8
كما كان هيلتاين يتوقّع، لم يكن سيّده إلا كابوسًا حيًّا، تجسيدًا مرعبًا لكل ما قد يُثير الهلع في قلبٍ بشري.
رغم طبيعته الصادقة التي لا تسمح له بالنفاق حتى على شفير الموت، لم يكن صدقه ذاك لينفعه كثيرًا. ففي كل مرة يواجه فيها نظرات راين الثاقبة، كأنما شفرات من جليد تخرق الضلوع، ويجتاحه بردٌ يترك راحتيه مرتعشتين، وقطراتٍ من العرق البارد تسيل فوق عموده الفقري.
‘إن استمرّ الأمر هكذا… فلن أعيش طويلًا.’
كرّر تلك العبارة مرارًا في خلده، حتى بات يفكّر جديًّا بتقديم استقالته من هذه الحياة… أو على الأقل من هذه الوظيفة التي تتآكل روحه يومًا بعد يوم.
ثم، ذات صباح بلا نذير ولا منطق، تبدّل كل شيء.
وكأن شظيةً سحرية استقرّت في عقله، شرع راين بجمع أردية سوداء كمن ينسج لعنة، بينما ذابت نبرته الجافة، وتحولت كلماته من مللٍ قاتل إلى نغمةٍ تفيض بالحيوية الغريبة.
ثم، دون وداع أو تفسير، غادر برج السحر منذ شهرٍ كامل.
‘ومن بين كل البقاع… يختار أن يستقر جوار قصر آل ويبردين!’
كأن ذلك لا يكفي، فقد بدأ يقترب من القدّيسة بوجهٍ مريع، كأنما اتخذ القبح قناعًا يخفي تحته شيئًا أفظع بكثير.
لابد أن وراء هذه المسرحية نوايا شيطانية لا تخطر لبشر، لكن هيلتاين لم يرغب لا في الفهم ولا في المعرفة.
كل ما طمح إليه، أن يُنتشل من دوامة العمل الجهنّمية التي تضاعفت بغياب سيد البرج.
“ومتى تعتزم العودة؟”
سأله بهدوء مشوب بالرجاء.
“لا أعلم.”
كانت الإجابة أبرد من هواء القمم.
“… وهل هناك من يعرف سواك؟”
“لم أعد صاحب القرار.”
“أي هراء مقدّس هذا؟!”
صرخ في داخله وهو يضغط على أسنانه، ويشعر بأن شرايينه على وشك الانفجار.
“تباً… أريد أن أستقيل.”
وفي ذروة كظمه وانفعاله، سمع الصوت الرهيف الذي لا يخطئه:
“هل لديك ما تريد قوله؟”
راين، وقد نزع ردائه القاتم، مرّر يده في خصلاته المنفوشة بعشوائية، كاشفًا عن وجه جامد، لا يحمل ظلًّا من مشاعر بشرية.
‘أيّ براءة يتظاهر بها هذا الشيطان؟’
في كل مرّة يتسلّل فيها وجهه الحقيقي من بين التمثيل، كأنما تهبط درجة حرارة الهواء عشر درجات كاملة.
هيلتاين ابتلع ارتجافه، وشدّ قبضته قائلًا:
“لقد تمّت مراقبة ‘ذلك المكان’، كما أمرت.”
“أعلم.”
“هل… تخلّصت من المراقب بالفعل؟”
“نعم.”
“… كيف؟”
لكنه لم يُنهِ سؤاله. نظرات راين كانت قد سبقت الكلمات.
نظر هيلتاين صوب الزاوية المظلمة، حيث استندت مجرفة سوداء بلون الموت، ثم إلى النافذة، حيث تمايلت زهور الأقحوان البيضاء برقة… كما لو كانت تُغذى على أسرارٍ دُفنت تحتها.
لا حاجة لتفسير. “المراقب” صار جزءًا من التربة.
تجاهل الرعب الذي دبّ في أطرافه، وأكمل بلغة الواجب:
“لقد زرعتُ العيون كما أمرت… لكن تتبّع تحرّكاتهم ليس بالأمر الهيّن. هل انتقالك إلى هذا المكان له علاقة بالأمر؟”
“را— راقب فقط. لا تتدخّل.”
عاد راين إلى نبرته المتلعثمة المصطنعة، كمن يتقمّص هيئة إنسانٍ لا يُجيد الحديث.
‘حقًا؟ يظن أن التلعثم يصنع البراءة؟’
هيلتاين ابتلع ضحكته المرّة، ثم انحنى بهدوء.
فهو، بكل بساطة، لم يكن مستعدًّا لأن يكون السماد التالي في حديقة الأقحوان.
* * *
على الطرف الآخر من العالم… حين يتنهّد القلب في عربة تائهة.
يُقال إننا لا نُدرك قيمة النعمة إلا حين يُسلب منا حضورها.
داخل عربةٍ خشبية تتأرجح فوق طرقٍ ترابية، جلست سيسيليا وهي تُمعن في لعن حظها، وتشعر بامتنان عميق لحضارة القرن الحادي والعشرين التي خلّفتها خلفها.
“في عالمٍ يعجّ بالسحر والقديسين… ما زالت العربات هي وسيلة النقل؟!”
كانت قد ركبت العربة من قبل، أجل، لكنها لم تتخيّل قط أن تكون هذه التجربة بهذا القدر من المعاناة.
سرعة السير البطيئة؟ يمكن احتمالها.
لكن الغثيان الذي يلفّها كضباب كثيف؟ ذاك لا يُغتفر.
“سيسي، هل أنتِ على وشك الإغماء؟”
سألها نوكس، الجالس أمامها، وهو يُغلق كتابه بهدوء مصطنع، وملامحه تتلوّن بقلق يبدو أقرب إلى السخرية.
“لم نقطع حتى نصف الطريق بعد.”
قالها بنبرةٍ تشبه الرثاء، لكنها تخفي وراءها لذة شماتة لا تخطئها أذن.
“إن عجزتِ عن التحمّل، فلدينا خيار آخر… يمكننا السير على الأقدام! يوم واحد، أو يومان على الأكثر.”
“حقًا؟”
“أجل، يوم واحد لي. ويومان لكِ، بساقيكِ القصيرتين.”
…
كان يسخر. لا أكثر، ولا أقل.
رمقته سيسيليا بنظرةٍ تشقُّ الحياء، تمتمت من تحت أنفاسها:
“ليتني أعضّ لساني وأرتاح.”
“هل قلتِ شيئًا للتو، سيسي؟”
‘نعم، قلت، أيها اللئيم.’
أشاحت بوجهها إلى النافذة، حيث امتدّت غابات زمردية كأنها تُغنّي للريح، وسقف السماء فوقها يرسم لوحة من الأزرق النقي…
يومٌ كهذا خُلق للتنزّه، لا للعذاب.
“ما حاجتي بهذا كلّه؟”
كلّ ما تعانيه كان سببه دعوة من المركيز، ذلك النبيل الذي قابلته في الحديقة قبل أيام:
“الاحتفال بالمعونة يقترب… أليس من الأنسب زيارة قداسته قبل ذلك؟”
“آه…”
“دوركِ في هذا الحدث سيكون محوريًا، يا سيسيليا.”
كانت كلماتٌ مغلّفة باللباقة، لكنها حملت وقع الأوامر.
ورغم أنها “قدّيسة مزيفة”، إلا أن عبء الاسم لم يُنتزع من كتفيها.
في البداية، أضاء الحماس وجهها… حتى اكتشفت أن نِكس سيكون مرافقها، وأن الرحلة ستكون عبر “العربة”.
لكن، لحسن حظها، كانت العاصمة القديمة، حيث معبد النور، قريبة نسبيًا من أراضي ويبردين.
قبل أن تخور قواها بالكامل، توقفت العربة فجأة.
“لقد وصلنا، يا سيدتي القدّيسة، ويا سيدي النبيل.”
وقبل أن يُكمل السائق كلمته، كانت سيسيليا قد دفعت الباب بعنف، كأنما تنقذ نفسها من الغرق.
لكنها نسيت أمرين قاتلين:
أولًا، أن هناك وفدًا من الكهنة ينتظرونها خارج العربة.
وثانيًا، أن ساقيها بالكاد تستطيعان حمل جسدها المترنّح.
وهكذا، وبينما كانت تهوي في سقوطٍ محتوم، أغمضت عينيها، مستسلمة للإهانة القادمة.
لكن الأرض لم تستقبلها.
حين فتحت عينيها، وجدت نفسها بين ذراعي رجل… طويل، عريض المنكبين، ذو ملامح مألوفة وعينين من صفاء السماء.
“هل أنتِ بخير؟”
“… نعم، شكرًا لك. من تكون؟”
“أنا ميغيل، نائب قائد فرسان النور.”
“السير ميغيل.”
“نعم، سيدتي القدّيسة.”
شعرٌ فضيّ يتراقص مع النسيم، ودرعٌ أبيض يعكس نور الشمس، وعينان ساكنتان كمرآة ماء راكد…
وسيمٌ، نعم، لكن وسامته لا تصرخ، بل تهمس.
وجهه يحمل توازنًا عجيبًا بين صلابة الفارس… ورقّة الزهرة.
تذكّرته سيسيليا بوضوح.
رأته لأول مرة بين صفوف الكهنة في قصرها، كغصنٍ من نور في غابةٍ من اللحى والشروخ، وقد بدت هالته أشبه بحكاية تُروى لا تُعاش.
“ميلاني! هل ترين ذلك؟! أشعر وكأننا في رواية!”
“لا أعرف ما تقصدين، لكن لا تفكّري فيه!”
“أردت فقط أن أعرف اسمه…”
“حتى اسمه خطر! إنه فارس مقدّس!”
“… أي نذر نفسه؟”
“جسدًا وروحًا.”
“آه…”
يا لسخرية القدر. لا شيء يجذبها أكثر من المحرّم.
لكنها كانت تعرف — لا، تشعر — أن هذا اللقاء… لن يكون إلا فصلًا عابرًا في رواية أعظم.
انسحبت من بين ذراعيه بهدوء، كما تنسحب يدٌ من صفحة كتاب.
“ميغيل، لمَ لا تعتني بنوكس أيضًا؟”
قالها نوكس، وهو يترجّل بابتسامة عريضة، كمن يتقصّد الإزعاج.
“هل تعرفه؟”
سألت سيسيليا، مستغربة.
“بل هو أعز أصدقائي!”
قالها نوكس، واضعًا يده على كتف ميغيل.
“أليس كذلك؟”
“… للأسف، نعم.”
“يقصد لحسن الحظ، بالتأكيد!”
لكن سيسيليا، بعينٍ نسائية لا تُخدع، رأت الحقيقة:
في عيني ميغيل، كان نفس التعبير الذي تراه في مرآتها حين تتخلّى عن الأمل — مزيج من النفور والشفقة.
لكن بدا أن نظرات الآخرين المليئة بالاحتقار، لم تكن تُزعج نوكس إطلاقًا… بل كانت تُرضيه وكأنها وسام شرف.
ابتسامته البريئة تحوّلت فجأة إلى ملامح حزينة مفتعلة، ناطقة بالدراما.
“أوه… سيـسي الصغيرة، أنتِ تغارين، أليس كذلك؟ لا تقلقي. مع أنكِ لا تملكين صديقًا واحدًا، ولا تستطيعين حتى النزول من العربة دون كارثة، إلا أنني سأكون لكِ كل شيء. أخ وصديق… بل وعائلة أيضًا!”
…لو سمعته أحدهم لتوهم حقًا أنه بطل إحدى روايات الرومانسية النبيلة.
لكن الحقيقة؟ أنه لم يفعل سوى السخرية من وحدتها — بكل احتراف لا يخلو من وقاحة.
“تنحّ جانبًا.”
قالتها سيسيليا بنبرة باردة كالثلج، قبل أن تدوس قدم نوكس المتباهية دون شفقة.
“آه! سيـسي، أختي الجميلة، لقد آلمتِ قدم أخيكِ.”
قالها متظاهرًا بالألم، وهو يبتسم في خفية.
“خبر سار.”
أجابته وهي تحوّل نظرها عنه.
“ألا… ترفعين قدمكِ من فوقها؟”
“سأرفعها، عندما تختفي أنت من أمام ناظري.”
ردّها القاطع أجبر نوكس أخيرًا على التزام الصمت.
وبينما كانت مشاحنة الأخوين تثير الغيظ، جلس ميغيل في مقعده يراقب المشهد كما لو أنه يُشاهد عرضًا هزليًا من الدرجة الأولى. ثم ما لبث أن التفت بنبرته الرصينة:
“علمت أنكما جئتما لمقابلة قداسته. يؤسفني إبلاغكما أن البابا لا يزال يستقبل أبناء الطائفة حاليًا.”
“لا بأس، يمكننا الانتظار.”
أجابت سيسيليا بهدوء.
“أنا لا أريد الانتظار.”
اعترض نوكس كعادته، بلا جدوى.
“أشكركم على تفهّمكم. هل تفضلان الذهاب إلى قاعة الصلاة؟”
قالها ميغيل بلطف مهني.
“ميغيل؟! قلت إنني لا أريد!”
صرخ نوكس بنبرة احتجاج طفلية.
“سنذهب، بلا شك.”
أجاب ميغيل ببساطة، متجاهلًا شكواه.
ثم مدّ يده نحو سيسيليا. لم يكن بحاجة إلى شرح — فقد أظهرت رحلتها السابقة من العربة أن إسقاطها مجددًا احتمال وارد.
بادرت بالرفض:
“لا داعي، أظنني أستطيع المشي الآن… أو ربما… لا. في الواقع، أرجوك.”
غيّرت رأيها سريعًا حين لمحت ومضة خفيفة من خيبة الأمل تومض في عينيه.
مدّت يدها لتستند إلى ساعده الصلب كفولاذ مشغول، فاستقبلها ميغيل بابتسامة هادئة.
ابتسامة تنتمي لطفلٍ من أبناء النور… فارس نذر حياته للرحمة والخدمة.
ورغم أنها “قديسة مزيفة”، وجدت نفسها الآن تحت حماية نائب قائد فرسان النور، تتلقى الإرشاد كما لو أنها حقًا من نسل السماء.
لحظةٌ ساحرة… مهيبة حتى أثقلت على قلبها بشيءٍ من الحرج.
لكن، لحسن حظها، كانت قاعة الصلاة قريبة.
عند بابها، حيث زُيّنت النقوش بأزهار الآيريس ودوامات زهرة الساعة — كلاهما رمزان يُنسبان لنعمة الحاكم — توقف ميغيل بخطاه الواثقة.
وتوقّفت معه أنفاسها، للحظةٍ خاطفة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 8 2025-08-10
- 7 2025-08-10
- 6 2025-08-10
- 5 2025-08-10
- 4 2025-08-10
- 3 2025-08-10
- 2 2025-08-10
- 1 - رحلة خلف السوار المسروق 2025-06-16
- 0 - الوصف والمُقدمة 2025-06-16
التعليقات لهذا الفصل " 8"