حدّقت سيسيليا بصمتٍ ساكن في انعكاس تلك الهيئة المتلألئة فوق سطح الماء.
شعرٌ ذهبي ينسابُ على كتفيها كما لو كان خيوطًا من ضوء الفجر الأول، يلمع تحت أشعة الشمس كأنه نُسج من أنفاس الحاكمة. عيناها، بلون الكهرمان النقي، لا تحملان جمالًا فحسب، بل توحيان بنداءٍ صامتٍ للسماء، وكأنهما مرآتان تعكسان الضوء المقدس ذاته.
وجنتاها المتورّدتان، وبشرتها الشفافة التي تكاد تنصهر تحت الضوء، تمنحانها طيفًا من البراءة المقدّسة، في حين أن الزهور البيضاء التي تزيّن شعرها تبدو وكأنها نبتت هناك طوعًا، مدفوعة بسحرٍ لا يُقاوَم.
تحيطها هالة من الرهبة والسكينة، كما لو أن الأرض نفسها تتباطأ حين تمرّ، والهواء يلين من حولها خشية أن يعبث بخصلاتها. إنها ليست مجرد فتاةٍ نبيلة، بل تجسيدٌ نقيّ لمعنى القداسة والجمال المترف—روحٌ تنتمي إلى السماء، ولكنها حُبست، في جسدٍ من لؤلؤ، بين يدي العالم.
سيسيليا ويبردين، الابنة الكبرى لعائلة ويبردين، أعرق وأقدس بيوت النبلاء في الإمبراطورية، كانت تُلقَّب بـ”قديسة الإمبراطورية”، وذاك لقبٌ لم يُمنح لها جزافًا، بل وُلد من مظهرها المُترف، ومكانتها السامية، وهالتها التي تُشبه الضوء المُنزَل من السماء.
لكن تلك الهالة التي أحاطت بها كانت سبب قيدها…
فلم تكن تملك حرية الخروج، بل حُجزت في أعماق مقاطعة بعيدة، داخل حدود الماركيزية، تفصلها عن العاصمة مسافات وأقدار.
يتعامل الجميع معها كما لو كانت من زجاج بلّوريّ نادر، يخشون حتى من أن يلامسها النسيم، خشية أن تتشقق أو تتحطّم.
غير أن المظهر شيء… والجوهر شيء آخر تمامًا.
فرغم تلك القشرة النقية التي تحاكي الملائكة، كانت روحها قد وُلدت في كوريا الحديثة، القرن الحادي والعشرين، حيث لا مكان للبراءة، وقد رأت بأمّ عينها كل قبحٍ يختبئ خلف ستار العالم.
بهدوء، دفعت خصلاتها الذهبية التي كانت تسبح فوق صفحة الماء، ثم هزّت رأسها ببطءٍ متزنٍ مليء بالحزم.
همست، بصوتٍ ناعمٍ كاعترافٍ محرّم:
“ميلاني… أنتِ لا تعلمين… الرعب الحقيقي لا يأتي من الخارج… بل يسكنني.”
“…ماذا؟”
‘أعني، من المعجزة أنني لم أختطف ذلك الرجل بعد.’
ابتلعت تلك الكلمات التي لم تستطع لسانها أن ينطق بها،
رغم شعورها بالذنب تجاه ميلاني التي لم تبدر منها إلا رعاية صادقة،
كانت عزيمتها ثابتة؛ كانت تنوي الاقتراب من ذلك “الغريب”…
وبالأحرى، الاقتراب منه بعمق… وبطريقةٍ لا يراها سواها.
✦ ✦ ✦
في اليوم التالي،
ظلّت ميلاني طوال الليل تثرثر بقلق لا يفتر، وتعيد تحذيراتها مرارًا حتى غفت سيسيليا أخيرًا.
لذا، كان من المفترض أن تبقى سيسيليا اليوم في غرفتها، ترتاح وتلتزم الهدوء…
لكنّ كلمة “المفترض” تظل دائمًا شيئًا نسبيًّا.
فبمجرّد أن غادرت ميلاني الغرفة، نزعت سيسيليا ثوب الاسترخاء عنها بخفة العازمات،
ثم، كأنها لاحظت غياب كبير الخدم المؤقت، حملت قطتها الوفيّة التي لا تفارقها، وأحكمت قبضتها عليها تحت ذراعها، وانطلقت بخفة خارج الغرفة.
وبفضل رفيقتها الناعمة، وربما حماسها المتّقد، وصلت إلى السور بسلاسة، تُنقّب في ذاكرتها عن الطريق الذي عبرته سابقًا.
لكن مشكلةً بسيطة برزت فجأة:
‘أي عذر سأختلقه الآن لأتسلل إلى منزل الجيران؟’
لم تُمهلها الأفكار وقتًا، إذ وكأنها لم تكن قطة بل شيطانًا متخفيًا،
غرست مخالبها فجأة في ظهر يدها.
“آه!”
أفلتتها من الصدمة، فهبطت بخفةٍ ملكيّة على الأرض، ثم تسللت عبر فتحة الحيوانات الأليفة بخيلاء، كأنها تقول: “ألحقيني إن استطعتِ.”
‘لا مفرّ.’
تنهدت سيسيليا، ولم تجد بُدًّا من اللحاق بها، قبل أن تتسبب في فوضى أخرى.
وكأن المشهد يتكرّر، انحنت مجددًا وتسللت من ذات الفتحة،
وهناك، رأَت آثار أقدام القطة الصغيرة تبتعد… ثم تتوقف عند الحديقة.
كما في البارحة تمامًا، مشت سيسيليا فوق العشب الأخضر، وخلف سورٍ عالٍ من خشب البقس، انبسطت الحديقة الغربية.
‘يا إلهي… هل تعيث فسادًا في الأحواض من جديد؟’
تسارعت خطواتها، والقلق بدأ يطرق قلبها.
لكن ما رأته لم يكن دمارًا، بل مشهدًا ساحرًا كأنّ الربيع ذاته انحنى ليُرضي عينيها:
أرضٌ مزينة بأزهار الأقحوان البيضاء، تتمايل كالزَبَد في موج النسيم، وعطرها يملأ المكان برقةٍ شفافة.
وفي القلب من كل هذا… وقف راين.
وكأنه خرج من حلمٍ قديم، يرتدي رداءً قاتمًا لا يتناغم مع المشهد إطلاقًا،
لكن حضوره… كان كافيًا لإسكات العالم بأسره.
‘أليس من المفترض أن يقف هكذا في لوحةٍ خيالية؟ ثم تقع البطلة في حبه مجددًا… أليس هذا هو السيناريو المعتاد؟’
راحت تتأمل المشهد بنظرةٍ ناقدة، مضطربة من هذا الخلل الطفيف في لوحة كانت لتكون كاملة.
وعندما التقت عيناها بعينيه، تحرك نحوها بخطوات واثقة:
“آنسة ويبردين!”
كما توقعت، كان يحمل بين ذراعيه كتلة الفرو الأبيض المألوفة.
“أعتذر… القطة هربت مجددًا. يبدو أنها تعشق هذه الحديقة. لم تتسبب في فوضى مرة أخرى، أليس كذلك؟”
قالتها بابتسامةٍ خفيفة، مشوبة بشيء من السخرية اللطيفة.
“هذا ليس صحيحًا!”
اندفع نحوها فجأة، وكأنّه ينفي تُهمةً عظيمة، حتى أنّ جسده بأكمله اهتز بعنف، مما دفع القطة التي كانت في حضنه إلى القفز والهرب، وانقلب طرف ردائه قليلًا أثناء الحركة.
“لـ-لم تكن لديّ أي نيةٍ لخداع الآنسة ويبردين! لم أُرِد أبدًا أن أُضللكِ!”
“مهلًا… اهدأ، أنا لستُ غاضبة.”
رفعت سيسيليا يديها في إيماءةٍ تهدئ بها روعه، وعيناها تتفحّصانه.
عيناه البنفسجيتان، اللتان التقتا أخيرًا بعينيها، كانتا تتلوّنان بالذنب والارتباك، كطفلٍ صغير كُشِف أمره وهو يسرق قطعة حلوى.
“ولكن…”
“أنا جادّة. هل أبدو غاضبة في نظرك؟”
“…لا.”
كانت قد أدركت منذ البداية أنه ليس بُستانيًا عاديًا.
ذلك الوجه؟ تلك الهالة؟ أن يكون مجرد خادم للحديقة؟
في عالمٍ يُقاس فيه الجمال بالقوة، ويُشير فيه المظهر إلى المكانة—كان ذلك ضربًا من الجنون.
‘لابدّ أن لديه سببًا وجيهًا لإخفاء هويته…’
ومع ذلك، بدا وكأنّه يحمل على عاتقه وزر الكون بأسره، لمجرّد كذبة بيضاء صغيرة.
راقبته سيسيليا بصمت، وهو ما يزال غارقًا في التردّد والحيرة…
وفجأة، لمع في ذهنها خاطر، كضوءٍ خاطفٍ في ظلمة الليل—
التعليقات لهذا الفصل " 3"