انقضّ عليّ أول متحوّل، فمددت يدي بسرعة إلى فأسي الملقى بجانبي. وبكل ما تبقى من قوة في عضلاتي، قذفته صارخاً، لتخترق النصل كتفه وتدفعه إلى الوراء. لم يسقط، لكنه ترنّح، ووهبني تلك اللحظة الثمينة للوقوف على قدمي.
نهضت بسرعة ، أنفاسي متلاحقة، وجسدي يتصبب عرقاً. بدأت أركض بعيداً عن الثانوية، لكن صراخ المتحوّلين جذبت إليها عشرات آخرين، فاندفعوا ورائي كالقطيع المتعطش للدماء.
كلما توغلت، ازداد عددهم خلفي. الأرض تهتز تحت وقع أقدامهم الثقيلة، وصوت أنفاسهم الوحشية يقترب. الطريق التي جئت منها لم تعد صالحة، فقد امتلأت بهم، ولم يبقَ أمامي إلا الممر المؤدي نحو البنايات قيد البناء في عمق المنطقة.
ركضت بكل ما أوتيت من عزم، والعرق يتساقط من جبيني، وقلبي يدق بقوة. والصرخات التي تملأ المكان تحولت إلى جوقة موت تطاردني أينما وليت.
وفكرتُ بيني وبين نفسي، وأنا أضغط على أسناني:
“لن أموت هنا… لن أُقتل هكذا… سأبقى، حتى لو اضطررت لمقاتلة العالم بأسره.”
كنت أركض داخل أحد المباني ، الدرج الإسمنتي الخشن تحت قدمي، وصوت خطوات المتحوّلين يلاحقني من الخلف. صعدت الطابق الأول، الثاني، ثم الثالث… توقفت فجأة، لم يكن هناك درج يكمل إلى الطابق الرابع.
التفت بسرعة أبحث عن مخرج. المكان مليء بأكياس الإسمنت المفتوحة، كتل من الحجارة، أسياخ حديدية ملقاة، مجرفة صدئة في الزاوية… لكن لا شيء يساعدني على النجاة.
بينما كنت أتفحص المكان بعجلة، وقعت عيني على سلّم خشبي مرمي بجانب الحائط. أسرعت إليه وحملته، رفعته بصعوبة وركّبته في الفتحة المؤدية للطابق الرابع. بدأت أصعد بأقصى سرعتي، وفي نفس اللحظة دخل المتحوّلون إلى الطابق.
اندفعوا نحوي، وأيديهم تمتد للإمساك بي. أحدهم ضرب السلم فاهتز بقوة، ثم دفعوه جميعاً ليسقط أرضاً. بقيت معلّقاً في الهواء، أصابعي متشبثة بخرسانة الفتحة، وقدماي تركلان كل من يقترب.
قلت في نفسي وأنا ألهث:
ـ لن أستطيع الصمود طويلاً… سأقع!
في لحظة، شعرت بيد قوية تسحبني من الأعلى. سقطت على أرض الطابق الرابع وأخذت أتنفس بعمق، كأن الهواء عاد إلى رئتي بعد انقطاع.
رفعت رأسي فرأيت شاباً مظهره أكبر من عمره، ثيابه بالية، يداه متشققتان وخشنتان من أثر العمل. لمحت في عينيه صلابة، رغم التعب الواضح على وجهه.
غير بعيد، جلس رجل في الأربعينات على كرسي بلاستيكي، بطنه يملأ قميصه الضيق، يتأملني بنظرة احتقار واضحة. رفع صوته قائلاً للعامل:
ــ هذا ما كان ينقصنا… تجلب لنا صبياً يجر وراءه قطيـعاً من الوحوش!
تجمدت الكلمات في حلقي. لم يكن لدي ما أردّ به، خصوصاً وأنا بلا سلاح بعدما فقدت فأسي في الطابق الثالث. فقط حدقت فيه بوجه متعب، بينما قلبي لا يزال يخفق بعنف.
العامل تجاهل إهانته، ثم التفت إليّ قائلاً بلهجة حازمة:
ــ التزم الهدوء الآن. ما دمت هنا فلن يقدروا على الوصول إلينا… لكن لا تظن أنك بأمان. نحن عالقون، ولا مفر من التفكير في ما سيأتي.
اقتربت من الحافة بحذر، نظرت للأسفل فرأيت العشرات من المتحوّلين يتجمّعون قرب المبنى،
ابتلعت ريقي ببطء. النجاة هنا مؤقتة فقط… أما الجحيم الحقيقي فما زال ينتظرنا.
جلست مسندا ظهري للجدار و حقيبتي موضوعة بجانبي
جلس العامل مقابلا لي ثم قال
_ مالذي جلبك إلى هنا … هل أنت طالب في الثانوية
أجبته قائلا
_ لقد كنت ذاهبا للثانوية و هاجمني قطيع من المتحولين لهذا السبب ركضت الى هنا
_ اه فهمت
_ يجب علي مغادرة هذا المكان بسرعة قبل أن يصبح الوضع أسوأ
لينطق السمين بتعجرف
_ و كيف تنوي فعل هذا و هنالك قطيع من الوحوش بالأسفل
جلست أفكر في مكاني ثم نهضت و بدأت أحوم بالمكان
كان يوجد حبل طويل يوصل من سقف الطابق الرابع إلى الأسفل
التفت للعامل قائلا
_ هل أنت من علق هذا الحبل
_ نعم كنا نستعمله من أجل رفع و إنزال ماهو ثقيل
ظهر بريق في عيني من كلامه لأقول
_ هل يستطيع إنسان النزول منه
وضع العامل يده على ذقنه وهو يفكر و بعد برهة قال
_ ربما لا أعرف
_ هل تستطيع تجربة ذلك على نفسك
انصدم العامل قليلا ثم رد مباشرة بالرفض
اقتربت من الحافة و بدأت أرى المسافة العالية للوصول للأرض
لتراودني بعدها بعض الأفكار المخيفة مثل انقطاع الحبل أثناء النزول و ما شابه ذلك لذا تراجعت بسرعة
بقينا جالسين في ذلك الطابق طيلة اليوم
لولا بعض الزمجرات القادمة من المتحولين من الطابق الثالث لكان الهدوء يعم المكان
مع الغروب، كانت أشعة الشمس تتسلّل للطابق، لتلقي بظلالها الطويلة على الأرض ، حين دوّى صوت صرخة حادة قطعت سكون المكان.
كان الصوت صادرًا الرجل السمين. الذي ارتجف وهو يحدّق في شاشة هاتفه
التفت العامل على الفور، عينيه متّسعتين وملامح القلق تفضحه، ثم قال بنبرة متوترة:
ــ ما الأمر يا سيد عبدو؟
رفع عبدو رأسه نحوه بعصبية واضحة، وملامح القلق مرسومة على وجهه، ثم صاح:
ــ لماذا… أليس معك هاتف؟
ابتسم العامل ابتسامة باهتة، محاولًا التخفيف من حدة الموقف، ثم مدّ يده من جيب بنطاله وأخرج هاتفًا صغيرًا، نوكيا قديمًا، وقال بفخر طفولي:
ــ هذا ما لدي… رائع، أليس كذلك؟
تأفف عبدو بضجر، كأن وجود العامل بحد ذاته عبء ثقيل عليه، ثم التفت ناحية سراف وسأله بحدة:
ــ وأنت؟ ألم تحمل هاتفًا معك؟
أخذ سراف يتحسس جيوبه بسرعة، قبل أن يرفع رأسه ويقول بخيبة :
ــ يبدو أنني نسيته في السيارة
زفر عبدو بغضب، ثم رمى الهاتف بين يدي العامل، وقال بلهجة آمرة:
ــ خذ، شاهد بنفسك!
اقترب سراف من العامل، وانحنى قليلًا ليرى الشاشة. ظهر رئيس الجزائر في بث مباشر، يقف خلف منبر مزخرف بشعار الدولة، محاطًا بعدسات الكاميرات وضوء المصابيح. ، حيث قال بصوت مفعم بالجدية والحزم، وهو يخاطب الشعب:
ــ أيها المواطنون… لقد انتشر هذا الوباء بسرعة لم يسبق لها مثيل، إنه ينتقل باللمس ويحوّل المصابين إلى خطر داهم على المجتمع. لقد قررت الدولة فرض حجر كلي، وأي شخص يُعثر عليه خارج منزله بعد هذا القرار، سيُعامل كتهديد مباشر… وسيُطلق عليه النار من طرف قوات الدرك الوطني فورًا.
التعليقات لهذا الفصل " 8"