لم تكن نيويورك تلك الليلة تبدو كمدينة لا تنام. السماء ملبدة بغيوم رمادية ثقيلة، والمطر
يتساقط بصوت خافت على النوافذ العالية، وكأن المدينة تختنق تحت وطأة العاصفة.
في الطابق الخامس من بناية قديمة، يطل منزل صغير على شارع ضيق تملأه أضواء سيارات الإسعاف التي تمر من حين لآخر
داخل المنزل… كان الدفء يطغى على المكان.
أندرو جلس على الأريكة، يتكئ بظهره ويمسك حفنة من الفشار بيده. بجانبه زوجته إيما، مغطاة ببطانية خفيفة، تراقب الشاشة بنصف تركيز ونصف خوف. التلفاز يعرض فيلماً عن الزومبي، يملأ الصالة بضوء واهتزازات صوتية مرعبة.
وتتصاعد الموسيقى… في الفيلم، كان البطل يركض داخل مستودع مظلم، يتعثر فوق صناديق حديدية، يبحث بيأس عن مخرج. تهشم الزجاج فجأة من خلفه، أصوات خطوات سريعة، ثم يقفز مخلوق متعفن من الظلام مباشرة نحو الكاميرا!
صرخت إيما بقوة، وانكمشت على نفسها، يدها تمسك بذراع زوجها.
ضحك أندرو وهو يضع الفشار جانبًا:
“إيما… إنه مجرد فيلم! أنتِ حساسة جدًا لهذه الأشياء.”
نظرت إليه بنظرة مستاءة، لكنها لم تستطع منع ابتسامة صغيرة:
“أنت تعرف أنني لا أحب المفاجآت… خاصة الزومبي.”
وقفت وهي تتمطى قليلاً:
“سأحضر مزيداً من الفشار، لا تبدأ بدوني.
توجهت نحو المطبخ، خطواتها تختفي داخل الظلام النسبي. كانت الأضواء خافتة، مصدرها الوحيد التلفاز والثلاجة حين فتحت بابها. انعكس الضوء الأبيض البارد على وجهها بينما تعبئ وعاء الفشار ببطء
ثم — انطفأت الكهرباء
اختفى ضوء الثلاجة. انطفأ التلفاز. وغرق المنزل في ظلام مفاجئ وسميك. عمّ صمت غير طبيعي… لم يسمع سوى صوت المطر يرتطم بالنافذة.
قال أندرو بصوت حاول جعله مطمئناً:
“ربما انقطعت الكهرباء عن البناية كلها… سأخرج لأرى.”
سمعت خطواته تقترب من الباب الرئيسي، المفتاح يدور، ثم صوت فتح الباب… تلاه هواء بارد يتسلل إلى الداخل.
لحظة صمت طويلة
ثم — ارتطام عنيف! كأن جسدًا اصطدم بالباب أو دُفع إليه بقوة.
تجمدت إيما مكانها.
“من هناك؟!” قال أندرو بصوت مرتجف.
لم تمضِ سوى ثانية حتى ارتفع صوت صراخ… صرخة حقيقية، مليئة بالخوف والألم… ثم انقطع كل شيء
عاد الضوء
إيما واقفة في المطبخ، يدها ترتجف حول الوعاء. بدأ قلبها يدق بعنف وهي تنادي بصوت متردد:
“أندرو؟”
لم يجبها أحد.
خرجت ببطء من المطبخ. خطواتها تصدر صوتًا خفيفًا على الأرضية الخشبية. هناك أصوات أخرى… أنين منخفض… وصوت قاسٍ، كأن شيئًا يُسحق بين الأسنان.
وصلت إلى مدخل الصالة. كان الباب الخارجي مفتوحًا على مصراعيه، والهواء البارد يحمل معه رائحة مطر ممزوجة برائحة معدنية خانقة.
خفضت نظرها — وسقط وعاء الفشار من يدها دون أن تشعر
كان أندرو على الأرض… مستلقيًا بلا حراك تقريبًا.
وفوقه… جارهم مارك.
بشرته باهتة، مائلة للصفرة، تجاعيد حول فمه وكأن جسده فقد الحياة ثم أُعيد بطريقة مشوهة. عيناه مغطاتان بطبقة بيضاء، لا روح فيهما. كان ينحني فوق أندرو يصدر أصواتًا غليظة، كالحيوان حين يلتهم فريسته.
رفعت إيما يدها إلى فمها، وصدر منها صوت مكتوم مخنوق بالرعب:
“يا إلهي…”
سمعها مارك.
رفع رأسه ببطء… حركة غير طبيعية، كأن رقبته لا تزال تتعلم كيف تتحرك. حدق بها دون أن تطرف عيناه.
اندفعت إيما للهرب، لكن مارك تحرك بسرعة غير بشرية. اندفع على أطرافه الأربعة كوحش بري، أمسك بها من الخلف بقوة، وسحبها لتسقط على الأرض.
أطلقت صرخة ألم، تشعر بيدين باردتين تمسكان بها بأصابع قاسية. زحفت بصعوبة، تتنفس بصوت مخنوق، تحاول الوصول لأي شيء يساعدها.
أسندت ظهرها إلى الخزائن، تنظر نحو الصالة… مارك يقترب، جسده يميل بشكل مخيف، أصوات تنفسه كأنها صفير مكسور.
ثم… نهض أندرو.
ببطء… دون أي حركة طبيعية. وجهه شاحب وعيناه جامدتان.
وقف أمامها. كانت تتعلق ببقايا أمل، صوتها مكسور:
“أندرو…؟ أرجوك… أنا هنا…”
لم يكن هناك أي رد
توقف لحظة، ثم انقضّ عليها
امتلأ البيت بصوت صراخ واحد… طويل… ثم حل صمت مطبق.
وبقي المطر بالخارج ينهمر… وكأن العالم لم ينتبه لفاجعة بدأت للتو.
التعليقات لهذا الفصل " 0"