في تلك اللحظة، سمعت صوت كمال وهو يتحدث عبر الهاتف مع أخيه الأصغر، صوته غاضب: _ هل فهمت؟ اذهب فورًا واشترِ ما أخبرتك به، وبالكمية نفسها التي كتبتها لك. وأخبر أبي ليقلك بالسيارة كي يساعدك بحمل الأغراض
ثم أغلق الخط و القلق لا يفارقه.
وصلنا أخيرًا إلى البناية،
وما إن أوقف كمال السيارة أمام المدخل حتى شدّ انتباهنا رجل مسنّ يركض خارجًا منها، هاتفه ملتصق بأذنه وصوته مرتجف. كان ذلك جاري العم أحمد،
اقتربنا أكثر بالسيارة، وفجأة التقطت أذني جملته المذعورة: _ لا تقلقي يا ابنتي… ابقي مختبئة هناك، أنا قادم حالًا!
في تلك اللحظة تأكدت شكوكي. دون أن أتردد صرخت بكمال: _ التفّ بسرعة!
ثم أنزلت نافذتي وصحت: _ اركب يا عم، سنوصلك بسرعة!
نظر إلينا لثوانٍ بعينين ممتلئتين بالهلع، ثم فتح الباب الخلفي وقفز إلى الداخل. لم أمهله حتى يلتقط أنفاسه، فسألته بلهفة: _ إلى أين؟
ردّ بسرعة دون تفكير: _ إلى الثانوية الواقعة بمنطقة العناصر! بعد أن تقطعوا السوق بالأسفل ستجدونها عند أول لفة على يسار السائق.
أشار بيده وهو يلهث، ثم تابع بصوت متقطع: _ لقد أخبرتني ابنتي أن أحد الطلاب هناك بدأ يتصرف بغرابة… كان يحك رقبته بجنون حتى جرح نفسه. وبعد دقائق أغمي عليه.
تجمعوا حوله الطلبة و الأساتذة، وفجأة استيقظ وبدأ يهاجم كل من يقترب منه… والكارثة أن كل من عضّهم أو خدشهم صاروا مثله بعد فترة قصيرة!
ساد الصمت لثوانٍ داخل السيارة، لم أسمع خلالها سوى صوت المحرك وأنفاسنا الثقيلة. شعرت ببرودة غريبة تسري في جسدي، بينما كمال ابتلع ريقه بصعوبة حتى كاد يُسمع صوته.
كسرتُ الصمت وأنا ألتفت إلى العم أحمد: _ وماذا عن ابنتك؟… هل هي بخير؟
ارتجف صوته وهو يجيب: _ نعم… قالت لي إنها مختبئة في أحد أقسام الطابق الثاني مع بعض الطلاب الآخرين. لكن يجب أن نسرع، يجب أن نصل قبل أن يحدث الأسوأ!
تشابكت نظراتنا جميعًا، وكان واضحًا أن ما كنا نخشاه قد بدأ بالفعل.
مع دخولنا إلى منطقة العناصر، وقربنا من السوق، كان واضحاً أنّ الفوضى قد بدأت تلتهم المكان. الناس يندفعون إلى الخارج مذعورين، تتعالى صرخات النساء، ويعلو بكاء الأطفال، فيما وجوه الرجال شاحبة وقد غلب عليها الهلع.
كان كمال يقود ببطء، يحاول الاقتراب من مدخل السوق، وفجأة انطلقت سيارة أمامنا بسرعة جنونية، كادت أن تصطدم بنا وهي تشق طريقها نحو النجاة. ضغط سائقها على المنبّه طويلاً، .
ضرب كمال المقود بعصبية وهو يصرخ: ــ “مالذي يفعله هذا الأخرق … ممنوع عليه المرور من هنا؟”
لكنني لم أُعطه مجالاً للغضب. فتحت باب السيارة بسرعة، ثم التفتُّ إليه بصرامة قائلاً: ــ “كمال، أوقف السيارة في أقرب مكان، وابقَ بداخلها مهما حدث. لا تفتح الباب لأحد، أياً كان.”
نظر إليّ بقلق، وكاد يعترض، غير أنني لم أترك له فرصة للكلام. استدرت فوراً نحو العم أحمد، وفتحت بابه قائلاً: ــ “هيا يا عم، لنذهب لإنقاذ ابنتك.”
نزل العم مسرعاً، عيناه تائهتان وملامحه يكسوها الاضطراب. أخرجت من حقيبتي فأسين، ناولته واحداً وتمسكت بالآخر. قبض على الفأس بيد مرتجفة، وتبعني.
دخلنا السوق… وكان المشهد أقرب إلى الجحيم.
الأرض غُطيت بالخضر المبعثرة والفواكه الملطخة بالدماء. جثة رجل مهشمة الرأس ملقاة قرب صندوق طماطم مقلوب، والدم ينزف بغزارة من عنقه. غير بعيد، امرأة تصرخ مذعورة بينما ينقضّ عليها أحد المتحوّلين، مغرزاً أسنانه في كتفها. كان صدى العظام المتكسّرة، والصرخات المبحوحة، يملأ الأرجاء ويثقل الصدر.
التفتُّ إلى العم أحمد… فإذا به واقف مكانه متجمداً، عيناه جاحظتان، يداه ترتعشان حتى كاد الفأس ينفلت منه. كان خفقان قلبه يُسمع كأنه طبول يدق في صدره.
صرخت به بقوة: ــ “أتدع الرعب يشلّك هكذا!؟ ابنتك، وسط هذا الجحيم كله، لم تلجأ إلا إليك، أبيها… وأنت عاجز حتى عن التقدّم خطوة!؟”
كلماتي هزّته كالسوط، فشدّ أسنانه بقوة، وأطبق بكلتا يديه على الفأس، ثم هزّ رأسه مؤكِّداً. تقدمنا متسللين بخطى حذرة، نتفادى الاشتباك المباشر مع المتحوّلين، نلج الممرات الضيقة ونقفز فوق الأجساد الملقاة، حتى بان لنا مبنى الثانوية من بعيد.
غير أن الصدمة شلّتني.
لقد كان عشرات المتحوّلين يحيطون بالمدخل، يتمايلون بأجساد دامية، يزفرون بأنفاس وحشية، وأفواههم تفيض بالدماء. عددهم كان كافياً لأن يجعل أي محاولة للدخول ضرباً من الجنون.
أصيب العم أحمد بالذعر مرة اخرى حيث بدأ يتمتم بسرعة كبيرة و بصوت لا يكاد يسمع
_هذا غير ممكن … سنهلك سنهلك سنهلك … من المستحيل أن أنقذ ابنتي هكذا
و في لحظة أخيرة نظر إلي و كأنه قد اتخذ قرارا بالفعل بينما كنت أفكر بطريقة تساعدنا على تجاوزهم ، ليقاطع تفكيري صوت العم أحمد، بتعابير ملئها الحزن واليأس: ــ “اسمع يا فتى… لا سبيل إلى الدخول دون جذب انتباههم… لذا…”
وقبل أن أفهم قصده، انقضّ عليّ فجأة، أمسك بقميصي بكل قوته، ثم قذفني نحو الساحة، مباشرة في مرمى نظر المتحوّلين.
ارتطمت بالأرض، والغبار يلفّني، وعلى بعد خطوات كان أحد المتحوّلين يزحف نحوي، زمجرته الحيوانية تشق الفضاء.
رفعت عيني بسرعة، فالتقطت صورة العم أحمد قبل أن يستدير. كانت ملامحه مكسورة، عينيه غارقتين في الأسى، قبل أن يولي هارباً، محاولاً التسلل نحو الثانوية متجاهلاً مصيري.
حينها اخترقني شعور بالخيانة و السخط ، كالطعنة في خاصرتي. “تبا لك يا أحمد…!!”
التعليقات لهذا الفصل " 7"