فانهمر هواءٌ بارد نقيّ إلى الغرفة، وتسلّلت بعض قطرات المطر أيضًا إلى الدّاخل.
احمرّت أذنا بولي على الفور، وسرعان ما حثّته على أن يذهب للاستحمام.
لكنّه مدّ يده و أمسك بذقنها.
رغم أنّ النّافذة كانت مفتوحة، والهواء البارد يتدفّق، إلّا أنّ الغرفة أصبحت نصفها باردة رطبة، ونصفها حارّة يابسة، لكنّ الأجواء ازدادت خنقًا.
ثمّ أمال رأسه قليلًا، وفتح فمه، و قبّلها.
كاد قلب بولي يتوقّف.
من الواضح أنّه لم يكن هادئًا كما بدا، فقد احمرّت أذناه.
“إن كنتِ تحبّين هذا” ، نظر إليها و قال بصوتٍ منخفض ، “فبوسعي أن أفعله كلّ يوم”
“…”
ومن يحتمل هذا أصلًا؟
كان قميصه المبلّل يلتصق بجسده، كاشفًا عن الخطوط المتناسقة و المشدودة لعضلات صدره ، و بدت عضلات بطنه وأوردته أيضًا من خلال القماش الرّقيق.
“… اذهب للاستحمام، كن جيّدًا.”
وبعد أن نجحت أخيرًا في دفعه إلى الحمّام، نهضت بولي من السّرير وارتدت منامتها الدّافئة.
وبالمناسبة، فمنذ أن أصبحا زوجين، صارت ملابسها الّتي تخلعها – فساتين، تنّورات داخليّة، سراويل، جوارب، قفّازات، مشدّات صدر … تُغسل كلّها على يديه، وتُجفّف، ثمّ تُدفّأ بتعليقها على رفّ المدفأة.
كانت بولي تفتقر إلى الصّبر في غسل الملابس. و قبل أن توظّف العجوز فريمان ، كانت ترميها مباشرةً إلى المغسلة.
لكن عمّالات الغسيل كنّ يجمعن الملابس المتّسخة ويغسلنها دفعةً واحدة، بلا تمييز بين الذّكر والأنثى، أو بين الأقمشة.
وعندما تُعاد لها، كانت دومًا تفوح منها رائحة مبيّض حادّة.
أمّا الملابس الّتي غسلها إيريك، فكانت نظيفة، بلا رائحة.
وكانت مشاعر بولي متضاربة دائمًا حين ترتدي ملابس غسلتها يده.
بعيدًا عن الإحراج والانزعاج الأوّلي، لم تواجه الكثير من المصاعب في القرن التّاسع عشر ، و يرجع ذلك في معظمه إلى إيريك.
فهو يهتمّ بها بدقّة تكاد تكون مرضيّة.
نظرًا إلى رطوبة نيو أورلينز وكثرة الحشرات فيها، كان يفكّك سريرها أحيانًا ليفحص الخشب تحسّبًا لانتشار الحشرات ، و يغسل حذاءها بيده، ويجفّفه عند المدفأة.
كلّ صباح، كان يمدّ يده داخل بطانة تنّورتها ليتأكّد من أنّها جفّت تمامًا.
وحتّى في العصر الحديث، لم تكن بولي لتملك هذا القدر من الصّبر ؛ فمجرّد أن تجفّ ملابسها بنسبة معقولة، كانت تكرمها برميةٍ في الخزانة.
وكان يُرضي أيضًا، ويعتني بها قدر الإمكان في ما يتعلّق بالطّعام.
لم يكن لديه تفضيلات خاصّة في المذاق ؛ فالأطعمة الّتي يأكلها كانت أقرب إلى علفٍ منها إلى وجبة.
وحين اكتشفت بولي ذلك، بدأت تطعمه بنفسها- يخنة اللّحم الّتي أعدّتها، شريحة اللّحم الّتي قلَتها، جراد البحر الّذي اصطادته بنفسه، وحتّى الفواكه الملفوفة في الكريب، كانت تدسّها في فمه و تدلّله.
لم تكن شهيّته كبيرة، لكنّه كان يأكل كلّ ما تطعمه، وكان يُنهي ما تبقّى من طعامها أيضًا.
وبفضل ذلك، نادرًا ما رأت الطّعام يفسد، وكانت الأطباق تتنوّع كلّ يوم.
وحاولت بولي بدورها أن تعتني به. لكن، سواء بسبب براعته في المبادرة، أو بسبب أمرٍ آخر، كانت الأمور تنتهي دومًا بأنّه هو من يعتني بها.
فباستثناء حبّه الّذي لا يعرف حدودًا، لم يكن بحاجة إلى أن تعلّمه شيئًا.
ورغم فارق العمر الواضح بينهما، كانت هي الطّرف الّذي يتلقّى الرّعاية.
وكانت بولي لا تملك سوى أن تشعر بالخجل وهي تستمتع بذلك.
***
مرّت الأيّام، وعاد كلّ شيء إلى سابق عهده.
لم تعد مشاعر إيريك شديدة التطرّف كما كانت، لكنّه ما زال يراقبها في كلّ لحظة.
تذكّرت حين بدأت تتقرّب منه، كم كان يكره المرايا، ولم يكن يحتفظ بأيّ شيء يعكس صورته؛ حتّى شفرات خناجره كانت مطليّة بالرّمل.
أمّا الآن، فقد كانت تصطدم بنظراته في كلّ سطح عاكس – طلاء الخزانة اللّامع، زجاج أبواب المكتبة، انعكاس الأواني الخزفيّة؛ كانت نظراته في كلّ مكان، كظلٍّ لا يفارقها.
كلّ قطعة أثاث، كلّ مرآة، حتّى انعكاس صورتها في كوب الماء، أصبحت أدوات مراقبة بيده.
لم تكن بولي تعرف إن كان هذا التغيّر جيّدًا أم سيئًا.
ربّما جيّد.
فهو لم يعد يهرب من رؤية وجهه في المرآة، وأحيانًا، حين تقبله، كان يحتضنها ويقودها نحو المرآة.
***
ومرّ أسبوع آخر، وتمّ تجهيز الشّقّة بالكامل، وزُيّنت الغرفة في الطّابق العلويّ كما صمّمتها بولي.
وفي ذلك الوقت، لاحظت بولي أنّ إيريك يبدو أطول ممّا سبق.
… تبًّا، ماذا كان يدور في ذهن ذلك المخرج عندما جعل شخصيّته بهذه الطّول المخيف؟
في الواقع، لم يكن إيريك حالة فريدة.
ففي كثير من أفلام الرّعب، يكون البطل بطولٍ عاديّ في الفيلم الأوّل، لكن كلّما ازداد عدد الأجزاء، تغيّر الطّول حسب مزاج المخرج، وبعضهم بلغه المترين.
ولم تجد بولي ما تفعله سوى أن تهمس بالدّعاء في قلبها ألّا يطول أكثر؛ ففرق الطّول الحاليّ كان ساحقًا بما يكفي.
ولسببٍ ما، حين فكّرت مجدّدًا بنسخة الرّعب من شبح الأوبرا، اجتاحها شعور معقّد.
كأنّ الفيلم شيء، والحياة شيء آخر.
وفي هذه اللّحظة، كانت داخل الحياة، لا داخل فيلم.
الفيلم مجرّد قصّة، تجربة مثيرة في حياة الإنسان، أمّا حياتهما فقد عادت إلى هدوئها.
في ذلك اليوم، استيقظت بولي باكرًا- فالمزلجة الجديدة ستُفتتح في المساء.
خلعت منامتها، وقبل أن ترتدي الفستان الجديد، كانت يدٌ قد أمسكت بها بالفعل.
استدارت بولي، فالتقت بعيني إيريك الذهبيّتين.
رغم مرور الوقت منذ أن أصبحا سويًّا، إلّا أنّ معاملته لها ظلّت في طور شهر العسل-لا يشبع من النّظر إليها، ولا من لمسها، ولا من ضمّها.
وبالطّبع، تمّ جرّها إلى الخلف، و تجعّد الفستان الجديد وسط المعركة.
وللإنصاف، لم تكن المسؤوليّة كاملة عليه.
ففي هذا الأمر، لم تكن بولي أبدًا سلبيّة؛ بل كانت تبادر أحيانًا.
لكنّها ما إن تبادر قليلًا، حتّى يتحوّل هو إلى وحشٍ كاسر، كأنّه مفترس يعضّ حلق فريسته، يغرس أنيابه ببطء في لحمها، ولا يُفلتها إلّا إذا تدفّق منها الدّم.
وعندما تراجع المفترس أخيرًا، كان الوقت قد قارب الظّهر.
بعد أن انتهت من الاستحمام، نظرت بولي إلى الفستان و همست بقلق: “ماذا سأرتدي اليوم…”
كان إيريك قد ارتدى ملابسه ويعدّل أزرار كمّه.
نظر إليها وقال بلا مبالاة: “ألم يُرسل لكِ ميتي فستانًا؟”
صُدمت بولي: “من هو ميتي؟”
“الشّخص الّذي كنتِ ستقاضينه” ، قال ببرود ، “نسيتِ؟”
“آه” ، بدأت الذّكريات تعود.
كان ميتي ، على ما يبدو، قائد أولئك السّادة الثّلاثة الّذين دخلوا معها في جدال صحفي، ولاحقًا لاحقوها.
“متى أرسل لي فستانًا؟”
توقّف إيريك لحظة، ثمّ مشى إلى الخزانة وسحب منها فستانًا أخضر فاتحًا.
والآن تذكّرت بولي كلّ شيء.
في ذلك الوقت، ولكي تستدرج إيريك، تظاهرت بقبول دعوة ميتي وتناول العشاء معه.
وفي اليوم التّالي، وصلتها هديّة، صندوق يحوي فستانًا أخضر، ومعه بطاقة كتب عليها تحديدًا: “هذا الأخضر صُبغ بالغردينيا والنّيلة، غير سامّ.”
وكانت بولي قادرة على الجزم بعينيها المغلقتين أنّ إيريك هو من أرسل الفستان ؛ فكيف لميتي أن يكون بهذا القدر من التّأنّي والرّقّة؟
لكن لاحقًا، حين واجهت إيريك، أنكر ذلك وسخر منها بنبرة باردة.
وكانت قد همّت بفضح كذبته، لكنّها عدلت عن الأمر، ورفرفت برموشها، وتظاهرت بالدهشة: “ذاكرتك ممتازة، كنتُ قد نسيتُ هذا الفستان تمامًا!”
فشدّ إيريك على الفستان في يده.
سارت بولي نحوه، وانتزعت الفستان الأخضر من يده، ورفعته أمام جسدها لتقارنه: “لا أعلم كيف فعلها ميتي ، لكنّ الأخضر النّباتيّ لم يبهت رغم مضيّ الوقت.”
نظر إليها إيريك فجأة و قال:
“ألستِ خائفة من أن يكون قد خلطه بالزّرنيخ؟”
بولي: “هل يمكن أن يحتوي الأخضر الفاتح على زرنيخ؟”
“من يدري” ، ثمّ اقترب منها، ووضع يديه على كتفيها، وراح إبهامه يداعب عظم كتفها بلا أن يُلحظ: “لو كنتُ مكان ميتي، وأعلم أنّني لا أستحقّك، لربّما خلطت الزّرنيخ ببطانة الفستان، حتّى يتقرّح جلدكِ، ولا تخرجي من البيت مجدّدًا.”
“…”
لولا ما رأته منه في الآونة الأخيرة، كيف يعاملها كجوهرة، حتّى أنّه لا يدعها ترتدي حذاءها بنفسها، لربّما صدّقت جنونه.
ولم تستطع بولي تمالك نفسها، فانفجرت ضاحكة: “أحمق، أنا أعلم أنّك أنت من أرسله!”
لم يجب إيريك.
فاستدارت نحوه، ولفّت ذراعيها حول عنقه، و طبعت قبلة على خدّه: “من غيرك سيُعاملني بهذه الطّريقة؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 92"