راودها خاطرٌ غائم: أما زال يحتفظ بمتاهته تحت الأوبرا؟
… نعم. عامان وقتٌ كافٍ لبناء مسكنٍ على ضفاف البحيرة ، تمامًا كما في الرواية الأصلية.
لكن … لماذا لا يسمح لها بفتح عينيها؟
عقل بولي كان صافيًا ، لكنها لم تستطع فتح جفنيها لسببٍ واحد: لأنّه لا يريد.
و لماذا؟
لم تعرف كم مضى من الوقت ، و حين استطاعت أخيرًا أن تفتح عينيها — كانت قد وجدت نفسها على متن قاربٍ خشبي.
غطّى جسدها معطفُ إيريك القرمزي الداكن.
و أمامها … بحيرة قاتمة، مياهها خضراء معتمة، تشبه نباتًا سامًّا، تُبعث على الرهبة.
كان إيريك يجلس جوارها، يمسك مجاديف خشبية، يجدّف بهدوء وثباتٍ نحو مركز البحيرة.
وحين رآها تستيقظ، مدّ يده يتحسس جبينها، وقال بصوتٍ خفيضٍ مطمئن: “اقتربنا.”
لم تسأله عن المكان.
و استسلمت للنوم مجددًا.
بعد دقيقتين …
ارتطم القارب بالشاطئ.
وحين همّت بالنهوض، رفعها إيريك عن المقعد، ووضعها على اليابسة.
نظرت حولها و ضحكت: “أعتقد أنني وصلت لقريتك الأصلية.”
ابتسم إيريك ابتسامة مبهمة: “أكنتِ تعرفين أنني سآتي بكِ إلى هنا؟”
ترددت بولي ، ثم قرّرت ألا تخفي:
“أنت تعلم … أنني لست من هذا الزمان. حضرتُ إلى هنا بسبب فيلم رعب … و أنت بطله”
ظل صوته أكثر هدوءًا مما توقعت: “أعرف.”
“هذا الفيلم مأخوذ من رواية … و الرواية تحكي حياتك كاملة.”
“أعرف.”
تنهدت بولي: “يقول … إنك جبتَ أوروبا، وبنيتَ قصرًا آليًا لملك فارس، و تعلّمت حيلة الحبل الهندي من شخص يسمى …”
قال بهدوء: “لاسو بنجاب.”
ضحكت و هي تتابع: “في الرواية … شاركت في هندسة أساس دار الأوبرا، وأقمت مسكنًا على ضفاف بحيرةٍ تحت الأرض. لكن الآن… لا أفهم لِم تبنيه.”
نظر إليها، وابتسم ابتسامةً خفيفة: “لأحبسكِ فيه.”
تجمّدت.
قال بهدوء: “خلال غيابكِ … قرأتُ كتبًا كثيرة ، و تبادلتُ رسائل مع تسلا خاصتكِ”
… تسلا “خاصتها”؟
كادت بولي تضحك.
لكن حين همّت بالكلام، وضع إصبعه على شفتيها.
رغم العتمة … شعرت بثقل نظراته.
ثقلٌ مظلمٌ مشحون … كقيدٍ على عنقها، يُثقل أنفاسها.
قال هامسًا:
“للأسف … ذلك السيد تسلا لم يعرف سرّ السفر عبر الزمن. لكنه قدّم لي نصائح مفيدة … حول كيف أمنعكِ من الاختفاء ثانية”
شهقت بولي.
ثم أمسك بمعصمها فجأة، وجذبها نحوه.
في العتمة، رأت عينَيه بوضوح …
تلتمعان بضوءٍ ذهبيٍّ غريب، متوهجتين، أشبه بعينَي وحش،
مزيج من نشوةٍ وخوفٍ وهوس.
همس: “هذا المسكن … بنيتُه كي لا تختفي مجددًا”
… لم تصدّق.
كانت تعرف أن تسلا تحدّث عن تأثير الحقول المغناطيسية على الزمن.
ذاك الرجل الذي صعقته ٣.٥ مليون فولت كهرباء، وزعم أنّه رأى ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ في لحظة.
ظنّته محض خرافة … لكنه يطابق ما اختبرته.
مذهل.
ومع ذلك …
ما أثار فضولها أكثر ، هو تصميم هذا المسكن.
فشدّت على يده ، و ابتسمت: “إذًا … أرِني”
نظر إليها طويلًا …
ثم سار إلى الجدار ، و ضغط آلية خفيّة.
طوال الطريق … كان يحدّق بها بنظراتٍ قاتمة لزجة، نظرات جوعٍ حبيس … كأنّه يريد التهامها.
لكنها لم تبالِ.
قبّلته و ألحّت عليه أن يتقدّم.
كان تصميم المكان مذهلًا …
بُني بين جدارَين سميكين يشكّلان أساس الأوبرا.
كلّ جدار … سدّ إسمنتي، طوب، ثم طبقة إسمنت سميكة، فطوبٌ آخر بعرض أمتار.
والبحيرة حولها حاجز طبيعي.
ليلاً يغمرها ضبابٌ كثيف.
لن يستطيع أحد بلوغها دون معرفة الطريق … سوى إيريك.
أحبّت بولي هذه العزلة.
مثل كوخٍ مجهول وسط عاصفة ، أو فيلا زجاجية على حافة جرف … مكانٌ خارج العالم.
كان في الداخل ممرّ حجري طويل.
على جدرانه كل مترين شمعدان فضيّ.
و الشموع تتراقص ضوءًا باهتًا.
أمسك إيريك يدها، وفي اليد الأخرى فانوس.
أرادت بولي أن تمشي بمحاذاته …
لكنه جذبها لصدره ، و ضغط على خصرها: “لا تتحرّكي.”
لم تعترض.
واصل السير.
حتى بلغ صالة استقبال.
فوجئت …
توزيع الأثاث مطابق تمامًا للفيلا في نيو أورلينز.
ثلاث نوافذ طويلة ، بستائر مخملية حمراء.
ثريا تتدلّى.
بيانو ضخم ، و على منصّته دفتر نوتة، بلا نوتة.
بل رسومات لوجهها بمختلف الوضعيات.
اختنقت.
كادت تبكي.
تمتمت:
“يمكنني … رؤية تلك النوتة؟”
قال: “غرفتكِ أولًا.”
لم تهتم.
مرّت معه عبر ممرٍ آخر.
ثم إلى غرفة النوم.
فوجئت بغرفتان.
إحداهما نسخة مطابقة لغرفتها في نيو أورلينز.
حتى موقع المدفأة.
لكن بلا مدخنة.
فتحت خزانة الملابس الجديدة.
جربت إحدى الملابس – كانت قصيرة عليها.
تنهّدت: “خسارة … كلها جميلة”
قال: “سأصنع غيرها.”
بالفعل لم يكن يحب أن ترتدي ما لا يصنعه بيده.
لو رأى خزانة أزيائها الحديثة ربما جُن.
لكنها آثرت الصمت.
عقله هشّ الآن.
ثم ظهر باب جانبي.
كانت غرفته.
دخلت و توسّعت عيناها.
… لم تكن غرفة نوم.
كانت … غرفة ميّت.
ديكور الصالة لكن النوافذ مغطاة بقماش أسود.
لا أثاث.
في المنتصف تابوتٌ خشبي أبيض.
فوقه شُرفة من قماشٍ خمري.
اختنق صدرها.
في الرواية نام في تابوت.
لكن رؤيته بالعين شيء آخر.
ظنت أنه تغيّر.
لكن بعد كل هذا عاد إلى أوبراه ، و تابوته.
تمتمت: “لماذا تنام هنا؟”
همس: “بسببكِ.”
شهقت.
لا شموع.
لا مصابيح.
فقط عيناه …
تتلألآن كحيوانٍ جائع.
“ثلاث سنوات لا أستطيع النوم إلا في تابوت”
ثم أمسك ذقنها، وضغط بإبهامه على شريانها.
كأنّه يتحسّس نبضها ليتأكّد أنها هنا.
همس بصوتٍ مبحوح: “لو لم تطلبي مني الانتظار ، كنتُ دُفنت معكِ يوم موتك”
توقّف نَفَسُها.
شعرت بإبهامه يرتجف فوق عنقها كأنّه استفاق من كابوس.
و أدرك أخيرًا أنّه ما زال حيًّ.
التعليقات لهذا الفصل " 104"