وصلتْ العربة، بعد رحلة طويلة، إلى مدخل ميدان الصيد الإمبراطوري. لم تكن عربات الدوقية الكبرى وحدها المتواجدة هنا، بل وصلَتْ أيضاً عربات العائلات النبيلة الأخرى.
كان المكان مُزدحماً بشكل غير متوقَّع، نظراً للامتياز الممنوح لحاملي الدعوات بحق اصطحاب معارفهم.
نزلتُ من العربة وتوجَّهتُ نحو نيفي. لم يكن قصدي الضغط عليها.
بالتأكيد، كانت لديَّ رغبة جامحة في توبيخها، لكن أليس الوقت مبكراً جداً على ذلك! لم أكن أُريد أن أكون أخت زوج تُعذِّبها حتى لو تزوَّجتْ روين.
“اذهب مع صاحب السمو الدوق للحظة. لديَّ محادثة خاصة معها تخص النساء.”
“مع نيفي؟”
“هل ستناديها باسمها أمام الجميع؟ ناديها الآنسة ساشا.”
شعر روين بالحرج للحظة، لكنه أومأ برأسه عندما تذكَّر أنَّ هناك الكثير من الناس حولنا.
“إذاً، سأنسحب.”
انسحب روين بأدب، ووقفتُ أمام نيفي. كانت نيفي تبتسم بلطف، لكنها كانت متوترة بعض الشيء. شعرتُ بعدم الارتياح وكأنها تخاف من أنني سألتهمها.
“آنسة ساشا.”
“نعم، نعم! صاحبة السمو الدوقة الكبرى.”
تنهَّدتُ وأمسكتُ بيد نيفي برفق. لماذا أشعر وكأنني كبرتُ عشرات السنين فجأة؟ همستُ لها حتى لا يسمعنا روين أو أيُّ شخص آخر.
“كيف تسير الأمور مع روين؟”
أعطتني نيفي ابتسامة محرجة. كانت تعرف مغزى سؤالي، لكنها بدت متردِّدة في الإجابة.
“ألا تسير الأمور جيداً؟”
عبستْ نيفي وقالتْ بلهجة مُتوتِّرة:
“أنتِ تتمنَّين ألا تسير الأمور جيداً.”
نظرتُ إلى أيدينا المتشابكة وتنهَّدتُ مرة أخرى. كان عقلي مشوشاً للغاية.
عندما فكَّرتُ في ما حدث مؤخراً مع الكونت ساشا، أصابني الصداع. حتى أنني فكَّرتُ أنني ما كنتُ لأفعل ذلك لو كنتُ أعلم أنَّ الأمور ستصل إلى هذا الحد.
“أنا لا أعرف ما يجول في خاطري. لقد تشاجرتُ علناً مع والدكِ منذ فترة وجيزة، ولا أدري إذا كان من الصواب أن أتصرَّف معكِ هكذا…”
“يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى.”
ابتسمتْ نيفي على الفور وعانقتْ ذراعي.
“أنتِ فقط طلبتِ من روين أن يزوركِ. سأتولَّى أنا الباقي.”
عندما لم يرتسم على وجهي أيُّ ارتياح، قرَّبتْ نيفي شفتيها من أذنيَّ وقالتْ:
“لا تقلقي. لن ألمسه بإصبع حتى يقول روين إنه يُحبني.”
عند كلامها، صُدمتُ وأدرتُ رأسي فجأة. كانت نيفي التي لا تزال قريبة مني تبتسم ببراءة، ممَّا جعلني أشعر بالتناقض.
في النهاية، دفعتُ جبهة نيفي بإصبعي لأُبعِدها.
“لا تستهزئي بشخص بالغ.”
عندما تحدَّثتُ بصرامة، عبستْ نيفي وأظهرتْ وجهاً متوتراً.
“حسناً. سأطلب من روين أن يُرافقكِ في الحفل الذي سيُقام بعد مسابقة الصيد.”
أشرق وجه نيفي على الفور. بدا أنها لم تتوقَّع أن أساعدها إلى هذا الحد. في الواقع، لم أكن متأكدة من أنَّ ما أفعله هو الصواب.
“حقاً؟”
عندما أومأتُ برأسي وغادرتُ متوجِّهة نحو يوليان، نادتني نيفي ولحقتْ بي بخطوات سريعة.
“صاحبة السمو الدوقة، صديقي جاهز أيضاً. هل تثقين بي؟”
قالت نيفي بلطف وهي تلتصق بجانبي. هل هذا مجرَّد وهم؟ أشعر وكأنها تتبعني في كلِّ مكان منذ أن قالتْ إنها ستعمل على كسب روين.
***
قُسِّمتْ مسابقة الصيد إلى مشاركين ومُشاهدين. كان المشاهدون هم من صعدوا إلى منصَّة عالية لمُشاهدة الصيد من مكان آمن.
حصل المشاركون على سهام مربوطة بأشرطة ملوَّنة مختلفة. كان أفراد العائلة الإمبراطورية يرتدون أشرطة ذهبية فخمة، ممَّا جعلهم أكثر تميُّزاً من أيِّ شخص آخر.
حصلتُ أنا ويوليان وروين، الذين حضروا باسم دوقية دوزخان الكبرى، على سهام مُربوطة بأشرطة سوداء. لم يكن لوناً مُشابهاً لأيِّ شخص آخر، لكنه لم يكن ملفتاً للنظر أيضاً. كان هذا اللون يُعبِّر عن رأي الإمبراطور في دوقية دوزخان.
“همم…”
ابتسمتُ ونظرتُ إلى الشريط الملفوف حول السهم. كان يوليان بلا تعبير، وكأنه لا يُفكِّر في أيِّ شيء. على الرغم من أنَّ الجميع في المكان كانوا ينظرون إليه لمعرفة ما يُفكِّر فيه.
بالطبع، كان يوليان هو الدوق دوزخان. كان من الطبيعي أن يثير الرجل الذي يُدعى الغول آكل البشر اهتمام الجميع عندما يُطيع أوامر الإمبراطور.
لكنني كرهتُ هذا الأمر الطبيعي.
مددتُ يدي ووضعتُها بالقرب من وجه يوليان. حرَّك يوليان نظره ببطء ونظر إليَّ.
“زوجتي، ما الأمر؟”
“أخشى أن يكون وجهك يتعرَّض للَّسع من النظرات.”
لم تكن يدي كافية لتغطية وجهه بالكامل، لكنني أردتُ أن أحجب عنه ولو جزءاً صغيراً من تلك النظرات. ابتسم يوليان ابتسامة خافتة عند تصرُّفي. ثمَّ أمسك بيدي وقبَّل وسط كفِّي.
شعرتُ بالهمس يرتفع فجأة في كلِّ مكان، لكن هذا لم يكن مهماً بالنسبة لي. كان الشيء الوحيد المهم هو تلك القُبلة التي شعرتُ فيها بالتباين بين القناع البارد والشفاه الدافئة. عندما زممتُ شفتي وسحبتُ كفِّي، قال بابتسامة مازحة:
شعرتُ بالدوار من كلمات يوليان اللطيفة والمُدلِّلة. وفي لحظة ما، أدركتُ فجأة أنه يمزح معي.
“أنتَ تخدعني!”
أبعدتُ يدي عن يوليان وأدرتُ ظهري. في تلك اللحظة، التقتْ عيناي بروين. كان روين ينظر إليَّ وإلى يوليان بعيون مُندهشة. ثمَّ أدار نظره في حرج، وكأنه رأى شيئاً لا يجب عليه رؤيته، وابتسم بتكلُّف.
“رو… روين.”
ناديتُ أخي بصوت مُتأتئ، لكن روين تظاهر بعدم سماعي واحمرَّتْ أذناه، وبدأ يتحدَّث مع أيِّ شخص يقف بجانبه.
“آه، لورد غرودي. الطقس جميل، أليس كذلك؟”
“ماذا؟ آه، نعم.”
“إنه طقس مثالي للصيد.”
تصرَّف وكأنه لم يسمع ندائي. لم يكن أمامي خيار سوى العودة إلى جانب يوليان بوجه مُحرج.
لماذا أشعر وكأنني ضُبطتُ أنا وعائلتي نتصرَّف بحبٍّ مبالغ فيه؟
شعرتُ بالخجل ولم أستطع رفع رأسي. سألني يوليان وكأنه لا يفهم ما أشعر به:
“زوجتي، ما بكِ؟”
لماذا الرجل الذي كان ذكياً جداً أصبح غبياً في هذه اللحظات! هززتُ رأسي بسرعة. ولم أنسَ إيجاد موضوع لتغيير الحديث بسرعة.
“لا شيء. تذكَّر أنك وعدتني بإظهار مهاراتك في القوس اليوم.”
“سأفعل. وتذكَّري أنتِ أيضاً.”
ابتسمنا لبعضنا البعض وركبنا خيولنا جنباً إلى جنب. كان حصان يوليان أسود بلا شوائب، من العُرف إلى الحافر.
كان يليق جداً بانطباعه الصلب، وشعرتُ أنه وسيم للغاية. حدَّقتُ في الحصان الأسود العضلي وبرقتْ عيناي.
“أريد أن أركب عليه في المرة القادمة.”
“إذا تغلَّبتِ عليَّ في مسابقة الصيد هذه، سأفعل.”
عند هذا الاقتراح المُتعجرف، سخرتُ وسألتُ بثقة:
“هل تظنُّ أنني لا أستطيع التغلُّب عليكَ؟”
بينما كنَّا نتبادل الكلمات، كان جميع من حولنا ينظرون إلينا.
الأمر نفسه ينطبق على أولئك الذين يشاهدون من منصَّة المشاهدين. ربما كان ذلك لأننا لم نبدُ كزوجين تزوَّجا زواج مصلحة من أجل السلطة فقط. سُمع همسهم.
“الدوقة دوزخان لا تخاف على الإطلاق.”
“علاوة على ذلك، يشارك الزوجان في مسابقة الصيد معاً؟ الدوق يترك لزوجته حرية كبيرة جداً.”
أدرتُ رأسي بسرعة ونظرتُ إليهم. سعل أولئك الذين كانوا يُقرِّبون رؤوسهم من بعضهم البعض واندفعوا لركوب خيولهم بسرعة. كان أحدهم يتأرجح على الحصان من شدَّة التسرُّع.
لكن بغض النظر عن هراءهم، كنتُ أشعر بالارتياح. كنتُ سعيدة بالصيد بعد وقت طويل، وسعيدة لأنَّ يوليان سيحضر معي. ربما كان عدم تأثُّري بالكلام الفارغ يعود إلى أنَّ يوليان كان معي.
والأهم من ذلك كله، كان هذا اليوم هو اليوم الذي سيتعرَّض فيه الأمير كين للإذلال بالتأكيد. هذا هو أفضل شيء.
على الرغم من أنَّ الأمير كين أحمق ومُندفع، إلا أنه لن يُثير المشاكل بمجرد بدء مسابقة الصيد.
كان هذا حدثاً إمبراطورياً. حتى لو كان لديه خطة، فلن يكون الأمر سهلاً. من الواضح أنه سيبدأ خطته عندما تتعب الخيول المنتشرة في جميع أنحاء ميدان الصيد وتتراخى حراستها قليلاً.
لذا كان لا يزال لديَّ متَّسع للاستمتاع بمسابقة الصيد. عندما أُطلِقتْ الإشارة، أشرتُ بيدي إلى اتجاه الغابة الكثيفة.
التعليقات لهذا الفصل " 53"