منذ “وفاتها” ، لم يشعر مطلقًا بإحساس الحياة مجددًا.
بعد عودتها ، لم يقتصر الأمر على نشاط ذهنه من جديد، بل بعثت رغباته أيضًا، وأيقظت بداخله حماسًا واضطرابًا غير مسبوق.
لمجرد التفكير في أنها ستعيش معه في هذا الشقّة إلى الأبد، ولن تستطيع الهرب من تشابكهما … كان يشعر بحماسٍ شديد لدرجة أن جسده بأكمله أصيب بالخدر وكأن تيارًا كهربائيًّا اجتاحه، حتى كاد أن يختنق.
لم تكن تدرك ما الذي يدور في رأسه، وظنّت أنها مجرّد إقامة قصيرة هنا.
لم تكن تعلم حتى أنّه بعد “وفاتها”، قام بنبش قبرها، وفتح نعشها، وأمضى ما يقارب العام ونصف في الغرفة ذاتها مع جثّتها.
في تلك اللحظة، بدا وكأن بولي تنهدت بصوتٍ خافت.
فكّر ببرود: ما الذي يدعوها للتنهيد؟
هل لأنها اكتشفت حقيقته وبدأت تفكّر في طريقة للهروب—
و في اللحظة التالية ، دوّى صوت بولي في أذنيه ، بنبرة تحمل شيئًا من العجز: “إذًا ، أنتَ من نبش قبري و ظلّ مع الجثّة لعدّة أشهر؟”
إيريك خفَض رأسه، ونظر إليها مذهولًا.
وضعت بولي ذراعيها حول عنقه، ورفعت يدها لتنتزع قناع الجمجمة عن وجهه، ثم قبّلته على شفتيه: “…أحمق ، كل ما فعلتَه يمكن العثور عليه على الإنترنت. الكثيرون يتساءلون عمّن أغضبته لدرجة أن ينبش قبري، لكنني عرفتك من النظرة الأولى.”
حدّق إليها، وقد اشتعلت نظراته بجنون أكثر من أيّ وقت مضى، كأن لهيبين ذهبيّين يتراقصان في عينيه، بحرارةٍ كادت تحرق وجهها.
“ألا تلومينني؟”
وحين قال ذلك، بدا وكأنه بلغ أقصى ما يتحمل، حتى أنه فقد السيطرة على عضلات وجهه. ومرّت رعشة عصبيّة على ملامحه، جعلت تعابيره غريبة ومرعبة.
لكن الجميع سيخافونه … ما عداها.
قبّلته بولي مرة أخرى: “لماذا ألومك … لو كنتَ أنت من يرقد في القبر، أظن أنني كنتُ سأفعل الأمر نفسه.”
نظر إليها إيريك ، و قلبه يدق بعنف لم يسبق له مثيل ، وخدّاه متوردان بفعل اندفاع الدم ، و للحظةٍ خُيِّل له أنه يحلم مجددًا.
لو لم يكن حلمًا … كيف تعود إلى جانبه؟ وكيف تحتمل كل هذا الجنون منه؟
انتهاك حُرمة الموتى خطيئة عظيمة، ولا ديانة يمكن أن تتسامح مع مثل هذا الذنب.
لكنها قالتها بنبرةٍ هادئةٍ وبسيطة: بأنها ستفعل الأمر ذاته.
سواء في الواقع أو في مذكّرتها، كان يعلم تمامًا أنه إنسان دنيء، مقزز، وبائس.
ومن البداية، كانت تعرف وجهه القبيح، وتاريخه المظلم، وتعرف بأنه شخصٌ إذا أحبّ لن يترك، ومع ذلك وقعت في حبّه. بل وتخلّت عن حياةٍ مريحة بعد أكثر من مئة عام … لتعود إليه.
… لو لم يكن حلمًا ، كيف يمكن لشيءٍ جميل كهذا أن يحدث له؟
لمّا فكّر بذلك، شعر بدوار خفيف، وجسده يشتعل بحرارةٍ خانقة، وخطر في رأسه خاطرٌ خطير.
أراد أن يرى … إلى أيّ حدٍّ يمكنها أن تحتمله.
ماذا لو كشف لها عن كل تلك الأفكار السوداء التي تعجّ في قلبه … هل ستوقظه من حلمه؟
خفض إيريك رأسه، وألصق جبينه بجبهتها، وحدّق فيها بعمق: “قولي لي … لو قمتُ بخياطة جسدك على جسدي بعد موتك … هل نظل معًا في الحياة المقبلة؟”
“… هاه؟”
حاولت بولي أن تتمالك نفسها لكنها لم تستطع: “… اغرب عن وجهي.”
لكن ما إن شتمته، حتى زاد وجهه حماسًا، وارتسمت في عينيه بهجة غريبة، عميقة، ومقلقة، و صدره راح يعلو و يهبط بعنف.
وبولي، حتى لو لم ينطق بحرف، كانت لتفهم ما الذي يدور في ذهنه … فكيف وقد قال كل هذا الهراء.
…من الواضح أنه ألّف أشياءً في رأسه، وراح يختبر مدى احتمالهـا له.
وفي تلك اللحظة، لم يكن هناك سوى حلّ واحد للتعامل مع شخصٍ كهذا—
رفعت بولي يدها وربّتت على وجهه بخفة: “كفى هراء. إن أردت أن تعيش معي، فيجب التخلص من هذا التابوت.”
وعندما صفعته، عاد وجهه إلى طبيعته، وانحنى يغمر وجهه في راحة يدها، مستنشقًا بعمق.
مضت ثلاث سنوات، ويبدو أنه قد ازداد طولًا من جديد، حتى بات عليه أن ينحني قليلًا ليُخفي وجهه بين كفّها.
رغم أنها نفسها قد ازداد طولها عشرة سنتيمترات منذ ذلك الحين.
بولي لم تعد تجرؤ حتى على سؤاله عن طوله الحالي.
فعندما تركته كان قد بلغ الستة أقدام وخمس إنشات … فهل تجاوزها الآن؟
أن يزداد طول شخصٍ عادي سنتيمترًا واحدًا يُعدّ أشبه بالمستحيل، لكنه هو … أضاف إنشًا كاملًا إلى المتر و خمسة وتسعين.
بولي تمنّت لو أن هذا الإنش نبت في جسدها بدلًا عنه.
عندها فقط، لما كان الفارق الجسدي بينهما مزعجًا لهذه الدرجة.
لكن التابوت كان ضخمًا جدًا بحيث لا يمكن التخلّص منه في الوقت الحالي.
فما كان من بولي إلا أن أمرته بإغلاق باب غرفة النوم ، وألا يفتحه حتى يتم إخراج التابوت.
وأطاع إيريك أوامرها دون أيّ اعتراض.
وما إن اختفى التابوت عن ناظريها، حتى شعرت بولي براحةٍ كبيرة واستقرّت في شقة البحيرة مطمئنة.
فهي لم تكن من هواة الاختلاط بالناس.
ودائمًا ما كانت تشاهد تحديات “ابقَ في المنزل مئة يوم مقابل مئات آلاف الدولارات” و تتساءل: أين يمكنني التوقيع؟ لماذا لم يعرض عليّ أحد شيئًا كهذا؟
حتى في رحلاتها، كانت تمكث في الفندق معظم الوقت.
مجرّد التفكير في أن عليها مغادرة الغرفة لمشاهدة المناظر الطبيعية، كان يطفئ حماسها.
على سبيل المثال … رغم أنها أقامت طويلًا في نيو أورلينز، لم تفكّر يومًا في زيارة المدن المجاورة.
بل وحتى مع علمها أن تسلا و أديسون يتقاتلان في نيويورك، لم ترغب في الذهاب.
لأنها ببساطة لا تبالي.
وبولي تظن أن السبب ربما يعود إلى والديها، اللذين كانا يتركانها دومًا ويسافران وحدهما حين كانت صغيرة.
وعندما كبرت قليلًا وبدأت تبدي اهتمامًا بالسفر … رماها والداها عند أقاربٍ في أمريكا.
ومنذ ذلك الحين، باتت تكره كلّ شيءٍ اسمه “معالم بشرية غريبة”.
***
خلال اليومين التاليين، استكشفت بولي كامل أرجاء الشقة.
فبالإضافة إلى غرفة المعيشة، وغرفة النوم، والحمّام، والمرحاض، وحديقةٍ صغيرة … كانت هناك أيضًا غرفة موسيقى فسيحة للغاية.
وعند دخولها، كان أول ما جذب انتباهها هو الأرغن، الضخم لدرجة أنه احتلّ جدارًا كاملًا، مهيبًا أنيقًا كالمعابد، يضمّ أربع صفوف من مفاتيح العزف، وآلاف الأنابيب.
بولي لم تشاهد هذا النوع من الأرغن سوى في الكنائس.
وعندما يُعزف عليه، يصدح صوته جليلًا مهيبًا يتردّد صداه عبر البلدة.
كانت قد تعلّمت عزف البيانو سابقًا، الذي لا يملك سوى صفّ مفاتيحٍ واحد، ورغم ذلك كانت تشعر أن عقلها ويديها لا تكفيان.
فكيف بآلةٍ كهذه الأرغن، التي تتطلب تشغيل أربع صفوف من المفاتيح باليدين، مع التحكّم بدواسات الأرجل، وأزرار تغييرات الصوت.
علمًا أن دواسات الأرغن ليست كتلك التي في البيانو — التي لا يتجاوز عددها ثلاثة — بل عددها اثنان وثلاثون.
وعازف الأرغن المحترف يمكنه عبر تبديل الأزرار أن يبتكر أنغامًا أضخم من الأوركسترا السيمفونية.
بولي لم تستطع أن تتخيّل أبدًا كيف يمكن لشخص أن يتحكّم في آلةٍ كهذه.
وبعد العشاء، منعت بولي إيريك من غسل الصحون ، و التفتت لتضع ذراعيها حول عنقه، وجلست في حضنه:
“اترك الصحون … أريد سماعك تعزف الأرغن.”
لم يكن هناك سواهما في المكان.
ولم يكن يرتدي قناعًا بعد الآن … لكن العادات لا تُكسر بسهولة — فحين اقتربت منه، استدار ليبعد وجهه عن نظراتها.
“لماذا؟”
رمشت بولي بأهدابها.
“أرغب أن أسمع عزف زوجي … أليس هذا مسموحًا؟”
وكانت هذه العبارة كفيلةٌ بتحطيم أي مقاومة.
توقف ينظر إليها لحظة ثم أومأ موافقًا.
لاحظت بولي أنه لم يقتصر الأمر على خلع القناع، بل حتى ملابسه لم تعد ضيقة كما في البداية.
بل وفي الآونة الأخيرة، قلّما كان يرتدي القفّازات، وكان قميصه الأبيض يُزرّر إلى منتصف الصدر، كاشفًا عن عضلاتٍ بارزة قليلًا.
وأدركت حينها أن كلّ هذا كان بفضلها.
ارتعشت.
تقدّم إيريك إلى غرفة الموسيقى، وجلس أمام الأرغن، وخفّض مستوى الصوت إلى أدناه.
ورغم أن الغرفة كانت فسيحة، إلا أن الأرغن كان سيُحدِث دمارًا سمعيًّا في مكانٍ ضيّق كهذا لولا خفض الصوت.
لكن إيريك سأل فجأة: “صوته منخفض جدًا … هل أنت متأكدة أنكِ تريدين سماعه؟”
أصاب بولي بعض الارتباك، وأمعنت التفكير ثم لمحت شيئًا مريبًا.
هو لا يعلم أنها تجيد العزف ولا يعلم أنها تغني ولا يدرك أن لديها فهمًا جيّدًا بالموسيقى.
لذا، لم يكن يعلم أن مفاتيح الصوت لا تغيّر الطبقة فقط بل كذلك مستوى الصوت.
وبما أنها تعرف شخصيته أكثر من أيّ أحد أدركت.
…هذا المجنون، على الأغلب يظن أن طلبها هذا حيلة … كي يستغل الأرغن لبثّ إشارة لمن في الطابق السفلي، أليس كذلك؟
ضحكت بولي في سرّها، وغضبت لكنها لم تُظهر شيئًا.
“طبعًا.”
فوضع يديه على المفاتيح، وضغط نغمة ثم أخرى ثم بدأ يعزف ارتجالًا.
ومع تخفيض الصوت، باتت نغمة الأرغن ليست كتلك الرعود العملاقة بل أشبه بنسيمٍ خفيف، يملك خفّة ونقاء الناي، ويحافظ في الوقت ذاته على قدسيّة الأرغن المهيبة.
وبدأت الموسيقى بنغمٍ كئيبٍ رماديّ، يخيّم كسحابةٍ ثقيلة.
ثم بدأ يكرر النغمتين بذات اليد، بينما اليد الأخرى تغيّر الأزرار.
وهكذا، أصبحت طبقات الموسيقى أعمق كالنار في الليل نارٌ يتوهّج وهجها وسط العتمة.
وفي اللحظة التالية… لا أحد يدري أي زرّ قد ضغطه… لكن الأرغن فجأة أطلق أنغامًا رقيقة تشبه صوت القيثارة… كانت أشبه بطلوع الفجر يمزّق ظلمة الليل.
وتذكرت بولي جملة أستاذها في البيانو: ‘أن تضع أصابعك على مفاتيح صحيحة لا يعني أنك تجيد العزف.’
فالعزف إعادة خلق للموسيقى.
إذ إن قوّة ضغط كل إصبع تختلف وتمنح إحساسًا مختلفًا.
ولهذا لا يمكن للآلات أن تحلّ مكان العازفين — فالأجهزة تعجز عن التعبير عن تغييرات اللمسة الطفيفة.
ورغم أن الأرغن لا يتأثر بقوّة الضغط إلا أن بولي استمعت، ولمست في عزف إيريك تحكّمًا مذهلًا بجماليات النغمة كأن الضوء والظل يتعاقبان بين الفجر والمغيب.
وبولي نظرت إليه.
رأسه منحنٍ قليلًا، وتعبيره في منتهى التركيز.
وما إن يعزف حتى تخفت كل صلابة كتفيه وذراعيه، كأن الموسيقى لا تنبع من أطراف أصابعه بل من دمه.
وفي النهاية خفتت النغمات تدريجيًّا وصارت أبطأ تحمل دفئًا طفيفًا يشبه الحنان الحارق.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 105"