كان ملمس شفتيها رقيقًا دافئًا.
أنفاسها الحارّة لامست طرف أنفه برطوبة شهيّة.
ظلّ إيريك يحدّق في بولي … عاجزًا عن التمييز:
هل هذا واقع … أم سراب؟
الجائع لسنواتٍ يفقد حتى حاسّة التذوّق حين يلمس أخيرًا الطعام الذي راوده في الأحلام.
لم يدرك أنها حقيقيّة إلا حين طوّقت ذراعيها عنقه ، و فتحت شفتيه برفق ، و قبّلته … و ابتلع هو بلا وعيٍ ريقه.
في تلك اللحظة، ارتفع فرحٌ مسعور إلى رأسه، وامتلأ عقله بطنينٍ أبيض.
وحين أفاق من سُكرته، كان قد أمسك مؤخرة رأسها، وانحنى يلتهم شفتيها بنهمٍ مجنون.
تألّمت بولي من قوة القبلة.
لكن ذلك زاد إيريك جنونًا، فازداد عمق القبلة، حتى شعرت بألمٍ في جذر لسانها.
كان يحدّق بعينيها، وهو يلتصق بشفتيها …
احمرّت أذنا بولي.
… لأنّ صوته، وهو يلهث خافتًا، وصدره يهتزّ أمامها، جعل قشعريرةً حارّة تسري في جسدها.
لطالما كان صوته فاتنًا …
و بعد ثلاث سنوات ، صار أروع و أكثر خطورة.
شعرت أن جسدها كله تخاذل ، و كأنّ عظامها ذابت.
كادت تسقط عن الدرج.
فشدّها إيريك من خصرها.
التقطت أنفاسها.
وكانت على وشك ممازحته، حين اقترب لأنفه من عنقها، ولفحها نفسه الدافئ.
قال ، بحروفٍ واضحة: “أنتِ … لستِ سرابًا”
وخز قلبها بغصةٍ حادّة.
همست: “نعم … أنا عدت فعلًا.”
أغمض عينيه، ودفن وجهه في عنقها، يتشمم رائحتها.
عندها أدرك … أنها ترتدي قميصه ومعطفه.
غمرها عبقه.
ولأول مرة منذ سنوات … شعر بالامتلاء.
لكن الخوف سارع بالانقضاض على قلبه.
هي بالفعل … عادت.
لكن من يدري متى سترحل من جديد؟
ثلاث سنوات …
ماذا عن المرة القادمة؟
خمسة … عشرة … أو لن تعود أصلًا؟
والأسوأ … أنه كان قاب قوسين من تفجير الأوبرا.
لو تأخّرت خطوة … لما رآها أبدًا.
كان سيفجّرها معه.
راوده مشهدها و هي تتناثر كأشلاء.
فارتفع صدره بنوباتٍ عنيفة.
لم ترَ بولي وجهه ، لكنها سمعت أنفاسه.
ظنّته ينتفض فرحًا، فضمّته، وهمست:
“لا بأس … عدت هذه المرة. و لن أرحل ثانية. في الواقع … مرّ شهرٌ واحد فقط في عالمي … الزمن هنا أسرع”
سمع هذا … فهدأ صخبه قليلًا: “اختلاف زمن؟”
“… لا أعرف كيف أفسّر. الزمن يتأثّر بالجاذبية والسرعة. و حين يتداخل زمانان … يصير جريان الزمن مختلًا.”
تابعت بحلقٍ معقود: “لم أتوقع أن تنتظرني … ثلاث سنوات.”
دفءٌ صعد إلى أنفها.
ربّت بأنفه على أنفها، ثم قبّلها.
طوال عمرها، كانت تظن أن التهدئة من طرفٍ واحد.
ولم تتوقع … أنه يُسكِّن قلبها بدوره.
فكرت … أن شهرًا في سفينة، وأربع ساعات قطار، للوصول إليه … كلّه كان يستحق.
وقفت على أطراف قدميها، وأرادت تقبيل عنقه.
لكنه أمسك ذقنها، وأبعدها قليلًا.
سأل ، ناظرًا في عينيها: “لن ترحلي مجددًا؟”
“لن أفعل.”
ظلّ يتأمّلها … ثم فجأة ، أضاءت القاعة.
سحبها إلى صدره بقوة، حاجبًا وجهها عن أعين الحاضرين.
ارتبكت بولي.
كان الحضور مذهولين، يحدّقون بهما.
عندها، لاحظت بولي أن هيئته اختلفت … قناعٌ أبيض بهيئة جمجمة، وبدلته حمراء.
لون الدم … رمز الخطيئة.
لو لم تحضر … لارتكب مذبحته.
قبضت على كفّه، وقبّلت راحة يده.
أطرق بعينيه نحوها.
تسارع نبضها.
عيناه … كعيني مجنون.
احمرار، شرايين مرئية، نظرات مختلّة.
لكن صوته كان هادئًا: “آسف … ما قلتُه كان مزاحًا. يمكنكم متابعة الحفل.”
كلامٌ أوهى من خيط ، لكن لا أحد اعترض.
كلهم أسرارهم في قبضته.
ورغم الصمت، تبادل النبلاء النظرات.
في ثوانٍ … عقدوا مؤامرة.
بعد الحفل، سيمسحون دار الأوبرا.
كرامتهم مقدّسة، لا يسمحون لروحٍ تسخر منهم.
لم ترَ بولي أعينهم.
لكنها أدركت … أنهم سيطاردونه.
فكرت بأنّه … لا بأس.
سنرحل معًا.
ما حاجتنا لباريس؟
في تلك اللحظة، رفع إيريك ذقنها، وعيناه جامدتان:
“أغمضي عينيكِ … سآخذكِ لمكان.”
حاولت ممازحته: “لكن بشرط.”
فجأة … ضغط على ذقنها بقسوة.
ألمٌ جعلها تشهق.
صفعته على يده، وغطّت خدّها: “ماذا تفعل! تؤلمني!”
ظلّ يحدّق: “ما الشرط؟”
لهثت، ثم ابتسمت: “لم أرك منذ دهر … قبّلني مجددًا”
وبّخته: “و كفّ عن هذه القوة!”
لم يجب … طويلًا … ثم انحنى يقبّلها: “… آسف.”
ولم يخبرها …
أنه كثيرًا ما حلم بهذا المشهد.
و حين تهمس “بشرط” … ترحل.
صار يخشى حتى الجُمل.
قبّلته … ثم أغمضت عينيها.
حملها بين ذراعيه.
نَفَسُه متقطع ، قلبه يهدر … كآلة محمومة.
هي شعرت بدفئه ، وارتجفت.
نبضه … لم يكن نبضًا.
كان ارتعاشة روح.
سألته مرتين: “هل أفتَح عينيّ؟”
لكنه قال: “لا.”
فوضعت رأسها على كتفه و غفت.
لم يكن نومًا هادئًا.
حتى بأعينٍ مغمضة … شعرت بتغيّر الضوء حولها.
ومع كل حركة، كان إيريك يشدّها.
وفي المنتصف، غيّر وضعها.
سندها بيد على ظهرها، وأخرى تحت فخذيها.
كأنها طفلة.
… كيف يمكن أن تنام هكذا؟
لكن أجفانها ثقيلة.
كأنها مختومة.
ثم جاء إحساس بالهبوط.
سلالم.
في البداية قليلة ، ثم صارت أكثر ، أعمق.
نزولًا … نزولًا …
و كأنها كابوس بلا نهاية.
و ظلّت تسمع خطاه الرتيبة … و تغفو.
التعليقات لهذا الفصل " 103"