“آري إريانت؟!”

قَامَ شوان إريانت، مالك مكتب المعلومات، فجأةً من مقعده. اقتربَ مِنّي بخطوات سريعة حتى باتَ يقف أمامي تماماً.

بقيتُ صامدة في مكاني، وشعرْتُ كأنّ النّار قد اشتعلتْ في عينيْ شوان.

“كيفَ عرفتِ ذلك؟”

“أيُّ شيءٍ تقصدُه يا سيّدي؟ مَكان آري إريانت؟ أم هُويّة مالك مكتب المعلومات؟”

على كلامي المَصحُوب بالابتسامة، ألقَى شوان قِناعه بعيداً وكأنّه لم يعدْ يُبالي بهُويّته.

جَثَا شوان على ركبةٍ واحدة أمامي.

“إذا كانت هذه المعلومة مؤكّدة، فلن يكونَ هناكَ سببٌ لِبقاء مكتب المعلومات هذا، ويُمكنني أن أُسلّمهُ لكِ بكلِّ سُرور.”

“هيَ مؤكّدة. الصّعوبة تكمُن فقط في إيجادِ طريقةٍ لِإخراجها.”

“أين، أينَ هيَ يا سيّدتي؟”

كانَ صوتُ شوان يقطُرُ باللّهفة.

كانَ لِعائلة الماركيز إريانت طفلان: شوان إريانت الذي أمامي الآن، والآنسة آري إريانت التي كانتْ تُعرَف بأنّها أجملُ امرأة في الإمبراطوريّة. كانتْ آري جميلةً لِدرجة أنّه كانَ لديها عَدَد لا يُحصَى من الخُطّاب.

ثمّ اختفتْ آري فجأة. انطلقَ خُطّابها لِيُصبحوا الأمراء الذين يُنقذونها. وعرضتْ عائلة الماركيز إريانت جائزةً ضخمة.

ومعَ ذلك، لم تَعُدْ آري إلى حِضن عائلتها.

أمّها، الماركيزة إريانت، المشغولة بإدارةِ المُجتمع، بَدَتْ وكأنّها نَسِيَتْ ابنتها بالكامل، ولم تَعُدْ تسعَى للبحث عنها. لكن شوان كانَ مُختلفاً.

بذلَ شوان كُلَّ جُهدٍ للعثور على أخته. كانَ يَأمُل في العثور على أيّ أثرٍ لها إذا كانتْ على قَيد الحياة.

وَلِهذا السَّبب، تَمَّ إنشاء مكتب معلومات البومة الطائرة. على الرّغم من أنّها مُهمّة مُزعجة لِيتولّاها نَبيلٌ بنفسه، فقد كرّسَ جُهده لِجمعِ المعلومات، مُلتقياً بالناس مُباشرة. لِذا، لم يكن لِيبيع مكتب المعلومات الذي نَمَّاه بِكُلِّ هذا الشّغف، حتى لو عُرض عليه ثَروةٌ طائلة.

لا المال ولا السّلطة يُمكِنُ أن تُحرّك قَلبه. فقط المعلومات المُتعلّقة بآري هيَ التي يُمكِن أن تؤثّر في شوان.

نظرتُ بِبُطء إلى شوان الجاثي على رُكبتيه عندَ قَدمي، وقُلت:

“الآنسة إريانت… مَحبُوسة في قصرِ الأميرِ الثّاني.”

“ماذا يعني هذا…”

“يعني أنَّها أصبَحَت عشيقةَ صاحبِ السموّ الأمير الثّاني، كين.”

في الإمبراطورية، لم يكن مسموحاً لِأحد باستثناء الإمبراطور أن يتّخذ عشيقات. ومع ذلك، لم يكن بالإمكان منع النّبلاء المُتعجرفين أو الأثرياء من تقليد الإمبراطور واتخاذ عشيقات سِراً.

إلا أنّ الأمراء كانوا استثناءً. على الرّغم من امتلاكهم أعظم الحقوق، لم يكن مسموحاً لهم باتخاذ عشيقات لأيّ سبب كان.

كانَ اتخاذ الأمير عشيقة يُعتبَر طَمَعاً في العرش.

تاريخيّاً، كانَ الأمير الذي يتخذ عشيقات عدّة ويُنجب العديد من الأبناء يستغلّ ذلك لِتضخيم نفوذه في كثير من الأحيان.

“ما لم يكن الأمير كين مجنوناً…”

بدتْ على شوان علاماتُ ارتباك شديد. كانَ اتخاذ الأمير عشيقةً سِرّاً عن أعين الإمبراطور يُعتبَر تصرُّفاً في غاية الخُطورة في الإمبراطورية.

وإضافةً إلى ذلك، أن يَخطف ابنة الماركيز ويتّخذها عشيقة دونَ إذن عائلتها؟ كانَ هذا أمراً لا يُصدَّق حقّاً.

في الوقت الذي شعرَ فيه شوان بالارتياح لأنَّ أخته على قيد الحياة، تسارَع نبضُ قلبه بسبب تورُّطها في مثل هذا الأمر الخَطير.

“الأمير كين طمّاع. خاصّةً الأمير الذي يَهيمُ بالنساء الجميلات لن يتركَ الآنسة إريانت وشأنها، وهي التي تُعدّ الأجمل في الإمبراطورية. علاوة على ذلك، عائلة الماركيز إريانت يُمكِن أن تؤثّر في سُلطة العرش المُستقبليّة، لِذا لا بدّ أنّه اعتقدَ أنّها مَنفعة مُزدوجة.”

“هل تظنّين أنَّ عائلتنا، عائلة إريانت، ستَقبَل بهذا بِسُهولة؟”

“يا سيّد إريانت.”

نظرتُ إليه بنظرة واضحة. وكأنّه أدركَ شيئاً من نظرتي، بَدَتْ على وجه شوان علاماتُ ألم شديدة. هزَّ رأسه.

“لا يُمكِن أن يَحدُث هذا. حتّى أمّي لا تَعرف.”

“هل تعتقد حقّاً أنّها لا تعرف؟”

لَكمَ شوان الأرض. اختفى مظهره اللطيف تماماً. كانتْ قَبضتُه المَشدودة ترتَعش. شَعرتُ بِغضبه الشّديد.

“إذا كانتْ هذه المعلومة مؤكّدة، فمكتب معلومات البومة الطائرة هو ملككِ، لايلا وينسلي.”

أومأتُ برأسي. المعلومة مؤكّدة، وحقيقة لا يُمكِن تغييرها. كنتُ واثقة من نَفسي.

“بعدَ أن تتأكّد، عليكَ مساعدتي قليلاً. هذا سيُفيد أيضاً في إخراجِ أختك.”

“حسناً.”

“أرسِل لي الرّسائل إلى المنزل. لا تنسَ التّظاهر بأنّك سيّدة نبيلة صديقة. اسمُ ‘ليتيه’ سيكون جيّداً.”

“سأفعل. هل لديكِ أيُّ شيء آخر لِتقوليه؟”

لم يكن لديّ شيء آخر لِأبلّغه إيّاه، لِذا هززتُ رأسي وكنتُ على وشك المُغادرة، لكنّ فكرةً خطرتْ لي فجأة، فتوقفتُ واستدرت.

“سأتزوّج أنا وصاحب السموّ الدوق دوزخان في غضونِ بضعة أشهر. بعد ذلك، أرسِل رسائلكَ إلى قصر الدّوق دوزخان.”

توقّفَ شوان عن طرحِ سؤالٍ ما. أنا أيضاً لم أُلِحّ، وانحنَيْتُ بخفة وخرجتُ. كانت الحانة لا تزال صاخبة.

بعدَ مُغادرة لايلا، عادَ شوان إلى مَقعده وغَرقَ في التفكير.

‘كيف عرفتْ آنسة وينسلي تلك المعلومة؟’

ثمّ، وبشكل لا واعي، أدارَ قلمه وتمتمَ مرّة أخرى. كانَ شعرُها الأشقرُ الجميل وقوامها الرّشيق كالفارسة جَذّابين، ولكن كانَ هناكَ شيء آخر سحر شوان. كانَ صوتُها الواثق في الأمور المُهمّة، دونَ التّخلّي عن هُدوئها، يمتلكُ قوّة تجعله يَستمع إليها لا محالة.

‘من المُؤسِف أن تتزوّج امرأةٌ بمثلِ مكانتها من الدّوق الوحش.’

حدقَ شوان بهدوء في الخارج. تذكّرَ المرأة الجريئة التي كانتْ أمامه للتو.

مجردُ قُدومها بجرأة عبرَ طريقٍ تَتجنّبه السّيدات النّبيلات كان أمراً مُذهلاً. لكن هذا ما يفعله غالباً أولئك الذين لَديهم قصصٌ مأساويّة.

‘لقد تطلّبَ الأمر جُهداً لِمعرفة مكان مكتب معلومات البومة الطائرة، لكنّها كانتْ تعرفُ هُويّتي وما أُريدُه بالضبط.’

ما الذي تملكُه لِتَملُكَ كُلَّ هذه المعلومات الواسعة؟ والأكثر إثارة للشّك هو ما هي المعلومات التي تحتاجها هنا، على الرّغم من معرفتها لتلك الأمور.

في هذه الأثناء، توجّهتُ إلى العربة دونَ أن أعرِف باهتمام شوان بي. لقد نسيتُ أنّني مريضة، وبَدا جَسدي مُتألّماً بعدَ أن قضيتُ اللّيل بأكمله في الخارج.

“يا آنستي، هل أنتِ بخير؟”

يبدو أنّ خطوَاتي كانتْ مُتعثّرة. أشرتُ بيدي للنادل دونَ إجابة وصعدتُ إلى العربة. قادَ السائق العربة بأبطأ ما يُمكِن. لكن، ربما بسبب عَجلة العربة التي علقتْ بِحَجَر، اهتزّت العربة بشدّة. عندئذ، شَعرتُ بالغثيان وذاقَ في حَلقي طعمُ الدّم المائل لِلمُرارة.

“أُفّ…”

بَصَقتُ الدّم في مِنديلي ومسحتُ زاوية فمي. رميتُ المِنديل في الخارج، واختفى المِنديل المُلطّخ بالدّم في الظّلام.

كانَ عليّ إخفاء الأمر بِدقّة، فلو اكتشفته عائلتي، سأُحتَجَز في المشفى، ولن يتمّ الزواج ولا أيّ شيء آخر.

اقتربَ موعدُ حَفلة الماركيزة إريانت التي تُقام في قصرِ الماركيز إريانت.

أرسلتُ رسالةً إلى يوليان قبلَ الحفلة بِفترة وجيزة.

[سأذهب إلى حَفلة الماركيزة إريانت. سأُعلنُ عَلناً أنّني خَطيبتُك. أتمنّى أن لا تتفاجأ بِخَطيبتك الجريئة. أرسلُ لكَ هذه الرّسالة القَصيرة.]

اعتقدتُ أنَّ يوليان لن يُعجَب بِخَطيبتِه التي تُثرثِر في كُلّ مكان.

لكن، حتّى لو كَتمتُ الأمر، لن يتوقّف النّاس عن الحَديث عنّي. لِذا، من الأفضل أن أتصرّف بجرأة، وكأنّني أنا التي ظَفَرتُ به.

رَبطتُ نصفَ شعري الأشقر بشريط أزرق زاهٍ. كانَ مُزيّناً بِلآلئ صغيرة، ممّا أضافَ له أناقةً ولُطفاً.

بِما أنّ حَفلة الماركيزة إريانت مَشهورة بِفَخامتها، كانَ عليّ أن أُبالِغ في زينتي. قرّرتُ ارتداء الفستان الأزرق الذي صَنعتُه سابقاً لكنّني لم أتمكّن من ارتدائه. ارتديتُ القُفّازاتِ الدّانتيل التي جَهّزتُها لِهذا اليوم، وعندما دُرتُ دَورة، صَفّقتْ آنا وكأنّها مُعجَبة.

“يا آنستي! أنتِ جميلةٌ جدّاً!”

“أنا أيضاً مُعجَبة به. لكن عليّ تغيير القُرط.”

“ماذا سنَختار؟”

وضعتُ رأسي أنا وآنا في صندوق المَجوهرات واخترنا قُرطاً لِفترة طويلة. لمعتْ عينا آنا بِبَريق المَجوهرات المُتلألئة بألوان مُختلفة. لم تكُن آنا وحدها، بل أنا أيضاً كنتُ مُحتارة، وتتبّعتُ صندوق المَجوهرات بِأطراف أصابعي.

كانَ لِمَلمسِ الأحجار البارد سِحرٌ خاص.

سُمعَ طَرقٌ على الباب، وفُتحَ الباب قليلاً لِتَظهرَ والدتي. كانتْ أنيقة ورشيقة كالعادة، لكنّها بَدَتْ مُستعجلة بِسبب ابنتها المُتأخّرة.

“لايلا، سنتأخّر على الحَفلة!”

فقط بعدَ صُراخ والدتي القَلِق، سارعتُ بالخروج من الغرفة. أثناء ركوبي العربة بِعَجلة، استمرّتْ آنا في تَمشيطِ شعري. عبثتُ بِخصلات شعري الأمامية ونظرتُ إلى الخارج.

كانَ قصرُ الماركيز إريانت رائعاً حقّاً. بَدا مُشرقاً ومليئاً بالحياة، وكأنّ المأساة لَم تَحدُث فيه قط. استقبلتْ الماركيزة إريانت ضيوفها بابتسامة واسعة.

“آنسة وينسلي، أنا سعيدة لِقُدومكِ إلى حَفلتي. لِنصنع علاقات طيّبة.”

“شكراً على الدّعوة. إنّه لَشرفٌ لي.”

رفعتُ طرفَ تنّورتي وانحنَيتُ بِعُمق. كانت الدّعوة إلى حَفلة الماركيزة إريانت بمثابة دليل على أنَّ المرء أصبحَ شخصيّة مُهمّة في المُجتمع. هنا، كانَ بالإمكان الحُصول على علاقات ومعلومات نادرة لا يُمكِن الحصول عليها في أيّ مكان آخر.

عندما دخلتُ قاعة الحفلات، رأيتُ شوان يرفع كأس الشمبانيا ويُلقي عليَّ التّحيّة بِنظرة من زاوية القاعة. كانَ يرتدي بَدلة فاتحة اللّون، وقد ناسَبَت وَجههُ الجَميل الذي كانَ يبتسمُ بِإشراق كلّما سنحَتْ له الفرصة.

بادلتُه التّحيّة ونظرتُ إليه ببطء.

“سمعتُ أنَّ السيّد إريانت لا يُشارك في حفلات والدته.”

سألتُه بابتسامة مُجتمعيّة، فردّ عليَّ بابتسامة وأجاب:

“أصبحَت هذه الحَفلة مُثيرة لِلفُضول عندما سمعتُ أنّ الآنسة وينسلي ستأتي.”

نحنُ لسنا أكثر من مُجرّد علاقة عمل، فما الذي يثير فُضوله؟

في حياتي السابقة، كانَ مُهَوّساً بالبحثِ عن أخته فقط.
المعلومة التي طلبتُها منه حينذاك كانتْ ‘دليلاً على تَلْفيق الأمير الثّاني لِتُهمة الخيانة’. خلالَ تتبُّع شوان لِلأمير الثّاني بناءً على طَلبي، اكتشفَ أنّ لديه عشيقة سِرّية، وأنَّ هذه العشيقة هي أخته، آري إريانت.

لكن في هذه الحياة، أنا أخبرتُه بذلك مُباشرة. لم تكُن هناك حاجة لِسلوك طريقٍ طويل. لا بدّ أنّه يتساءل من أينَ حصلتُ على هذه المعلومة، ولِذا من الطبيعي أن يهتمّ بي.

شعرتُ بالدّهشة والسّعادة من التناقض مع حياتي السابقة. إنقاذ عائلتي سيكونُ مُمكنًا أيضاً.

“ألستَ أنتَ ‘الرجل الأكثر جَمالاً’ في هذه الحفلة؟”

نظرتُ إليه بِأُسلوب لَبِق. مهما ادّعى وجود أسباب أخرى، فمن الواضح أنّ اهتمامه الأكبر سينصبّ على أخته، آري إريانت، ‘المرأة الأجمل في العالم’.

“لقد تطلّبَ الأمر وقتاً طويلاً لِأرتدي هذه الزّينة.”

قلتُ ذلك وأنا أتنّهد بأسى. كنتُ أُلمِّحُ إلى أنّني ما زلتُ بحاجة إلى المزيد من الوقت لِإنقاذ آري إريانت. أدركَ شوان الأمر على الفور وسألني:

“هل هناكَ شيء يُمكِن لِهذا السّيد أن يُساعد فيه؟”

“نعم. سيكونُ الأمر أفضل إذا ساعدتني أنت.”

صفّقتُ كسيّدة نبيلة طائشة. لم تُصدر يدي المُرتدية القُفّازات سوى صوت احتكاك خفيف جداً.

“سأساعد في أيّ أمر يتعلّق بالنساء.”

انحنى شوان ومَدَّ يده إليّ. عندما وضعتُ يدي فوقَ يده، قبّلَ يدي بأدب. كانتْ قُبلة احترام لِسيّدة، خالية من أيّ دلالة جنسيّة.

لكن هذا التّصرف وحده لَفَتَ انتباه النّاس.

كنتُ أنا خَطيبة الدّوق دوزخان الذي يُشاعُ أنّه وَحش، والذي سيُصبح دوقة دوزخان، وكانَ شوان الابن الوسيم لِعائلة الماركيز.

بينما ضحك البعض على هذا المشهد كقصّة مُسلّية، بدا الأمر مُزعجاً لِلغاية لشخص آخر.

“بعدَ فَسخ الخُطوبة مُباشرة، خُطِبتِ لشخص آخر، والآن أنتِ مُتّفقة جداً مع رجل آخر، آنسة وينسلي.”

الشّخص الذي اقتربَ منّا كانَ خَطيبي السّابق وزوجي في حياتي السابقة، كايزاك آمبر.