2
ثم واصل سراف حديثه بشكل عادي قائلا
_ دعنا نذهب للجامعة الآن
رد كمال باستغراب
_ لكن لا زال الوقت مبكرا
(سراف) أتود التأخر من يومك الأول
خرج كمال من الشقة ليتبعه سراف لإقفال الباب
أدار سراف المفتاح وأغلق الباب مرتين متتاليتين، ثم عاد ليمد يده ويجرب المقبض مرة ثالثة وكأنه يريد أن يتأكد بأن لا مجال لانفتاحه. تبادل كمال نظرة سريعة معه قبل أن يخطر بباله وهو يزفر في داخله: “منذ ذلك الحادث صار يعيش تحت رحمة الشكوك… لا يثق حتى في الحديد نفسه.”
نزلا الدرج بخطوات متتابعة، يرافقهما صدى نعالهما في الممر الضيق، حتى بلغا مدخل البناية حيث أخرج كمال مفتاحاً صغيراً من جيبه وضغط عليه، فارتفع صوت تنبيه قصير من سيارة سوداء غير بعيدة. ما إن ركبا حتى رفع سراف أنفه متأففاً وقال:
“يا رجل… الرائحة هنا تثير الريبة. لو لم أكن أعرفك لظننت أن في الصندوق جثة مخبأة! هل تحاول تقليد ديكستر؟”
ابتسم كمال بخبث وهو يشغل المحرك:
“هاه، لقد انكشف أمري إذن.”
انطلقت السيارة تشق الشارع، يمرّان بمقاهٍ صغيرة بدأت تعجّ بالطلبة المتأخرين، . بعد دقائق قليلة ظهرت الساحة الواسعة أمامهما، تضجّ بالحياة؛ عشرات الطلبة يتحركون في كل اتجاه، مجموعات من الشباب يضحكون قرب مدخل إقامة الذكور، وفتيات يحملن دفاترهن يعبرن نحو الإقامة الأخرى، بينما أصوات الحافلات والسيارات تختلط بالمناداة العالية للسائقين
توقفا عند موقف السيارات المحاذي للبوابة الرئيسية، أطفأ كمال المحرك، وترجلا معاً. ومع أول خطوة في اتجاه المدخل أحسّا بثقل اليوم الدراسي يلوح في الأفق،
في الداخل، تفرّق الرفيقان سريعاً؛ كمال وجد بعض معارفه الذين التحقوا مؤخراً بالجامعة، بينما توقف سراف عند مدخل القاعة ليخرج هاتفه، يبحث بعينيه عن رقم فوجه ويقارنها مع لائحة معلّقة على الحائط كُتب عليها برنامج الحصص اليومية.
تفقد ساعته، فوجد أن نصف ساعة ما تزال تفصله عن بداية أول حصة، فقرر أن يتجول قليلاً بين الممرات والساحات لتمضية الوقت. وبينما كان يتنقل ببطء، لمحت عيناه بعض الطلبة بملامح شاحبة وأجساد مرهقة بشكل غريب، وكأن التعب قد التهمهم في ليلة واحدة. مرّ بجانب مجموعات تتحدث بحماسة وهمس مضطرب؛ سمع إحدى الفتيات تقول لصديقاتها بلهجة مشوبة بالتوتر:
“ظهر فيروس جديد في أمريكا… انتشاره يشبه كورونا لكنه قد يكون أسوأ!”
وفي زاوية أخرى، التقط سراف جملة من حديث طالب مع رفيقه:
“كل هذا بسبب مخدر جديد غزا السوق… قالوا إنه ممنوع في كل الدول، ومن يجدونه عنده يُعتقل فوراً.”
رفع سراف حاجبيه متمتماً في نفسه باستغراب:
“هل يتحدثون عن وباء حقيقي… أم مجرد سيناريو لفيلم رعب جديد؟”
واصل طريقه حتى نزل الدرج المؤدي للخارج. المكان كان شبه فارغ، لا يوجد فيه سوى بضعة طلبة جالسين متفرقين، بعضهم منشغل بالقراءة والبعض الآخر بهواتفهم. هناك، لمح على بعد أمتار فتاة تجلس وحدها، تقلب في هاتفها بصمت،. .
بعد خطوات قليلة، وقع بصره على وجوه مألوفة: مصطفى وسفيان من أيام الابتدائية، وزينو من سنوات المتوسطة. ابتسم واقترب منهم، و تبادلوا التحيات
. كان هذا عامهم الأول في الجامعة، بخلافه هو، .
دار بين الأصدقاء حوار مليء بالضحكات والذكريات، حتى لمح سراف بجانب زينو عربة أطفال صغيرة بداخلها رضيع نائم. لم يفوّت سراف الفرصة ليلقي مزحة:
“أتزوجت وأنجبت من دون اخبارنا يا زينو؟ عيب عليك!”
انفجروا ضاحكين، لكن الضحك لم يدم طويلاً. شعر سراف بلمسة على ظهره، فالتفت بسرعة ليرى امرأة مسنّة مقوّسة الظهر، وجهها مملوء بتجاعيد وبقع صفراء داكنة تزيد ملامحها قبحاً.
قال لها بلطف:
“أهلا عمتي… هل تحتاجين شيئاً؟”
لكنها لم تجبه، بل بدأت تحرّك وجهها بتعابير غريبة، يرافقها أصوات غريبة بصوت غليظ كأنها تصدر من حنجرة مشروخة. بعد لحظات، عادت ملامحها للبرود التام، وأمسكت عربة الرضيع تسحبها ببطء. ابتعدت بخطوات ثقيلة تجرّ فيها قدميها على الأرض، ثم توقفت لتخرج من جيبها علبة دواء قديمة، تناولت منها حبة وأكملت طريقها كأن شيئاً لم يكن.
رفع زينو حاجبيه متسائلاً:
“ما خطب تلك العجوز يا ترى؟”
أجاب سراف وهو يحدق في ظهرها البعيد:
“في البداية لم أتعرف عليها… لكن بعد التدقيق، نعم… إنها السيدة فوزية. كانت امرأة طيبة، لكن شكلها تغيّر تماماً منذ السنة الماضية، أصبح أشبه بـ…”
قاطعه مصطفى ضاحكاً:
“زومبي، هاهاها!”
رمقه سراف باستنكار:
“لا تقل هذا، ربما أصابها مرض خبيث… المسكينة.”
تدخل سفيان ساخراً:
“وبالمناسبة… كيف لعجوز بهذا العمر أن تمتلك رضيعاً؟ هاهاها!”
أجاب زينو :
“ربما حفيدها.”
بعد تبادل بعض الكلمات، ودعهم سراف قائلاً:
“المهم يا شباب، أنا عائد للداخل. إذا احتجتم شيئاً لا تخجلوا من الطلب… وداعاً.”
شكره البقية ولوّحوا له، فاتجه نحو الدرج المؤدي إلى الجامعة. وبينما كان يصعده، تمتم في نفسه ساخطاً:
“لماذا يجب أن يتواجد هذا الكم من الدرج ؟ تبا… لماذا لا يضيفون مصاعد هنا؟”
وفي منتصف طريقه، مرت قربه الفتاة التي كانت جالسة لوحدها حيث كانت ذات شعر مجعد بلون بني فاتح مائل إلى الأصفر. سمعها تتمتم بصوت خافت:
“لقد وصل الأمر حتى للعجوز…”
توقف سراف بلا وعي قائلاً:
“أتتحدثين عن العجوز فوزية؟ ما الذي أصابها؟”
توقفت الفتاة بدورها، التفتت نحوه وعيناها تحملان شيئاً من الغموض، وقالت ببرود:
“التحول.”
اقترب منها سراف بضع درجات، مستفسراً:
“وما هو هذا التحول؟”
أخرجت هاتفها وبدأت تبحث، ثم أدارت الشاشة نحوه قائلة:
“هل تعرف هذا المخدر؟”
تأمل الصورة جيداً قبل أن يرد:
“لا… جديد علي. لما السؤال؟”
كتبت بسرعة على الشاشة وأرتها له:
“هذا واحد من الممنوعات الجديدة التي غزت السوق العالمية. سعره رخيص، جودته عالية، ويجعلك مدمناً من أول تجربة.”
ابتسم سراف بخفة وقال مازحاً:
“تقولينها عن تجربة أو ماذا؟”
رفعت حاجبها وأجابت:
“لو جربته… ستراني مثل هذا الشخص في الفيديو.”
أدارت هاتفها مجدداً، لتعرض مقطعاً انتشر كـ ترند في أمريكا: شاب نصف عارٍ يقف وسط الشارع مانعاً مرور السيارات، جسده مغطى ببقع صفراء وسوداء مقززة. نزل رجل أصلع من سيارته، دفعه الغضب ليوجه له لكمة طرحت الشاب أرضاً بلا حركة. وحين اقترب ليتأكد، هجم عليه الشاب فجأة وعضه بوحشية، قبل أن يطرحه الأصلع أرضاً بضربة قوية جعلته يغشى عليه.
أنهى سراف الفيديو وقال مستهزئاً:
“كل شيء يبدو طبيعياً سوى تلك البقع المقرفة. لا أفهم سبب الضجة… أمريكا مليئة بالغرائب.”
لكن الفتاة عقبت بجدية:
“أتدري أين هما الآن؟ الشاب نُقل إلى مستشفى الأمراض العقلية… حالته خطيرة، صار يهاجم أي إنسان يراه كالحيوان. أما الأصلع… فقد ظهرت على جسده نفس البقع بعد يوم واحد. و الأمر الأكثر غرابة هو أنه تم حجز الأصلع و قامت السلطات بمنع زيارته من قبل الجميع حتى عائلته .”
ارتسمت الصدمة على وجه سراف:
“إذاً… هل نحن أمام كورونا آخر؟”
هزت رأسها قائلة بتوتر:
“بل أسوأ بكثير.”
بلع ريقه ببطء قبل أن يسألها:
“وهل وصل الأمر إلى الجزائر؟”
أجابته بحدة:
“ليس الجزائر فقط… بل وصل إلينا في الجامعة.”
ارتبك سراف أكثر:
“ماذا تقصدين؟”
قالت بنبرة حاسمة:
“أتحدث عن تلك العجوز التي رأيتها قبل قليل… لقد أصبحت مدمنة لذلك المخدر و في كل مرة تتناوله يصبح الوضع أسوأ حتى ينتهي بها الأمر مثل الميت الحي.”
أخذ سراف نفساً عميقاً وقال:
“وما الذي تنوين فعله ما دمت تعرفين هذا؟”
ردت الفتاة مطفأة هاتفها:
“لا شيء… ليس لدي دليل على كلامي … و كل ما أنوي فعله إذا حدث أمر ما هو النجاة بأي وسيلة.”
تساءل سراف متعجباً:
“واو يا لها من عزيمة … بالمناسبة لهجتك لا تبدو من هنا؟”
ردت قائلة:
“ملاحظة جيدة … هذا صحيح أنا لست من الجزائر بل من الشمال و بالتحديد بجاية”
قال سراف بعد تفكير قصير:
“أها … إذن أصولك قبائلية إذا لم أكن مخطئا صحيح”
ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهها:
“حسناً… يمكنك قول ذلك.”
ابتسم بدوره وقال :
“بالمناسبة… أنتِ في السنة الأولى، أليس كذلك؟”
هزت رأسها بالنفي ثم ردت:
“أعرف أن طولي لا يتناسب مع عمري… لكنني في السنة الثانية. وأنت؟”
ابتسم سراف قائلاً:
“نعم… أنا كذلك.”
و مع وصولهما للجامعة نظر سراف في هاتفه ليكتشف أن الحصة قد بدأت بالفعل
لذا بدأ يسرع في خطواته مبتعدا عن الفتاة و قال لها مودعا :
“سرّني الحديث معك، لكنني متأخر عن الحصة يجب أن أذهب… مع السلامة.”
ظلت صامتة و لم تقل شيئا حتى اختفى الغريب عن أنظارها
Chapters
Comments
- 4 - على بعد خطوة من الموت منذ 8 ساعات
- 3 - شرارة الخطر منذ 8 ساعات
- 2 - الشائعات تزداد منذ 8 ساعات
- 1 - الحياة اليومية منذ 8 ساعات
- 0 - الإنطفاء الأول منذ 8 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 2"