4
“إذًا… مقابل أن أصفح عنك، أيمكنني أن أطلب منك معروفًا صغيرًا…؟”
رمشت بعينيها بنعومة، ونبرتها امتزجت بين الرقة والهيبة.
“معروف…؟”
ردّ بتردّد، وقد تسلّل الذهول إلى ملامحه.
“لكن قبل ذلك، هناك بعض الأسئلة التي تؤرقني.”
تنحنحت سيسيليا برقة، ثم رفعت عينيها إليه، وصوتها يحمل ما ظلّ ساكنًا في خاطرها منذ الليلة الماضية…
“هل أنت أعزب؟”
“…عذرًا؟”
قالها بدهشة، كأنما شكّ في سمعه، وبدت نظراته متوترة بين الحيرة والحذر.
لكن سيسيليا لم ترد، بل رمقته بنظرة ثابتة، ترجوه أن يجيب دون مراوغة.
فتلعثم، ثم أومأ بسرعة:
“ن-نعم!”
“هل، بالمصادفة، تخفي علاقة محرّمة تُغضب عائلتك؟”
“ماذا؟! لا… أبدًا!”
“أو خطيبة نبيلة وُعِدت بها منذ الصغر؟”
“لـ… لا إطلاقًا!”
“هل هناك فتاة من الماضي… من الطفولة، لازالت تسكن قلبك في الخفاء؟”
“لا أحد… لا أحد كذلك في حياتي.”
‘عظيم… لقد اجتاز الامتحان.’
“أمم، هل لي أن أعرف… لماذا كل هذه الأسئلة؟”
“كنت فقط… فضولية.”
أومأت برأسها برضا، وكأنها أغلقت فصلًا داخليًا.
رغم حاجتها، لم تكن لتسمح لقلبها أن يتعلق برجل ليس حُرًا تمامًا.
والآن، وقد اطمأنّت، انسكبت رغبتها كنسمة صيف شفافة:
“ما أرغب في طلبه منك، سيدي الشاب…”
“ناديني راين فقط.”
ابتسمت بخفة، وقالت:
“حسنًا إذًا، راين… أودّ أن تقضي معي بعض الوقت بين الحين والآخر، ما دمت مقيمًا في القصر. لم أدرس في الأكاديمية قط، لذا… لا أملك أصدقاء.”
‘كنت طالبة دراسات عليا، وهنا… لا أعُدّ حتى خريجة ابتدائية!’
لم يكن الألم نابعًا من الوحدة فحسب، بل من الإهانة الضمنية لمكانتها.
ورغم غصّتها، حين نظرت إلى وجهه المندهش، تبدد الغضب كرماد ناعم في مهبّ الريح.
“أيمكنني حقًا… أن أفعل ذلك؟”
“بالطبع.”
ولوهلة، لمعت في عينيه لمحة امتنان خفية… وكأن هذا الطلب الصغير أضاء شيئًا مظلمًا داخله.
تشجعت سيسيليا وأسرعت تضيف:
“آه، ويمكنك مناداتي باسمي أيضًا… راين.”
“…سيسيليا.”
توقعت أن يتلعثم، أو يتردّد، لكن صوته خرج دافئًا، صادقًا، كما لو أنها أول اسم ينطقه بقلبه لا بلسانه.
وكأن العلاقة التي ولدت الآن… هي الأولى له أيضًا.
‘هل من الممكن… أنه أيضًا بلا أصدقاء؟’
بشخصيته الهادئة المنطوية، من السهل أن يتوارى خلف جدران القصور وأروقة النبلاء المتغطرسين.
نظرت إليه بشفقة ناعمة.
وحين همس باسمها من جديد، تشكّلت ابتسامة على شفتيه—ابتسامة تشبه زهرة الدايزي حين تتفتّح لأول مرّة.
وكان صباح هذا العالم الآخر نقيًّا كما لم يكن من قبل.
ولأول مرة منذ زمن، استيقظت سيسيليا بقلب خفيف، خالٍ من ثقل الهزائم والخطط المنهارة.
ذلك لأن خطة “د”… بدأت تؤتي ثمارها.
‘لقد أصبحنا… أصدقاء نوعًا ما. والجو اليوم جميل… هل أقترح عليه نزهة؟’
لو برّرت طلبها بكونه ردًّا للجميل على إنقاذه لها… سيكون من الصعب عليه الرفض.
تجهّزت سريعًا، ثم سحبت الكتلة الصغيرة من الفرو من تحت سريرها وضمّتها بحنان.
“تشارلز، سترافقني اليوم أيضًا، أليس كذلك؟”
أطلقت القطّة صوتًا خافتًا: “ميااو~”
وكأنها توافق على طلبها بعقل فيلسوف.
“إذًا، لنمرّ على المطبخ أولًا—”
“هل ستذهبين إلى منزل الجيران مجددًا؟”
“آه! لقد أفزعتِني!”
جاء الصوت كئيبًا، كأنه هبط من سقف السماء، فاستدارت سيسيليا بسرعة، مرتجفة قليلًا.
كانت ميلاني تقف عند الباب، أشبه بشبح نبيل من زمنٍ قديم، ونظرة حذرة في عينيها.
دخلت الغرفة وقالت، بصوت حازم:
“آنستي، كما حذرتكِ سابقًا… من الخطير أن تقتربي من رجل لا تعرفين حقيقته!”
“راين ليس خطرًا.”
“آه… لقد وصلتما إلى تبادل الأسماء؟ لم تكوني هكذا من قبل.”
“ذلك… بسبب الحُمّى…”
شعرت سيسيليا بوخز داخلي، فتراجعت كلماتها بهدوء، وكأنها مذنبة أمام مرآة.
ثم همست:
“في الحقيقة… ذاكرتي أصبحت مشوشة منذ أن مرضت.”
ذلك كان الذريعة التي نسجتها سيسيليا بخفة، حين التقطت ميلاني—بحدسها الحاد كظلٍ لا ينام—أن هناك شيئًا في آنستها لم يعد كما كان. نظراتها المترصدة قرأت اضطرابًا لم تُجِده السيدة الصغيرة يومًا، فبادرتها بالسؤال، والقلق يوشك أن يتفجر من نبرتها:
“ماذا؟! إذن… علينا استدعاء الكاهن الأعظم فورًا!”
“لا! أرجوكِ… لا أريد أن أُثقل كاهل والديّ بهمٍّ آخر… ذاكرَتي ستعود تدريجيًا، أليس كذلك؟”
رجاؤها النابع من عمق صدرها بدا صادقًا بما يكفي ليُلين شكوك ميلاني، فلم تُصعّد الأمر، ولكن الشك ظلّ يحوم حولها كطائرٍ داكن الجناحين. ورغم صمتها، كانت عينها تخونها بالقلق، ثم قالت بنبرة صارمة كأنها تصدر حكمًا لا يقبل الطعن:
“ومع ذلك… لا يمكنكِ الخروج اليوم.”
“…لماذا؟”
جاء صوت سيسيليا مشوبًا بالمفاجأة، حتى أنها أفلتت تشارلز من بين ذراعيها، ليرتطم القط بخفة على السرير وينظر إليها كمن شاركها الارتباك.
“السيّد الشاب قد عاد هذا الصباح. الماركيز أمر بحضوركِ للغداء، ويجب أن تتهيّئي في الحال.”
“…السيّد الشاب؟”
كلمات ميلاني كشفت عن اسمٍ لم يكن غريبًا على أذنيها، وإن لم تُجرّبه من قبل:
نوكس ويبردين — وريث العائلة الوحيد، وشقيق سيسيليا… ذلك الأخ الغائب الذي لم تلتقه بعد.
في اللحظة التي تردّد فيها اسمه، بدا وجه سيسيليا كأنه انعكس في مرآة مشروخة؛ انقسم بين القلق والذهول، لا لأنها لا تريده، بل لأنها لا تعرفه.
“أخي…”
لحسن حظها، كانت “حزمة اللغة التلقائية” التي جاءت مع انتقالها إلى هذا الجسد تعمل بكفاءة…
لكن ذاكرة صاحبته الأصلية؟ لا أثر لها.
حين وُجدت في هذا العالم، كان نوكس في العاصمة، لذا لم تلتقِه من قبل.
أي أن هذا اللقاء… سيكون الأول من نوعه—
لقاء بين شقيقٍ وأخته… لا يعرف أحدهما الآخر.
‘لكن يبدو أنه كان يهتم بها…’
بيدٍ مترددة، فتحت أحد الأدراج واستخرجت رسالة أُرسلت من العاصمة.
كان نصها بسيطًا:
“سمعت أنكِ تمرّين بوعكة، لذا أرسلت إليكِ بعض المسكنات الرائجة هنا مؤخرًا.”
ربما كانت تلك أبسط كلمات حنان كُتبت بالحبر، لكنها بالنسبة لسيسيليا كانت نافذة على قلبٍ أخويٍ نادر.
‘أشبه بأبطال الروايات الرومانسية… الأخ الوسيم ذو القلب الذهبي، الذي يعامل شقيقته ككنز لا يُقدّر بثمن.’
لكنها سرعان ما عبست وهي تتذكر شيئًا…
الدواء كان فظيع المذاق بشكل يُحرّض على البكاء.
كأنها ابتلعت مرارة عشرة أعشاب سامة في آنٍ واحد.
رغم ذلك، تمتمت:
‘ربما لن يكون حضوره بهذا السوء… من يدري، لعله يصبح حليفًا لي، تمامًا كما حدث مع ميلاني.’
طبعًا… طالما لم يكتشف أنها ليست سيسيليا الحقيقية.
“سنصل متأخرين بهذا الشكل! هيا، علينا تغيير ملابسكِ فورًا!”
صرخت ميلاني، ورفعت أكمامها بجدية، ثم شرعت في تجهيز مولاتها للقاء المنتظَر.
وهكذا، خُلعت عنها ملابس الراحة، واستُبدلت بثوب رسمي مهيب، انسدل ذيله كجناح طاووس، ينزلق على الأرض برقة ملكيّة، بينما كانت تشقّ طريقها نحو قاعة الطعام.
لكن داخلها لم يكن مهيّأً بعد… كان قلبها خلية من التوتر والاحتمالات.
وما إن بلغت مدخل القاعة، حتى ارتعش الهواء من حولها…
حين ارتفعت عيناها والتقتا بنظرة ذلك الرجل.
“سيسي!”
صوتٌ دافئ… يناديها بلقبٍ لم تسمعه من قبل بصوتٍ حيّ.
كان واقفًا هناك، رجلًا في هيئة أسطورة—
ملامح أرستقراطية كأنها من سلالة الحاكمة، عينان تفيض سكينة، وشعرٌ ذهبيّ يعانق النور.
ابتسامته… كانت كفجرٍ يتسلل من بين الغيوم، يُطمئن، ويحتوي، ويأمر السماء أن تبتسم.
انحنت سيسيليا له بخفة، وابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهها الحذر:
“مرحبًا… أخي.”
كلمة “أخي” خرجت مترددة من شفتيها، وكأنها سُمّيت بها للمرة الأولى، غريبة عنها رغم دفئها.
ضمت ذراعيها إلى صدرها، كأنها تحتمي بها من انكشاف الحقيقة.
‘هذا التصرّف وحده… يجب أن يُقنعه أنني سيسيليا.’
لكن— وعلى غير ما توقعت—
تصلّبت ملامح نوكس في لحظة.
ومن دون كلمة، اقترب منها بخطوات واثقة، ثم مدّ يديه وقبض على وجنتيها برفق، يرفع وجهها نحوه:
“أأنتِ… ما زلتِ مريضة؟”
كانت نبرته مشبعة بالقلق، كأنه يرى ظلّ الموت خلف عينيها.
فرفعت يديها بسرعة، ولوّحت بحرج:
“لا، لا! بفضلك واهتمامك، تحسّنت كثيرًا.”
لكنه لم يبتسم. ظلّ يحدّق فيها وكأن الإجابة لا تقنع قلبه.
‘تمامًا كما تخيّلت… إنه الأخ المهووس.’
أخٌ يرى في شقيقته النور الوحيد في عالمٍ باهت—
نادرٌ كـوحيد القرن، وأسطوري كـقَسمٍ لا يُنكث.
[مرحبًا! إنها حالة طارئة! تعالي إلى غرفتي حالًا!]
[كفّ عن هذا الهراء واختفِ. أنت فقط تريدني أن أطفئ الأنوار مجددًا.]
[أقسم لكِ، هذه المرة طارئة فعلًا!]
[آه، وماذا الآن؟!]
[أغلقي النافذة من أجلي.]
[من فضلك… مُت واختفي.]
لم يكن من الصعب عليها أن تسترجع كيف كانت محادثاتها مع شقيقها الحقيقي تجري دائمًا بهذا الشكل.
‘هذه هي الحقيقة العارية.’
وبينما كانت تفكر بأن هذا الأسلوب الواقعي في الحوار لا يزيد إلا من ترجيح نظرية أنها “امتلكت جسد شخصية في رواية”…
إذا بصوتٍ منخفض يهمس قرب أذنها:
“لا يزال رأسكِ لا يبدو سليمًا بعد.”
“ماذا؟”
رفعت رأسها بسرعة، وقد صُعقت من الكلمات التي تسللت إليها كهمسة خفيفة.
‘ما هذا… هل سمعتُ خطأ؟’
بل إنه نقر بلسانه في استياء… أليس كذلك؟
“أنا آسف يا سيسي. كل هذا خطئي.”
“…ماذا؟”
“لطالما كنت أصلّي بإخلاص، راجيًا الحاكم أن يخلّصكِ من عقلك التالف. لكن لم أكن أقصد أن ينتهي بكِ الأمر… بهذه الغرابة.”
“……”
“أوه، لحظة—هل يُعقل أن يكون الدواء الذي أرسلته حينها قد فسد؟”
“…تعني الذي أرسلته مع تلك الرسالة؟”
“أجل. اخترت عمدًا النوع الذي له أبشع مذاق… لكنه لم يكن سامًا.”
‘ما هذا؟! أعيدوا إليّ شقيقي الأسطوري من الروايات الرومانسية الخيالية!’
رفعت سيسيليا عينيها إليه بذهول، نظرتها أشبه براكونٍ أضاع قطعة حلوى القطن خاصته في بركة ماء.
لكن نوكس، مبتسمًا ببراءة غامضة، أمسك رأسها بيديه، وبدأ يتفحصه من زوايا مختلفة بتمعّن غريب.
“أخي… رأسي يؤلمني.”
“مؤسف فعلًا.”
“فهلّا أطلقتَ سراحه؟”
“مم، سأفعل… بعد أن أجد موضع الإصابة.”
“قلت لك… أنا بخير تمامًا.”
“مستحيل. الطريقة الغريبة التي ناديتِني بها ‘أخي’، ونبرة صوتكِ… لا يمكن أن تكوني بكامل قواكِ العقلية.”
ثم مال برأسه إلى الجانب، بحركة كان يمكن أن تُعتبر ساحرة…
لولا أنها واجهت للتو الواقع بلا أقنعة.
وفي لحظة، بردت حرارة المشهد، وارتجفت شفتا سيسيليا وقد بدأت الغضب يتسلل إليها.
فقالت بصوت جافٍ مليء بالضيق:
“دعني وشأني، أيها المختل.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 8 2025-08-10
- 7 2025-08-10
- 6 2025-08-10
- 5 2025-08-10
- 4 2025-08-10
- 3 2025-08-10
- 2 2025-08-10
- 1 - رحلة خلف السوار المسروق 2025-06-16
- 0 - الوصف والمُقدمة 2025-06-16
التعليقات لهذا الفصل " 4"