ساد الطابق صمت ثقيل، لم يسمع فيه سوى اهتزازات نَفَس العامل وارتجافات أنفاس سراف. على الشاشة، كان الرئيس يواصل:
ــ نرجو منكم متابعة التعليمات عبر محطات الراديو الرسمية، حيث ستبث الحكومة تفاصيل النجاة وطرق الوقاية أولًا بأول. التزموا بيوتكم… فسلامتكم من سلامة الجزائر.
أنهى الرئيس كلمته، ثم استدار وغادر تحت وابل من أصوات المراسلين الذين يتزاحمون حوله، يمدون ميكروفوناتهم ويلوّحون بأسئلتهم اليائسة، فيما تلاشت صورته تدريجيًا على الهاتف.
ظلّت الكلمات تتردد في آذان الثلاثة وهم على ذلك الطابق المعزول، كلٌّ منهم غارق في أفكاره
خيم الظلام
كان عبدو يحوم في المكان بشكل موتر و هو يجري بعض الإتصالات في هاتفه لكن بدون رد مما زاد من سوء توتره
بينما كنت أنا و العامل جالسان على أطراف البناية… أرجلنا تتأرجح في الهواء
نتبادل أطراف الحديث و أعيننا موجهة للخراب الحاصل بالمدينة دون ذكر أصوات صافرات الشرطة و الإسعاف التي لم تتوقف منذ مدة
(العامل) لقد حان موعد صلاة العشاء … دعنا نصلي و ندعو ربنا أن يفرج علينا هذه الكارثة
(سراف) عند ذكرك للأمر فقد لاحظت-
ليقاطعني العامل قائلا بحسرة
_ لقد توقفت المساجد عن الآذان لسلامة الشعب
نهض الإثنان و اقتربا من عبدو ليخاطبه العامل
_ إنه وقت الصلاة … دعنا نصلي جماعة
في تلك اللحظة توقعت من عبدو أن يغضب كعادته لكنه فاجئني بقبوله
بعد الصلاة جلس العامل يدعو الله قرابة العشر دقائق و بعد انتهاءه تقدم نحوي الذي كنت جالسا عن الحافة بنظرات حادة و قال بجدية
_ هل لديك خطة تسمح لنا بالخروج من هنا
ابتسمت له و قلت بنفس الحدة
_ اوه بل و أنت شخصيتها الرئيسية
مع بزوغ الفجر،اجتمع الثلاثة . كان الهواء مشبعًا برائحة الغبار والرطوبة،
والهدوء يقطعه وقع أنفاس متوترة تتبادلها صدورهم.
قال العامل، وقد بدا الحزم في عينيه : ــ حسنًا إذن، بالمختصر… سأنزل باستخدام ذلك الحبل نحو الطابق الثالث، وأستدرج الوحوش إليّ. وفي اللحظة التي يقفزون فيها نحوي، تقومان أنتما بسحبي للأعلى.
أجابه سراف بإيجاز وهو يراقب الحبل: ــ بالضبط.
ربط العامل طرف الحبل حول خصره بإحكام، بينما كان عبدو يربط الطرف الآخر حول عارضة إسمنتية سميكة، ثم أمسكا عبدو و سراف الحبل معًا استعدادًا للإنزال.
وقبل أن ينزل العامل، قال له سراف بنبرة تهكمية: ــ في حالة ما حدث خطأ، ولم تنجُ… ما اسمك كي أتذكّرك؟
ابتسم العامل رغم الموقف، كأن السخرية أعطته شيئًا من الثقة، وقال: ــ أدعى أصيل. ماذا عنك يا قاتلي؟
ــ سراف… سرني التعرف عليك
تدخّل عبدو بعصبية قاطعًا المشهد: ليس لدينا اليوم بطوله … هيا
ضحك أصيل وقال بخفة لاذعة: ــ حسنًا، حسنًا أيها العجوز… أنا راحل.
لكن عبدو لم يجد وقتًا للرد، إذ كان أصيل قد قفز بالفعل.
أصيل
مع أول قفزة له، بدأ الحبل يتأرجح به بعنف، يمنة ويسرة، حتى ظن لوهلة أنه سيسقط وينتهي أمره. لكنه تماسك، وضبط نفسه وسط الأرجحة المتوحشة. شيئًا فشيئًا، أنزله سراف وعبدو ببطء، حتى صار مقابلًا للطابق الثالث، حيث الظلال الداكنة تتحرك داخله.
أطلق صفيرًا حادًا، ثم صاح بصوت متحدٍّ: ــ هيي! بش بش! تعالوا إليّ!
وما هي إلا لحظات حتى انتبهت الوحوش، فاندفعت كلها ركضًا نحوه، بأشكال تقطع الشهية.
صرخ أصيل للأعلى: ــ اسحباني! هيا!
لكن الحبل كان يرتفع ببطء شديد، وبدا واضحًا أن الوحوش ستلحق به قبل أن يبتعد. عضّ على شفته وقال في نفسه: ــ تبًا… لو استمرا على هذه الوتيرة سيلحقون بي. عليّ أن…
وفي اللحظة التي وصل أول وحش إليه، دفعه أصيل بكلتا قدميه دفعة قوية، فارتد مبتعدًا عنهم متأرجحًا في الهواء. ومع كل مرة كان يقترب من الوحوش في تأرجحه، كان يركل أقربهم، فيتأرجح أكثر إلى الخارج، لتسقط بعض الأجساد المتعفنة من البناية، تتحطم عظامها على الأرض أدناه.
لكن لم يبق سوى ثلاثة يطاردونه بوحشية.
وحين حاول تكرار نفس الحيلة، اندفع أحدهم وتمسّك بسرواله، فوجد نفسه عالقًا مع الوحش، كلاهما معلقان في الهواء. حاول أصيل ركله بقدمه الأخرى، لكن الوحش تشبث
بعناد، وأسنانُه على وشك أن تنغرز في جسده.
وفي نفس اللحظة، سمع صرير الحبل يتألم من ثقلٍ زائد،
لم تنتهِ مشكلته هنا. فالوحشان الآخران كانا قد اقتربا،
يمدّان أيديهما العفنة نحوه، ولم يعد قادرًا على ركلهم بسبب ثقل ذلك الوحش الممسك به. شعر باليأس يتسلل إلى صدره، وعيناه تتسعان هلعًا: ــ تبا…يجب أن أفعل شيئا … أي شيء
وفجأة، اخترق رأس أحد الوحوش خنجر حاد، فتهاوى صريعًا. التفت الثاني، فإذ بسراف يركله بكل قوة ليدفعه خارج البناية، ويسقط هاويًا نحو الأرض، ليرتطم ارتطامًا مدويًا يُسمع معه تحطّم العظام بوضوح.
ابتسم أصيل رغم أنفاسه المتقطعة، ثم صاح لسراف مشيرًا إلى الوحش المتمسك بساقه: ــ هل تستطيع إبعاد هذا “الجميل” عني؟
بحث سراف بعينين سريعتين، ثم أمسك بمجرفة وبدأ يضرب الوحش بحذر، متجنبًا أن يخلّ بتوازن أصيل. ضربة تلو أخرى، حتى فقد الوحش قبضته وسقط إلى العدم.
لكن فرحتهم لم تدم. إذ انقطع الحبل فجأة بصوت مفزع، وبدأ أصيل يهوي مثل صخرة، يصرخ وهو يندفع نحو الأرض، متتاليًا مع وحوشه.
الشيء الأخير الذي رآه كان وجه سراف، عيناه مفتوحتان عن آخرهما من الذهول. وبينما كان أصيل يستسلم لسقوطه، اندفع سراف بلا تردد، ألقى بنفسه، وأمسك بيد أصيل في اللحظة الأخيرة.
توقف جسده للحظة في الهواء، يتأرجح جسمه بين الحياة والموت. استجمع أصيل كل ما لديه من قوة، ودفع نفسه ليصطدم بالطابق الثاني الذي كان أمامه
جسده يرتطم بالإسمنت بقوة، لكنه حي.
سراف
بعد أن أفلت أصيل يدي، ناديت عليه مباشرة:
ــ “أصيل… هل أنت حي؟”
وما هي إلا لحظات حتى سمعت صوت سعال قادم من الطابق الثاني، تبعه صوت أصيل المخنوق قليلاً:
ــ “نعم… لا زلت قطعة واحدة… وكل ذلك بفضلي… شكراً لنفسي.”
ابتسمت بخفة وقلت: ــ “حسناً… لقد فاجأني قفزك للطابق الثاني حقاً… لا أظن أن فكرة كهذه كانت لتخطر ببالي لو كنت مكانك.”
ثم تساءلت: ــ “بالمناسبة، ألا يوجد أي متحوّل في طابقك؟”
أجابني بعد لحظات صمت: ــ “لا… يبدو أن خطتك السابقة قد جمعتهم كذلك.”
ــ “هذا رائع… سأصعد الآن لجلب حقيبتي من الطابق الرابع.”
وضعت السلم في الفتحة المؤدية للطابق الرابع وصعدت، فاستقبلني عبدو بنظرات متسائلة ختمها بسؤاله:
ــ “إذن… هل نجح الأمر؟”
ــ “نعم، لقد نجح. يمكنك النزول الآن.”
نزل مسرعاً عبر السلالم، بينما اتجهت أنا نحو العارضة الإسمنتية حيث تركت حقيبتي. فتحتها لأجد سكيناً واحداً فقط، أما الآخر فكان بحوزتي. أخرجت السكين، ثم أغلقت الحقيبة وحملتها على ظهري ونزلت على عجل.
حين وصلت للطابق الثاني، كان أصيل وعبدو بانتظاري. تقدمت نحو أصيل وسلمته السكين قائلاً: ــ “خذه… في حالة ظهورهم مرة أخرى.”
تجهم عبدو وقال باعتراض: ــ “وماذا عني؟”
نظرت إليه ببرود وأجبته بنبرة حادة وهادئة: ــ “هذا كل ما أملكه في الحقيبة… وأنصحك أن تحمل أي شيء تدافع به عن نفسك.”
التقط قطعة معدنية طويلة من الأرض وبدأ يلوّح بها. ثم نزلنا جميعاً بهدوء نحو الطابق الأول، حيث كان أصيل يتقدمنا.
وقبل أن نصل إلى نهايته، أوقفنا أصيل بإشارة من يده، ثم دعاني للحضور لرؤية الوضع. تقدمت أكثر فرأيت متحوّلاً وحيداً واقفاً في منتصف الطابق. همست له بصوت منخفض: ــ “أنا أم أنت؟”
ــ “من بعدك.”
تقدمت نحوه بخطوات ثابتة، ثم بطعنة حاسمة اخترقت رأسه بخنجري. نزعت النصل لتتناثر بقع دم صغيرة ويسقط المتحوّل أرضاً. تملكتني لحظة تفكير: يبدو أن لحمهم يصبح هشّاً مع مرور الوقت… لا أعرف السبب الآن، لكنني سأكتشفه يوماً ما.
واصلنا نزولنا حتى الطابق الأرضي، ولحسن الحظ لم نجد أحداً. خرجنا من المبنى، ولم نصادف متحوّلين بالقرب.
قال أصيل وهو يتفحص المكان: ــ “يبدو أن شيئاً آخر قد جذبهم.”
التعليقات لهذا الفصل " 9"