغنائيّة فقط.
لكنّها شاهدتها بصبر ، ولم يحدث شيء.
دون أن تشعر، بدأ العرق البارد يكسو جسدها، كأنّ حجرًا ثقيلًا وباردًا استقرّ في معدتها.
… لماذا يحدث هذا؟
شعرت بولي أنّ الأمر عبثيّ.
لأنّها تذكّرت بوضوح شعور اليأس الّذي انتابها عندما ضُربت لأوّل مرّة بعصا الخادمة في السّيرك، عند انتقالها الأوّل.
كيف كانت تُواسي نفسها آنذاك؟
اهدئي.
اهدئي.
لا تذعري ، لا تيأسي ، لا تستسلمي.
ثمّ فكّري في محتوى ويكيبيديا – رغم أنّه لا يتعدّى بضعة أسطر، إلّا أنّه يدلّ على أنّ كثيرين تذكّروها حتّى بعد موتها.
بل إنّ “ريفيرز” كسب القضيّة عنها ، بعد وفاتها.
وحدهم من عاشوا ذلك يعرفون كم كان الأمر شاقًّا.
يجب أن أتماسك، وأفعل كلّ ما بوسعي … لأجد طريق العودة.
***
وفي الشّهر التّالي، ركضت بولي بين مواقع تصوير الأفلام والمكتبات، تجمع أيّ معلومات ممكنة عن السّفر عبر الزّمن.
وحين بدأت بالتّحقيق، صُدمت من الاكتشافات.
فالتّاريخ مليءٌ بالألغاز الغامضة الّتي ترتبط بالسّفر عبر الزّمن.
على سبيل المثال: في عام 1961، تمّ العثور على وثيقة تُدعى مخطوطة سيبيو، تعود إلى القرن السّادس عشر.
وبجانب معلوماتها عن المدافع والباليستيّات، احتوت على رسومات لتصنيع صواريخ.
بل إنّ المؤلّف تحدّث فيها عن مفاهيم مثل المركبات الفضائيّة، والوقود السّائل، وأجنحة الدّلتا، وهي مفاهيم لم تُطبَّق فعليًّا إلّا في برنامج “أبولو”.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 94"