6
“هاه…”
تنهيدةٌ ثقيلة تهاوت من بين شفتي سيسيليا وهي تقف أمام فتحة الجدار الصغيرة، جبينها معقودٌ كعقدة الحيرة والتأفف.
“تشارلز! إن عدتَ، سأكافئك بوجبةٍ شهية!”
صمتٌ مطبق…
لا صوت، لا مواء، لا همسة.
“تشارلز؟”
نادته بصوتٍ ممتزج بالرجاء والضيق، لكن القط الأرستقراطي لم يُعرها أدنى اهتمام، وكأن صوتها خيطٌ من هواءٍ مرّ بجانبه واندثر.
كانت على يقين، حدّ القسم بمعصمها، أنه سمع نداءها… وتجاهله عامدًا متعمدًا، كعادته المتغطرسة.
“أهذا ما سنواجهه من جديد؟ تخريبٌ ودمار؟”
إن تركته هكذا، فالحديقة ستُسحق تحت مخلب عبثه مرة أخرى.
كيف تنسى ذلك اليوم المشؤوم، يوم وطئت أقدام تشارلز أرض قصر المركيز؟
يومها، لم تمضِ ساعات على وصوله حتى حطم تمثالًا نباتيًا بديعًا، عمل عليه البستاني طيلة شهر.
البستاني بكى بحرقة، وبالكاد عوّضته بالمال… لكن مع راين؟
مع ذلك السيد الذي يرى في كل زهرة روحًا، وفي كل غصنٍ ميثاقًا من الجمال؟
كلا، المال لن يُجدي هنا.
وبينما اليأس يربض فوق كتفيها، استجمعت سيسيليا قواها وبدأت تدفع جسدها عبر الفتحة—التي بدت اليوم، ولسببٍ غامض، أضيق من أي وقتٍ مضى.
والمفاجأة؟
عَلِقَت.
عند الخصر؟ عند الورك؟ لا تدري.
هل هو الغداء الثقيل؟ أم زينة فستان اليوم المُرهف بالدانتيل وشرائط القماش؟
أيا كان السبب، فقد علقت هناك، نصف جسدها داخل، ونصفه خارج.
الحرجُ سرى في جسدها كسمّ بارد.
ثم فجأة، ومن العدم…
يدٌ دافئة، كبيرة، ثابتة، أحاطت بقفصها الصدري، ورفعتها دفعةً واحدة كما لو كانت زهرة لوتس تُقطف برفق.
“هل… أنتِ بخير؟”
ارتفعت فجأةً عن الأرض، فوضعت يدها على كتفه كاستجابة لا إرادية.
وكان هو…
راين.
ذلك الغامض، العاشق الأزلي للعباءات، المتخفي تحتها كما لو أن العالم لا يليق به.
“تبًّا…”
لم تتخيّل لقاءه بهذا الشكل المُخزي.
حتى هي، صاحبة الوجه السميك والردود الجريئة، لم تستطع إخفاء خجلها وهي تُنتشل من فتحة جدار كقطةٍ ضالة.
“ذاك، تشارلز… تسلّل إلى هنا مجددًا…”
همست، وكأنها تبرر لنفسها أكثر مما تبرر له.
فأجاب بابتسامةٍ لم تُرَ، لكنها سُمعت:
“يبدو أن حديقتي راقت له. كان يلهو بين الزهور قبل قليل.”
لم يكن يتلعثم، لم يكن يتردد.
كأن نسمات الود قد نسجت حول كلماته غلالة من الراحة.
حتى وإن غابت ملامحه تحت العباءة، إلا أن الصوت الذي خرج منه كان دافئًا كحفيف شجرةٍ عند المغيب.
ارتباكها كان كالمدّ، يحاول الانسحاب دون أن يُكشف.
فقالت بهدوء مصطنع:
“أمم، هلّا أنزلتني الآن؟”
“آه! آسف!”
في اللحظة التي نطقت فيها، أنزلها ليين برفقٍ واحترام.
“سأذهب وأحضر تشارلز!” قالها بحماسٍ مفاجئ.
“لم لا نذهب سويًا؟”
قالت سيسيليا، وقد بدأت لعبتها المعتادة—المناورة.
“ما كنتُ لأفعل هذا اليوم، لكن الفرصة لا تُفوّت…”
تمتمت سرًا، ثم نفضت الغبار عن ثوبها ووقفت إلى جانبه، كأنها لم تكن عالقة منذ لحظة.
“هل هذا مناسب؟”
“ها؟ أ-بالطبع! بالطبع!”
وبينما يسيران إلى الحديقة الغربية، تحت ظلال الأشجار وهمسات النسيم، بدأت تتحدث، تتلاعب بالكلمات كما لو كانت نغمًا.
“أظن علينا سد تلك الفتحة. أعلم أنها نافعة للهروب من المنزل خفية، لكن دخول أمثالي وتشارلز دون إذن… ليس بالأمر الآمن.”
فجأةً، قطع راين سيلها بسؤالٍ مكسوّ باللطف والقلق:
“ربما يبدو سؤالي جريئًا… لكن، هل هناك ما يشغلكِ هذه الأيام؟”
كلمات بسيطة، لكنها اخترقت الجدار الذي شيّدته حول قلبها.
استدارت نحوه، عيناها تتأرجحان بين التردد والصدق.
“لقد… حدث أمر ما. ويبدو أنني سأغادر إلى العاصمة قريبًا. لم أغادر هذه الأرض من قبل، وفكرة ما سأواجهه هناك… تقلقني.”
“إلى العاصمة؟”
توقف لوهلة، كما لو أن الكلمة أيقظت شيئًا فيه.
“أوه، صحيح! ألم تذكر من قبل أنك من هناك؟”
“نعم، بالفعل.”
هزّ رأسه بثقة هادئة.
نظرت سيسيليا إلى الأفق البعيد، حيث يلوح القصر الكبير بجلاله، شامخًا وكأنه أقرب مما هو عليه حقًا.
ذاك القصر الذي قيل إن أحد أسلاف آل ويبردين بناه خصيصًا لصديقٍ وفيّ.
واليوم… أصبح ملاذًا للنبلاء، ويدًا من ذهبٍ لا يسكنها إلا من كان عالي القدر، عظيم الجاه.
وهو، راين… من سكانه.
ومن العاصمة أيضًا.
نبيلٌ، غامض، رقيق، لكنه قويّ.
فكرةٌ ساطعة لمعَت في عقلها فجأة.
“راين، إن لم يكن هناك مانع… هل يمكن أن ترشّح لي معلّمًا في فنون الإتيكيت؟ أحتاج إلى من يعلّمني كيف أكون لائقة في البلاط.”
ظاهريًا، طلبٌ تعليمي بحت.
لكن في عمق الفكرة، كانت هناك خطة، هدف، وربما شيء يُدعى: الخطة د.
“لم أكن أنوي المناورة اليوم… لكن الفرص لا تنتظر.”
تردّد ليين للحظة، نظرة خفيفة من الحيرة اجتاحت وجهه، لكنه سرعان ما نطق:
“ما رأيكِ أن… أكون أنا معلمكِ؟”
هو نفسه.
راين.
المهووس بالعباءات…
سيصبح معلمها.
* * *
كان الصمت يُكلّل المكان كالتاج فوق رأس ملكٍ نائم، توتّرٌ خافت يتسلّل بين جدران قاعة المقابلات، يهمس لا يُرى، لكنه يُحسّ في العظم.
ليست غرفة عادية، بل الصالون المخصص لاختيار معلّم الآداب لسيسيليا، وريثة النعمة والفوضى معًا.
كانت تجاهد نفسها جهاد المُبتلى كي لا تفغر فاها، أو تطلق شهقة تُفشي بما اعتمل في صدرها من اندهاشٍ أشبه بالإجلال.
والسبب؟
ما هذا الجمال؟!
راين، ذلك الكائن الغامض الذي كان يخبئ نفسه كما يُخفى السرّ في قلبٍ حذر، ظهر الآن أمامها في صورة أخرى… صورة تُخالف كل التوقعات بل وتخترق السقف ذاته.
كان يرتدي بذلة رسمية داكنة، تنتمي إلى عوالم النبلاء من الطبقة العليا، تُجاري المقام بل وتتجاوز التوقع.
نظارته الفضية ما زالت تتربع على أرنبة أنفه، لكنها اليوم بدت كتحفةٍ توجت مظهرًا من الكمال المصقول.
سيسيليا، تلك التي واجهت الملوك والسحرة، شعرت وكأن قلبها قد تمكّن منه شاعرٌ صامتٌ يكتب أناشيد المديح في صمت.
ربما… نعم، ربما كان كل ما مرت به من ألم وتجسّد وعوالم سابقة، لم يكن سوى درب طويل نسجته خيوط القدر لتقف أمام هذه اللحظة بعينها—أن ترى هذا المشهد وتبتلع دهشتها.
لكن للأسف، لم يشاركها الجميع هذه الرهبة النبيلة.
المركيز—والدها، ذو الذوق الباهت والفنّ الضائع—كان يقلّب الأوراق ببرود، ثم علّق بنبرة فاترة:
“يبدو صغيرًا على هذا المنصب… لكنك درّست في الأكاديمية؟ هذا مذهل.”
صغير؟!
إنه بالكاد يبدو أكبر منها!
فكيف لفتًى كهذا أن يدرّس في الأكاديمية العظمى؟
إلا إذا كان عبقريًا… عبقريًا من طينةٍ نادرةٍ لا تتكرر إلا مرةً في كل قرن!
لكن سيسيليا تعرف راين.
تعرف أنه لا يزيف، لا يدّعي، لا يُزيّن سيرته ككاذبٍ يتسلق الأسطر.
حين قال لها في ذاك اليوم البعيد: “دعيني أكون معلمكِ”، لم تتردد.
ما يهمّها لم يكن الشهادات، بل شيئًا خفيًا بين السطور.
الفرصة جاءت… فانقضّت عليها كمن يعثر على خريطة كنز بين كومة خرائط بالية.
وبعد عودتها إلى القصر، أقنعت والدها بأهمية وجود معلم جديد.
لم تمر أيام، حتى جاء راين… رسميًا، ببذلته، وبكاريزما لم تكن تراها من قبل.
ولو رفض المركيز؟
لقاتلته بكلماتها حتى يرضخ.
لكنها لم تتخيّل… أبدًا… أن يكون “المعلم” بهذه الصورة.
“لقد كنت محظوظًا فقط، لا أكثر.”
قالها راين بتواضعٍ يُذيب حتى قلوب الحرس الملكي.
المركيز ضيّق عينيه، وكأن هذا التواضع يستفزّه.
“ومع هذه الخبرة، لماذا تترك العاصمة وتأتي إلى هذا الريف النائم؟”
ردّ راين بنبرة رصينة، تحمل في صداها عبق الذكريات:
“الأمر بسيط، سيدي… كنت دائمًا أقول إنني إن ارتحت يومًا، فسأقيم في ويبردين.”
“وهل لذلك سبب خاص؟”
عندها، أظلمت عيناه لحظةً بنورٍ حزين، ثم قال:
“نعم. والدتي المتوفية، كانت تعشق السفر، وكانت دائمًا تمدح ويبردين وتقول إنها قطعة من السماء… وأنها لا تشبه باقي الأرض، بل تفوقها نورًا وسكينة. كانت تقول دائمًا: ❝من يسكنها، يسكن قلب الحاكم.❞”
المركيز أومأ بتفهم بطيء، ثم همهم:
“حسنًا… لا شك أن مناظرنا الخلّابة قد تُغري الباحثين عن السلام.”
فردّ راين، وبهدوء المؤمن الذي وجد قبلته:
“وأنا ممتنّ، لأن كل ما سمعته من والدتي… كان صادقًا، صادقًا كدعاء أمٍ قبل النوم.”
كان حديثه متماسكًا كخطبة فارسٍ نبيل، ونبرته ناعمة كوشاح من الحرير الخالص، مغزول بخيوط الحكمة.
وكلما انساب الكلام من فمه، زادت حدّة دهشة سيسيليا.
عيناها اتسعتا، وفكّها انخفض ببطء، حتى كادت تُصاب بالذهول الأبدي.
من هذا بحق؟!
أين ذهب البستاني الخجول الذي يتلعثم إذا نادته؟
أين ذاك المرتبك تحت ظل عباءته؟
من هذا الذي يقف أمامهم بثقةٍ أرستقراطية، ينسج كلماته كما تُنسج القصائد؟
إن لم يكن توأمه المفقود… فلا تفسير آخر!
على عكسها التي كانت مذهولة، بدا أن الماركيز قد خفّف من حذره تجاه راين بعد ذلك الإطراء البسيط، إذ خفَّ توتر نظرته الحادة قليلًا.
تنحنح بخفة، ثم تابع حديثه بصوت بدا أكثر ليونة مما سبق.
“إذًا، تقصد أنك ترغب في تعليم ابنتي آداب السلوك أثناء إقامتك في ويبردين؟”
“نعم. برأيي، الآنسة ويبردين تتحلى بالفعل بقدرٍ وافرٍ من الرقي لا يقل عن أرستقراطيي العاصمة، لكن إن أوليتني ثقتك، فقد أكون عونًا بسيطًا لها.”
أن يثني على الطفلة ليرفع من فخر الوالد بنفسه، ثم يتظاهر بالتواضع ليظهر مدى ضرورته… يا لها من طريقة بارعة.
لو كانت هذه كوريا في القرن الحادي والعشرين، لكان الأهل قد صاحوا: “أوه، أيها المعلم!” وسلموا له أولادهم ومحافظ نقودهم بلا تردد.
فقلب الوالد هو ذاته، مهما اختلف الزمان والمكان.
وكانت النتيجة حاسمة.
“إذًا، فلنبدأ بصياغة العقد.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 8 2025-08-10
- 7 2025-08-10
- 6 2025-08-10
- 5 2025-08-10
- 4 2025-08-10
- 3 2025-08-10
- 2 2025-08-10
- 1 - رحلة خلف السوار المسروق 2025-06-16
- 0 - الوصف والمُقدمة 2025-06-16
التعليقات لهذا الفصل " 6"