في طريقنا نحو الشقة مر بجانبنا شرطيان أحدهما يشرب كوبا من القهوة و الآخر يكلمه بشكل جدي قائلا
إذا استمر الأمر على هذه الحالة فهي مسألة وقت فقط قبل اعلان الحجر الكلي *
لينطق بعدها رفيقه بعد احساءه لرشفة من تلك القهوة السوداء
بل لقد فاق الأمر توقعاتنا تماما …. سمعت ريسنا يتحدث هذا الصباح عبر هاتفه و سمعت شيئا يتعلق ببداية جائحة قد تكون الأخطر على مر التاريخ
ليقول سراف في نفسه بتوتر بعد شده للأكياس بقوة أكبر
إذا فقد الوصل الأمر لتلك المرحلة … يجب أن أسرع
عندما وصلت أمام البناية، لفت انتباهي أن سيارة كمال كانت مركونة بالأسفل. صعدت برفقة لحسن حتى وصلنا إلى طابقي، وهناك وجدنا كمال جالسًا عند الدرج المؤدي للطابق الموالي.
ما إن وقعت عيناه عليّ وأنا محمّل بكل تلك الأكياس، ومعي لحسن، حتى سبقت سؤاله الذي لم ينطق به بعد وقلت:
_ صباح الخير… هذا لحسن يا كمال، جاري من الطابق الأول. وهذا كمال يا لحسن… خادمي الشخصي، أقصد طبعًا صديقي.
وضعت الأكياس أرضًا وأخرجت سلسلة مفاتيحي، ثم فتحت الباب. دخل كمال أولًا وهو يحمل بعضها، ثم تبعه لحسن الذي أدخل البقية قبل أن يلتفت إليّ قائلاً:
_ أنا عائد الآن… إذا احتجت أي شيء ستجدني في المنزل أو في الحي.
أومأت له مودّعًا، ثم أغلقت الباب بسرعة. لم أترك لكمال فرصة للكلام، أسرعت بحمل الأكياس إلى غرفة نوم فارغة في الشقة ـ التي تضم غرفتين وصالة ومطبخًا وحمامًا ـ وضعت كل شيء هناك، ثم اتجهت إلى غرفتي. ارتديت حقيبتي بسرعة وعدت مباشرة نحوه.
مددت يدي إلى جيبه، أخذت مفتاح السيارة دون مقدمات، واتجهت إلى الباب. فتحته وأنا أقول ببرود:
_ هيا نذهب إلى الجامعة… أنا من سيقود.
نظر كمال إلى ساعته بدهشة وقال:
_ لكن… لا تزال الساعة الثامنة، سنصل مبكرًا جدًا.
أجبته فورًا وأنا أضع يدي على المقبض:
_ لا تقلق، لن نذهب مباشرة… هناك محطات أريد المرور عليها أولًا.
ركبنا السيارة، جلست خلف المقود وأدرت المحرك. انطلقنا وسط ازدحام خانق على الطريق السريع؛ سيارات متلاصقة، أبواق متقطعة، أطفال بزيّ مدرسي متراصون قرب الحافلات، ووجوه متعبة لعمال يسرعون نحو مقرات عملهم. كنت أقود بهدوء وأنا أراقب المرايا، بينما كمال بجانبي يلتفت إليّ بين الحين والآخر بنظرات حائرة.
أول محطة كانت “الحداد بوزيد” في بئر خادم. طلبت منه بابًا معدنيًا متينًا بنفس قياسات مدخل شقتي، فجلس على مقعده الحديدي العتيق وسجل المقاسات بدقة على دفتر قديم. التفت إليّ كمال وهو يعقد حاجبيه قائلاً بنبرة ساخرة:
_ باب معدني؟ هل تنوي العيش في قبو نووي؟
أجبته ببرود دون أن أنظر إليه:
_ لا… فقط تعبت من صوت الخشب حين يُفتح الباب.
لم يقتنع، لكنني لم أترك له مجالًا للحديث أكثر.
بعدها توجهنا إلى سوق شعبي في حسين داي. بين الأزقة الضيقة المزدحمة، كان التجار يعرضون مختلف السلع: أدوات مطبخ، ملابس، وحتى سكاكين وفؤوس يدوية. توقفت عند رجل خمسيني يُعرف باسم “عمي الهاشمي”، يضع أمامه صفًا من السكاكين اللامعة والفؤوس الثقيلة. اخترت بعضها ودسستها في كيس بلاستيكي أسود.
هز كمال رأسه مستغربًا:
_ لا أفهم… هل تنوي قتل شخص ما ؟
أجبته بجدية مصطنعة:
_ بالضبط…
ظل يحدّق في وجهي لثوانٍ، ثم تنهد بصوت مسموع.
عدنا إلى السيارة، وأنا وسط الزحام بدأت أقلب في هاتفي. دخلت إلى فايسبوك، وكتبت بعض الكلمات في خانة البحث: منظار، أدوات مراقبة. لم تمر دقائق حتى وجدت صفحة صغيرة تعرض مناظير ميدانية مستعملة. ابتسمت بخفة، وحفظت رقم الهاتف المكتوب في الإعلان.
نظر إليّ كمال وهو يضرب كفًا بكف:
_ منظار؟ بالله عليك، هل ستراقب الطيور من نافذتك؟
_ الطيور… أو ربما شيء آخر.
صمت من جديد، لكن ضيقه بات واضحًا في حركاته، يبدل جلسته كل لحظة، يفتح النافذة ويغلقها دون سبب.
في طريقنا إلى بئر مراد رايس، توقفت عند عدة محلات للهواتف. سألت عن هواتف تعمل بالأقمار الصناعية، لكن أصحاب المحلات كانوا يهزون رؤوسهم نفيًا. واصلنا البحث عبر الأحياء، من الحراش إلى برج الكيفان، حتى وصلنا أخيرًا إلى محل في دالي إبراهيم. على لافتته كتب: “الهواتف العالمية – الطويل”. هناك فقط وجدت ما أبحث عنه، هاتفًا فضائيًا رمادي اللون. دفعت الثمن، وخرجت بالكيس بيدي.
كان كمال يحدّق في الهاتف بدهشة:
_ بالله عليك… ماذا تنوي أن تفعل بهاتف كهذا؟ من ستكلم؟ المريخ؟
أجبته ببرود، دون أن ألتفت:
_ إذا انقطعت الشبكات، سيكون هذا الوحيد الذي لا يخونني.
التزم الصمت للحظات، ثم فجأة انفجر ساخطًا:
_ أنا أكلمك منذ مدة أيها الأحمق! أجبني… ما سبب شرائك لكل هذا؟ أنت تقلقني!
أخذت نفسًا عميقًا وأنا أشد على المقود، وسط تدفق السيارات في الزحام، ثم قلت بصوت خافت لكنه حازم:
_ نحن مع بداية جائحة… تشبه الزومبي.
اتسعت عينا كمال، وارتجف صوته وهو يرد:
_ أتمزح معي الآن؟
_ أتظنني شخصًا يحب المزاح لدرجة اقتناء كل هذا؟
_ لا . بل أظن سبب اقتناءك كل هذا هو حادثة السنة الماضية
_ لا… الأمر لا يتعلق بذلك. إذا لم تصدقني، يوجد الكثير من الأدلة على الإنترنت. لكن يوجد دليل قاطع… في حيي، قرب المتجر.
_ ما الذي تقصده؟
_ لقد حدثت جريمة قتل الليلة الماضية، وكنت حاضرًا وقتها.
_ وما سبب خروجك في ذلك الوقت ؟
_ أصبحت عاملًا في المتجر… ودوامي ينتهي في منتصف الليل.
_ وهل رأيت القاتل؟
_ نعم.
_ ولماذا لم تخبر الشرطة؟
_ لأن القاتل كان متحوّلًا… بفعل ذلك الوباء الجديد.
صُدم كمال، فتابعت:
_ ابحث عن الترند العالمي، ستجد العالم كله يتحدث عن الوباء. الصين غطاها بالكامل، وأمريكا نصفها. منظمة الصحة العالمية أعلنت أنه وباء قاتل ومعدٍ عن طريق التلامس. وإذا لم تصدق… انتظر قليلًا، يومًا، أسبوعًا… سيخرج الرئيس بنفسه ليتحدث عنه، هذا إن لم تكن قد أصبت به قبل ذلك.
تأفف وهو يمسك بطنه:
_ معدتي تؤلمني الآن… وماذا سنفعل إذن؟
_ نجهز أنفسنا… قبل أن ينتشر الذعر، وتُفرغ المحلات، وتزداد السرقات، وقد يصل الأمر إلى أن يقتل بعضهم بعضًا.
قال كمال بحماس ممزوج ببعض التوتر
_ دعنا نمر لأشتري سريرًا أضعه في منزلك.
_ ولماذا هذا؟
_ كي أسكن معك. تبدو مستعدًا بالفعل.
زفرت ثم قلت له:
أظنك قد نسيت عائلتك بالفعل
ليرد كمال بخيبة واضحة
_اه هذا صحيح
_ لكن اذا حصل و قدمت إلي فيجب عليك اتباع بعض القوانين … أهمها: إياك وإخبار أي شخص، ولا تخبر أحدًا بما نملكه من مخزون.
حينها تذكرت بعض الأشياء المهمة لأكمل
_ القاعدة الثانية ذكرتني بأشياء مهمة… الماء للشرب، وخزانات لماء الطبخ والحمام والتنظيف، قوارير غاز… وقوارير بنزين. ستنقذنا إن أصبحنا في وضع خطير… لا سمح الله.
بعد أن انتهينا من حديثنا، انتبهنا معًا أن السيارات أمامنا لا تتحرك. كل ما كان يُسمع هو أبواقها الحادة، تكاد تثقب الأذن. نظرتُ للأمام . وبدأت تدور في رأسي سيناريوهات سيئة، كأن شيئًا سيئا قد حدث.
فتحت باب السيارة، ونزلت منها بخطوات سريعة. وضعت يدي على السقف وقفزت فوقه لأرى ما يحدث. المشهد هناك كان موجعا للقلب ؛ سيارة مقلوبة رأسًا على عقب، حديدها ملتوي، وزجاجها متناثر على الإسفلت. من مظهرها وحده، نسبة نجاة أحدهم بدت شبه مستحيلة.
عدت أدراجي إلى السيارة، أغلقت الباب، وضغطت على المقود بيدي لثانية. التفتُّ نحو اليمين فرأيت طريقًا فرعية ضيقة تخرج من الطريق السريع. دون تردد أدرت المقود نحوها، فاعترضني صوت كمال بتنبيه:
_ بالمناسبة… هذه الطريق أطول من التي كنا فيها.
أجبته وأنا مثبت بصري على الطريق أمامي:
_ يوجد حادث في طريقنا الأول، وسيأخذ الأمر وقتًا طويلًا حتى يُحل.
صمت لحظة، ثم قال بنبرة متسائلة:
_ إذن إلى أين نحن ذاهبان الآن؟
أجبته وأنا أزيد من سرعة السيارة قليلًا:
_ الجامعة… لقد مرت الحصة الأولى بالفعل
مع اقترابنا من الجامعة، لاحظنا حركة غير عادية. الطريق المؤدي إلى المدخل الرئيسي كان مسدودًا بالكامل بسيارات الشرطة والشاحنات العسكرية، والجنود مصطفّون على الجانبين بأسلحتهم. لم يكن المشهد مألوفًا إطلاقًا أمام مؤسسة جامعية، بدا وكأنهم يستعدون لأمر جلل.
التعليقات لهذا الفصل " 5"