لما وصلنا أكثر، أشار أحد العساكر لنا بالتوقف. أوقفت السيارة بجانب الطريق، خفضت النافذة حتى آخرها وحييته: _ السلام عليكم يا سيدي.
رد بوجه صارم، تعابيره لا تتحرك: _ وعليكم السلام. لماذا أنت ذاهب للجامعة؟
استغربت سؤاله للحظة، لكني تماسكت، ابتسمت ابتسامة صغيرة مصطنعة وقلت: _ نحن طلاب هنا يا سيدي… لكن، لماذا الإغلاق بهذا الشكل؟ هل هناك مشكلة؟
مال العسكري قليلًا ليرى كمال بجانبي، ثم قال بنفس الجدية: _ لا تستطيعان الدخول. الجامعة مغلقة حتى إشعار آخر.
سألته مباشرة: _ وما السبب؟
أجاب بصرامة: _ هذه معلومات سرية لا يمكننا الإفصاح عنها.
ثم أنهى الحوار بلهجة آمرة: _ والآن، نود منكما أن تعودا أدراجكما فورًا.
لم أجادله، مجرد إيماءة كانت كافية، ثم عدت بالسيارة مبتعدًا. لكن في داخلي، كنت أعلم أني لن أكتفي بهذا الجواب الغامض.
ركنت السيارة في مكان ظليل وترجلت منها. كمال نظر إلي باستغراب وسأل: _ ما الذي تنوي فعله؟
قلت له وأنا أفتح حقيبتي: _ معرفة الحقيقة.
أخرجت كل ما يخص الدراسة، ووضعت بدلًا منها فأسًا وسكينًا. مددت له سكينًا آخر. فتح عينيه بدهشة: _ ولماذا هذا؟
أجبته وأنا أغلق الحقيبة وأحملها على ظهري: _ لأننا لا نعرف ما قد نواجهه في الطريق.
أقفلت السيارة وأعطيته المفتاح، ثم دخلنا معًا في طريق ترابية جانبية تقود إلى هضبة مرتفعة تُطل على الحرم الجامعي. استغرق الصعود قرابة عشر دقائق،
حين وصلنا أخيرًا ، وقفنا نلتقط أنفاسنا بينما غطى الغبار ملابسنا. لكن التعب لم يلبث أن تلاشى حين وقعت أعيننا على ما يجري بالأسفل.
لقد صُعقنا.
الجامعة لم تعد كما نعرفها.
الساحة غارقة بالدماء، طلاب يركضون في كل اتجاه، بعضهم يحاول النجاة، بينما آخرون… يطاردون زملاءهم بشراسة غريبة، يعضّونهم ويمزقونهم كما لو فقدوا عقولهم. حتى بعض رجال الشرطة أنفسهم كانوا متحولين، يهاجمون من يقف في طريقهم.
أما في الجهة المقابلة، عند الإقامتين الجامعيتين، فكان المشهد مشابهًا؛ صرخات، دماء،وفوضى عارمة.
نظرت إلى كمال، فوجدت وجهه شاحبًا، عيناه غارقتان بالدموع.
تمتمت دون وعي: _ إنه تمامًا ما شاهدته تلك الليلة…
التفت إلي كمال بدموع على خديه، بصوت يرتجف: _ ما الذي سنفعله الآن؟ لقد انتهى الأمر…
ثم صرخ بأعلى صوته: _ إنها نهاية العالم آآآآآه!
لم أتمالك نفسي، فلكمته بقوة في صدره ليسقط أرضًا ويهدأ قليلًا.
قلت له بنبرة حازمة: _ لو جئنا في وقتنا المعتاد هذا الصباح، لكنا مثلهم الآن… احمد الله أننا تأخرنا.
ظل صامتًا لبرهة، ثم رفع رأسه قائلًا: _ لكن… كيف وصل الأمر للجامعة بهذه السرعة؟
أجبته وأنا أحدق في المشهد أمامي: _ بسبب كثرة المتعاطين.
ثم خطر في بالي شيء مهم، فانتابني قلق شديد. لاحظ كمال ارتباكي وسأل: _ ما الأمر؟
قلت بسرعة: _ يجب أن نعود حالًا… حدسي يخبرني أن شيئًا أسوأ سيحدث اليوم.
عدنا مسرعين نحو السيارة. ركب كمال خلف المقود وانطلق بسرعة جنونية عبر الطرق الجانبية. توجهنا أولًا إلىمتجر “الوفاء” للبيع بالجملة في الحراش، حيث اشترينا كميات كبيرة من قوارير المياه للشرب. بعد ذلك توقفنا عند محطة بنزين في طريقنا، وملأنا قوارير بلاستيكية بالبنزين،
كما اقتنينا بضع قوارير غاز للطهي.
وأثناء الطريق، أمسكت بهاتفي وحاولت الاتصال بوالدي مرارا و تكرارا. لا رد. انتقلت للاتصال بأمي، ولم تمر سوى ثوانٍ حتى أجابت بصوتها الدافئ: _ صباح الخير يا بني، كيف حالك؟
أجبتها بسرعة وقلق: _ بخير الحمد لله، لكن… هل والدي بخير؟
صمتت لحظة قبل أن تقول باستغراب: _ نعم، لا يزال نائمًا حتى الآن.
لم أتردد: _ لقد تم إغلاق الجامعة بسبب انتشار الوباء الجديد… أظن أنك سمعتِ عنه.
ارتجف صوتها قليلًا: _ حقًا؟ وهل أنت بخير يا بني؟
ابتسمت رغماً عن الموقف، وقلت في نفسي: حتى في هذه اللحظة، قلقها عليّ يفوق قلقها على نفسها. ثم طمأنتها: _ أنا بخير يا أمي، لا تقلقي.أنا عائد للشقة الآن . فقط أخبري والدي ألّا يذهب إلى العمل هذه الأيام. الوباءخطير جدًا، والمصابون به يفقدون السيطرة ويهاجمون الناس. أخبريه أن يشتري طعامًا وماءً بكثرة.
فاجأتني بابتسامة مسموعة من نبرتها وهي تقول بفخر: _ لا تقلق، حتى لو فُرض حجر كلي، لدينا مزرعة كبيرة وبئر ماء، والدجاج والحمام والمعيز. وحتى لو حاول أحد الدخول بالقوة، لا تنسَ كلبتينا ريتا و ماكس.
ضحكت قليلًا وقلت: _ معك حق يا أمي… لكن من الأفضل أن تغيّروا بوابة المزرعة إلى أخرى أقوى، وتأكدي أن باب المنزل الرئيسي يُغلق جيدًا ليلًا.
ردت بسرعة: _ حاضر… وأنت أيضًا، اشترِ كل ما تحتاجه وابقَ في المنزل، لا تخرج إلا للضرورة. هل فهمت؟
التعليقات لهذا الفصل " 6"