لم ينبس إيريك ببنت شفة، وكانت سبّابته و إبهامه تلمسان ربطة اللّيل في قميص نومها.
وحين أدركت بولي أنّ هناك ما يُثير الشّك، كان الفستان الأخضر قد أصبح مُجعّدًا أيضًا، بل أكثر تجعّدًا من السّابق، بالكاد يُعرَف.
ومع اقتراب موعد مراسم الافتتاح، لم تُبالِ بألم جسدها، بل أمسكت بفستان مخمليّ أبيض، وارتدت معطفًا، ثمّ أمرت إيريك بصرامة أن يحملها إلى الأسفل.
وعندما وصلا إلى شقّة شارع “رويال”، كانت المراسم قد بدأت منذ مدّة.
وللمرّة الألف، شعرت بولي أنّ وسامة الرّجال قد تكون خادعة فعلًا.
لحسن الحظّ، كان أعضاء السّيرك يتمتّعون بكفاءة عالية، حتّى إن لم تكن هي و إيريك موجودين، فبوسعهم إخافة الجمهور حتّى يُطلقوا الصّرخات.
وقفت بولي على جانب المسرح بلا عمل، فشبكت ذراعها بذراعه، وأخذت تتجوّل في المدينة.
كان طويلًا على نحوٍ مبالغ فيه، ملامح نصف وجهه صارمة، أمّا النّصف الآخر فمغطّى بقناع أبيض. فكان كثيرون يلتفتون إلى رؤيته على الطّريق.
شعرت بولي بتوتّر عضلات ذراعه فجأة، وكأنّه على وشك ارتكاب مذبحة في أيّة لحظة، حتّى يتحوّل الطّريق إلى نهرٍ من الدّماء.
فسرعان ما وضعت ذراعيها حول عنقه وطبعَت قبلة على خدّه.
وعلى الفور، ارتخَت عضلاته، وهدأت ملامحه.
شعرت بولي بانحرافٍ خفيّ داخلها، إذ بدأت تستمتع بهذا الإحساس، بإمكانيّة التّحكّم في مشاعره.
وربّما بدأت تفهم لماذا بعض النّاس الّذين يُربّون الوحوش لا يستطيعون لاحقًا الاستغناء عنهم، مهما كانوا خطرين ولا يمكن السّيطرة عليهم.
لأنّهم لا يستطيعون مقاومة ذلك الإحساس …
أنّك وحدك من يستطيع تهدئته.
أنّك وحدك من يستطيع ترويضه.
سمِّه غريزة بدائيّة، أو رغبة دفينة في طبيعة البشر.
كان اتّكاله عليها، وثقته بها، يُرضيانها كثيرًا في الواقع.
وعند عودتهما إلى المنزل، فوجئت بولي برسالة من “تسلا”، تُفيد بأنّ المولّد اجتاز اختباراته، وسيُسلَّم قريبًا إلى مقرّ سكنها.
وبمجرّد أن أدركت أنّها ستتمكّن من استخدام هاتفها مجدّدًا، غمرتها سعادة غامرة، وقرّرت أن تجرّ إيريك معها لمشاهدة فيلم تلك اللّيلة.
ورغم أنّه لم يُظهر ذلك يومًا، كانت بولي تعرف أنّه دائمًا ما يشعر بالفضول تجاه زمنها، الّذي يعجز عن تخيّل تفاصيله.
ولحُسن الحظّ، كانت قد خزّنت عدّة أفلام على هاتفها مُسبقًا، ومع وجود بنك الطّاقة في حقيبتها، فإنّ الطّاقة ستكفي حتّى نهاية الفيلم.
لذا، وبعد العشاء، أوقفت إيريك عن غسل الصّحون، وجذبته إلى السّرير، وفتحت الهاتف أمامه.
“فلنُشاهد فيلمًا.”
توقّف للحظة وقال: “فيلم؟”
فتذكّرت بولي أنّه، رغم ولادة أوّل فيلم في هذا العصر، فإنّ مفهوم “السّينما” لم يكن منتشرًا بعد. كان لا يزال أمام الإخوة لوميير حوالي سبع سنوات ليعرضوا أفلامهم أمام العامّة.
فشرحت له بإيجاز مبدأ الفيلم، وذكرت أيضًا تاريخ أوّل عرضٍ رسمي، ثمّ ابتسمت قائلة: “حين يحين الوقت، يمكننا الذّهاب إلى باريس لمشاهدتها.”
نظر إيريك إلى هاتفها، وأطلق همهمة منخفضة.
فتحت بولي تطبيق الفيديو، لتجد أنّ جميع الأفلام المخزّنة كانت أفلام رعب. لم يكن بينها فيلم رومانسيّ محترم واحد، فشعرت بحرجٍ خفيف يتصبّب عرقًا.
اختارت أخيرًا فيلم رعب من إنتاج “نتفليكس” و ضغطت على زرّ التّشغيل.
وكان صوت الهاتف رائعًا بشكلٍ مدهش، فحتى دون مكبّرات صوت، منحها إحساسًا مجسّمًا قويًّا.
بدأت الشّارة الافتتاحيّة بسلسلة شعارات شركات الإنتاج، و هي لقطات مملّة بالنّسبة لعصرها، لكن إيريك كان يشاهدها بتركيز بالغ.
ثمّ بدأت موسيقى حزينة ومريبة، وبدأت أسماء فريق الإنتاج تظهر ببطء.
وأوّل ما ظهر على الشّاشة كان صورة بتأثير أفلام قديمة، مع ومضات بيضاء متقطّعة.
ثمّ انسحب الكادر تدريجيًّا، لتظهر شاشة تلفاز قديم تُعرض عليها نشرة إخباريّة.
وقبل أن يسأل، بادرت بولي بالقول: “هذا تلفاز … أظنّه اختُرع بعد ثلاثين عامًا من الآن؟ لستُ واثقة تمامًا.”
تأمّل إيريك الصّورة صامتًا للحظة، ثمّ قال: “والشيء في يدكِ … هو تلفاز أيضًا؟”
ردّد الكلمة “تلفاز” بوضوح شديد بعد أن حفظها بسرعة، لكنّ الحيرة ما زالت ظاهرة في نبرته.
قالت بولي: “هذا … يُدعى هاتفًا محمولًا. في البداية، كان مجرّد وسيلة للاتّصال، لكنّه تطوّر لاحقًا إلى آلة متعدّدة الوظائف—بإمكانها إجراء المكالمات، ومشاهدة الأفلام أيضًا”
لم يُعلّق.
كانت أشياء كثيرة غريبة تنهال أمام عينيه دفعة واحدة، ولم يبدُ قادرًا على استيعابها كلّها.
على الشّاشة، كانت البطلة وصديقاتها يقدن السّيارة إلى بلدة نائية.
وكان الطّقس حارًّا، والممثّلات يرتدين ملابس خفيفة—ليست فاضحة، بل مجرّد ملابس صيفيّة عاديّة: قمصان قصيرة وسراويل.
وما إن ظهرت لقطة بعيدة تُظهر ملابسهنّ بوضوح، حتّى أغمض إيريك عينيه بسرعة، وأدار وجهه.
ابتسمت بولي، ولفّت ذراعيها حول عنقه، ودلّكت خدّها بخدّه: “أحمق، هذا لباس عاديّ جدًّا في زمني.”
لكنّه أبقى عينيه مغمضتين، وقال بصوت لا يمكن تمييز نبرته: “توقّعت منذ زمن أنّكِ من منطقة ذات عادات منفتحة”
ففي كلّ الأحوال، كانت قصص الرّعب سطحية ومتشابهة، والجانب المُشوّق فيها هو فقط مشاهد الدّم والإثارة.
وهكذا مرّ الفيلم بأكمله على نحو سريع.
وفكّرت بولي في نفسها: لو كنتُ أعلم ذلك، لحمّلت بعض الأفلام الّتي فيها رجال وسيمون و نساء جميلات.
ومع ذلك، فإنّ أكثر جزء مشوّق كان حين اقتحم القاتل حامل المنشار الكهربائي الحافلة، وبدأ المجزرة.
ومنذ قدومها إلى القرن التّاسع عشر، لم تشهد مشهدًا بصريًّا وسمعيًّا بهذا القدر من الإثارة.
فتنهّدت برضى، كأنّها قد شبعت تمامًا.
وفي اللّحظة التّالية، أمسكت يدٌ بذقنها، وأدارت وجهها نحوه.
حدّق بها إيريك طويلًا ، ثمّ سأل فجأة: “هل أنتِ متحمّسة قليلًا … بسبب مشاهد القتل في الفيلم؟”
اللعنة، لقد كشفها.
و لئلّا يتفوّه بما يشبه: “أستطيع فعل ما هو أفضل” ، أسرعت بولي بعناق عنقه ، و طبعَت قبلة على شفتيه: “مستحيل … كلّ ذلك بسببك أنت …”
لكنّ بقيّة كلماتها التهمها هو.
وربّما بتأثير المشاهد الدّمويّة أيضًا، فقد صار يحدّق بها بعينين باردتين، بينما كانت أفعاله شديدة، حادّة، تكاد تكون جنونيّة.
ولم يُغلق الهاتف، بل بدأ الفيلم التّالي تلقائيًّا.
وبينما كانت أصوات سرير النّحاس ترتطم بالجدار، بدأت موسيقى المقدّمة، وأُضيئت دار أوبرا باريس، وكانت البطلة تتدرّب على أداء مقطعٍ أوبراليّ، ثمّ بدأ الجميع يشعر بأنّ ثمّة أمرًا غريبًا …
لاحقًا، لم تتذكّر بولي شيئًا.
وكأنّ وعيها قد تبعثر، ولم يبقَ في ذهنها سوى فكرة واحدة—بطّاريّة الهاتف توشك على النّفاد.
لم تنم يومًا بهذا العمق والهدوء. و كأنّها كانت ميّتة.
و بمجرّد أن خطر لها أنّها قد تكون ماتت ، انقطع نفسها لعشرات الثّواني ، و عمّ الصّمت أذنيها ، حتّى توقّفت عن سماع صوت قلبها ، و عروقها ، و أعضائها.
و حين فتحت عينيها مجدّدًا، رأت سقف سيّارة.
يبدو أنّها كانت داخل سيّارة.
… لماذا أنا داخل سيّارة؟
رأتها صديقتها من خلال المرآة الدّاخليّة، فقالت مازحة:
“تنامين نوم الأموات. ناديتك ساعتين وما صحوتِ … أكنتِ تسرقين البيوت في اللّيل؟”
أغلقت بولي عينيها بإحكام، وشعرت بخفّة مرعبة في قلبها.
وبعد لحظة، نظرت إلى راحتيها.
وحين رأتهما بوضوح، تسارعت دقّات قلبها أكثر، كأنّها كانت تسقط من علُ في حلمٍ لا نهاية له.
– كانت هاتان يداها.
لقد عادت.
على مدى الأشهر الماضية، كانت يدا كليرمونت قد تحسّنتا كثيرًا. لم تعودا خشنَتين كما كانتا بعد الانتقال مباشرة، و بدأت التّقرّحات تتلاشى تدريجيًّا، وأصبحت بشرتها ناعمة.
لكنّ ظروف القرن التّاسع عشر كانت محدودة، ومهما كان الاهتمام، فلا مقارنة مع يديها الأصليّتين.
كانت يدا بولي جميلتين بطبيعتهما، أظافر نظيفة ورديّة، وبشرة بيضاء ناعمة، ومفاصل ذات انحناءات رشيقة.
حين انتقلت لأوّل مرّة، كانت تحلم بهاتين اليدين. لكن لاحقًا، اعتادت على يدَي كليرمونت ، حتّى نسيت كيف كانت يداها السّابقتان.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات