“تفضّلي بالدخول، يا قدّيسة، وسأمضي لاستدعاء قداسته.”
أومأت سيسيليا برأسها في سكينة، ثم خطت وحدها إلى قاعة الصلاة.
ساد الصمتُ المهيب أرجاء المكان بعدما انسحب “ميغيل” مصطحباً معه “نوكس”، فكأنّ الأرضَ قد حبست أنفاسها، تنتظر سراً عظيماً أن يُستعلن.
همست وهي تجول ببصرها:
“لم يتغيّر شيء هنا…”
ارتفعت عيناها إلى السقف المقبّب حيث جدارياتٌ بديعة تروي ملاحم نورانية، وأشعة الشمس تتشظّى عبر الزجاج الملوّن الموشّى بالعظمة، فتسقط على الأرض كأطياف ذهبٍ مذاب مرصَّعٍ بجواهر. وفي صدر القاعة، شامخاً كالطود الراسخ، انتصب تمثال رخاميّ يلامس العلوّ بجلاله، كأنّه مرآة تُجسّد رحمة السماء وسلطانها.
هنا بالذات… في هذا الموضع المقدّس، كانت أوّل يقظة لها بعد أن حُلّت روحها في هذا الجسد الغريب.
لكنّها لم تفهم قط لِمَ وُجدت – وهي طريحة الحُمّى – في قاعة الصلاة، لا في قاعة الشفاء والعلاج.
تقدّمت بخطوات متردّدة، والذكريات القديمة تنهش قلبها، حتى بلغت التمثال المهيب، حيث الملامح المشرقة يجلّلها سترٌ من بياض، فيما الابتسامة الوادعة تفيض سكينةً على العابرين.
تأمّلته طويلاً، ثم جثت على ركبتيها في خشوعٍ ظاهريّ.
لكنها لم تضمّ يديها كما يفعل المصلّون، بل رفعت إصبعها في تحدٍّ مكتوم وقالت في سرّها:
“إن كان ما ألمّ بي من رؤيا هو من مشيئةٍ منك، فاغفر جرأتي… وأعد إليّ خيط عمري المقطوع.”
كانت كلماتها أقرب إلى مناجاةٍ متردّدة بين الشكّ والرجاء، إذ كيف لامرأة لم تُؤمن في حياتها الأولى بالحاكم أن تنحني اليوم؟
تردّدت نجواها في الفضاء الرحب، فلم يأتِ جواب، ولم ترتجّ الأرض تحت قدميها.
ابتسمت بسخرية هامسة:
“حتى الصدى صامت… لا ردّ ولا نجوى.”
لم تكن تتوقّع أن يهبط ملاكٌ غاضب، أو يُفتح لها باب العودة إلى عالمها الأول؛ ومع ذلك نهضت، تنفض الغبار عن ركبتيها. لكن بصرها وقع على شيء يطلّ من تحت المنبر.
فالمكان لا يُؤذن بدخوله إلا للكرادلة والبابا والقدّيسة.
وما كادت تقلب الصفحة الأولى حتى باغتها صوت مهيب رخيم:
“يا قدّيسة.”
انتفض قلبها، والتفتت سريعاً، فإذا بظلّ جليل يملأ المدخل.
رجل ذو شعر أبيض كريش النسور، يبتسم ابتسامة تفيض وقاراً ونوراً. إنّه قلب المعبد… قداسة البابا.
وضعت يدها على صدرها، وانحنت قائلة بخشوع:
“أهلاً بك تحت بركات العرش الأعظم.”
اقترب منها بخطوات واثقة، وصوتٍ دافئ مهيب:
“أعذريني، هل أطلتُ انتظاركِ؟”
أجابت: “كلا يا قداسة البابا، كنتُ في صلاة… فمضى الوقت كلمح البصر.”
ولو أنّ ما جرى على لسانها لم يكن صلاةً خالصة، بل كلمات أقرب إلى سخرية باطنة. ومع ذلك أجابت بثبات، ثم رفعت عينيها إلى من يوازي الملوك هيبةً وجلالاً.
رغم قِلّة علمها بأسرار العقيدة والسياسة، إلا أنّها كانت تدرك عظمة هذا الرجل؛ فهو هبة قرنٍ كامل، صاحب قوّة قدسيّة لا يجود بها الزمان إلا نادراً. الأقرب إلى الحاكم، ومع ذلك ينزل بنفسه إلى أوطأ الدرجات، يبذل، ويحنو، ويُعطي حتى لُقِّب بقدّيس هذا العصر.
وفوق ذلك كله… كان هو عرّاب سيسيليا، وأوّل من غمر قلبها بمحبّة لم تعرف مثلها.
لم تحفظ في ذاكرتها أباً ولا طفولة، لكن وجود البابا في حياتها كان كفيلاً بأن يسكب في روحها دفئاً يوازي ألف بيت. هو من خلع نعليه ليكسو قدميها العاريتين يوم لجأت باكية، وهو من غمر ليلها الطويل بقداسته حتى شُفيت من سقمها.
ابتسم البابا وقال بلطف:
“لقد دعوتكِ اليوم كي نرفع صلاةً معاً بعد طول غياب… لكن يبدو أني تأخرت. لو كنت أعلم، لأعددتُ لكِ شايكِ المفضّل.”
ابتسمت: “لا بأس… فالشاي يمكن أن ينتظر، أما اللقاء فلا.”
لكن فجأة، انقطعت عن الكلام، إذ أحسّت بنظرات حارّة تتشبّث بها.
لم يكن عسيراً أن تعرف مصدرها.
خلف البابا، أطلت طفلة نحيلة، تخفي وجهها بخجل وراء ردائه.
“قداستك… وهذه الطفلة؟”
قال برفق: “آه، نسيت أن أقدّمها. وجدتها خلال بعثة إغاثة إلى مقاطعة ضربها الجفاف. وقد تفتّحت فيها موهبة النور القدسي حديثاً، فهي الآن كاهنة مبتدئة. اسمها سينا.”
تألّقت عينا الطفلة السوداوان كحجري أوبسيديان مصقولين، وابتسم البابا قائلاً:
“لقد أصرّت أن تراكِ، إذ تعلّقت بك تعلّقاً عظيماً.”
دارت الطفلة بجسدها بخجل، فانبثقت بسمة عفويّة على الوجوه. أمّا سيسيليا، فتنفّست تنهيدة خفيّة؛ فهي تعلم أنّها ليست القدّيسة الطاهرة التي تراها الطفلة، بل روح غريبة تحمل قدراً غامضاً.
ومع ذلك، لم تشأ أن تحطّم براءة البنت. فتلمّست جيبها، فلم تجد سوى قطعتي حلوى خبأتهما عن “نوكس”.
ابتسمت وقالت: “مرحباً صغيرتي… هل ترغبين في قطعة حلوى؟”
تدخّل البابا مبتسماً بحرج:
“سينا أصغر من قدّاستك بخمس سنوات فقط.”
“آه…!”
فإن كانت هي في العشرين، فالفتاة إذن في الخامسة عشرة!
عمرٌ لا يُنادى فيه ب صغيرتي ولا تُفتتن فيه بحلوى.
ظنّتها أصغر بعشر سنوات… ربما من شدّة نحولها؟
مدّت يدها لتسحب الحلوى، لكن الطفلة خطفتها بسرعة وتهلّل وجهها:
“شكراً جزيلاً!”
ثم اختبأت خلف البابا من جديد، وابتسامتها ترتجف كزهرة صغيرة في مهبّ النسيم.
ربّت البابا على رأسها بحنوّ وقال:
“كثيرون مثلها يا قدّيسة، ينظرون إليكِ بإعجاب لا يزول.”
ثم أردف:
“ولهذا جئتُ أطلب منك أمراً. في احتفال الإغاثة القادم، أودّ لو تنوبين عنّي في إتمام المراسم. ما رأيكِ؟”
تمتمت في سرّها: إنّه رأي شديد السوء…
فكيف لامرأة ترى أن السماء قد لا تعيرها اعتباراً أن تقف في قلب الطقوس؟
ألن يكون ذلك تحدّياً صريحاً هذه المرّة؟
لكن خاطراً وميضياً أشرق فجأة في أعماقها: أم أنّها فرصة لا تُعوَّض؟
كان العرض أشبه بإغواء يلمع كالسيف في الظلام… ورغم أنّ العقل السليم يفرض الرفض القاطع، إلا أنّ قلبها اضطرب بالميل إليه.
“إنَّ العرضَ لَشرفٌ عظيم، غير أنّي لم أُعَيَّن بعدُ تعيينًا رسميًّا…….”
فكان ذلك عذرًا ملائمًا، إذ لا شك أنّ البابا قد بلغه خبرُ فشل “نوكس”.
لكن البابا هزّ كتفيه بخفّة، كأنّ الأمرَ عنده لا يَعدو أن يكون هباءً:
“إنّما المهم أن تكوني أنتِ الكائنة التي يرعاها الحاكمُ بعينه. أمّا إرادةُ المخلوقات فما وزنها وما قدرها؟”
وكان في قوله تعريضٌ لاذع، مفاده أنّ حتى رأي الإمبراطور لا يساوي شيئًا.
لم تجد “سيسيليا” جوابًا أليق من ابتسامةٍ متكلَّفة، لكن البابا تلقّى تلك الابتسامة وكأنّها موافقة، أو لعلّه آثر أن يفسّرها كذلك، فاندفع بخطى واثقة قائلاً:
“ينبغي أن نُبشِّر الجميع بهذا الخبر السعيد، فورًا!”
شهقت: “الآن؟!”
“نعم، إلى قاعة الصلاة الكبرى. لقد أوشك وقتُ عبادة المؤمنين أن ينتهي.”
“قداستك؟!”
ابتسم: “أتوق لرؤية فرحتهم حين يسمعون.”
“قداستك!”
مدّت “سيسيليا” يدها، تتشبّث بطرف ثوبه في لهفة.
قال بدهشة: “قدّيسة؟”
“آه… الأمر أنّ…”
‘سأجنّ!’
فمهما بدا قريبًا منها، يظلّ هو البابا نفسه، رمز العظمة والهيبة.
ولكي تُخفي جرأتها، سارعت تخرج الدفتر الذي كان بيدها منذ البداية، ترفعه أمامه فجأة:
“هذا! وجدته تحت المنبر!”
تأمّله البابا بعينين متفحّصتين: “هذا…”
قالت مترددة: “ألعلّه من متاع قداستك؟”
رفع حاجبيه: “أما عرفتِ ما هو؟”
“دفترٌ قديم… أليس كذلك؟”
ارتسم على محيّاه تعبيرٌ غامض، ثم تناوله بيدٍ متأنّية، وقال بصوت خافت:
“ليس دفتراً عادياً، بل هو مذكّراتي الشخصيّة.”
تجمّدت أنفاسها.
يا للمصيبة! لو كانت قلّبت صفحة واحدة، لكانت جريمة لا تُغتفر.
هتفت مسرعة: “لم أفتحه قط، فاطمئن!”
وهو، رمز الرحمة والسماحة، صدّق قولها دون جدال. دسّ المذكرات في كمّه الفضفاض، ثم التفت مبتسمًا:
“والآن، إلى قاعة الصلاة الكبرى!”
ارتجف قلبها، وهمست: “ألم يكن قد نسي الأمر؟!”
لكن البابا سبقها بخطاه، وهي تسير خلفه مثقلة، كأنّها تمشي إلى قدرٍ لا مهرب منه.
‘لقد وقع المحظور…’
ومع ذلك، لم يكن أصعب ما في الأمر أن ترفع صلاةً أمام الجموع… بل أن تفعل ذلك وهي تحمل قلبًا يخلو من أيّ إيمانٍ حقيقي.
التعليقات لهذا الفصل " 9"