كانت نيفي تتحدَّث بيقين، تماماً كما فعلتْ عندما تحدَّثتْ عن الزواج المدبَّر في وقت سابق. قالتْ بلهجة واضحة ودون أدنى تردُّد:
“هل هناك شيء أهم من الحب في هذا العالم؟”
انعقد لساني. لم يكن ذلك بسبب نقاء قلبها الطفولي الساذج.
بل لأنَّ مشاعر الحسد والغيرة والاشتهاء غمرتْ روحي. لقد أحببتُ شخصاً ما بقوة مثل نيفي في يوم من الأيام.
لو لم يجرَّني ذلك الحب إلى مأساة، لما بهت بريقه أبداً. لكن حبّي قاد عائلتي إلى حتفها.
“أعلم أنَّ حبّي ليس له أمل كبير. لكنني سأبذل قصارى جهدي حتى النهاية.”
عندما تتحدَّث عن الحب، تبدو نيفي فتاة صغيرة للغاية، لكن في الوقت ذاته، تبدو كشخص يتمتَّع بإرادة قوية لا يستطيع أحد أن يمتلكها.
ابتسمتْ نيفي مرة أخرى وسألتْ:
“هل هذا يكفي ثمناً لتمكيني من مقابلة روين؟”
بدأ يراودني شعور بأنَّ نيفي ليست مجرَّد طفلة جاهلة بأمور الدنيا. على الأقل، نيفي التي جاءتني بهذا المقابل كانت كذلك. بدا لي أنها تتألَّق بوميض باهر.
بينما كنتُ صامتة أمام ذلك التألُّق، اقتربتْ خادمة وهمستْ:
“يا سيدتي، وصل الطبيب الجديد. صاحب السمو الدوق يسأل إذا كنتِ تودِّين إجراء الفحص الآن.”
أومأتُ برأسي قليلاً دلالة على الموافقة.
“لقد تعرَّقتُ قليلاً من ركوب الخيل. سأغتسل وأذهب على الفور.”
“حسناً يا سيدتي. سأُجهزُّ كلَّ شيء.”
قبل أن أتبع الخادمة إلى قصر الدوق، استدرتُ للحظة وقلتُ:
“المقابل كافٍ. يجب أن تحافظي على ما وعدتِ به. ليس اليوم فقط، بل ما قلتِه سابقاً أيضاً.”
أدَّتْ نيفي تحيَّة مهذَّبة وكأنها تُمسك تنورتها.
“سأفي بوعدي حتماً.”
حدَّقتُ مليّاً برأس نيفي المُنحني، ثمَّ استدرتُ سريعاً وغادرتُ. سألتْني آنا التي كانت تسير بجانبي بحذر:
“هل أنتِ متأكدة من أنكِ بخير بشأن السماح للآنسة ساشا بلقاء السيِّد؟ إذا انتهى الأمر بزواج الاثنين حقاً…”
“آنا، هل تعلمين ما هو أغلى شيء في العالم من حياة الإنسان؟”
هزَّتْ آنا رأسها بوجه لا يزال قلقاً.
“إنه مصير الإنسان.”
وكانت نيفي مستعدَّة لمنح روين هذا المصير. ربما لم يكن هذا الزواج خياراً سيئاً كما بدا.
شعرتُ بالحسد من نيفي. حسدتُ حبَّها الذي يمكنها أن تضحي بنفسها من أجله، وقلبها الذي يمكن أن يُلقي بمصيره لشخص واحد.
إذا كانت لي حياة أخرى….
تمنَّيتُ بشدَّة أن أعيش تلك الحياة بتلك الطريقة.
***
بعد اغتسال خفيف، دخلتُ غرفتي. بعد فترة وجيزة، سُمع صوت طرق على الباب.
“ادخل.”
فُتح الباب ودخل طبيب لم أره من قبل مع خادمة. كنتُ أتوقَّع رجلاً مُسنّاً بشعر أشيب، لكن دخل رجل شاب ووسيم بشكل غير متوقَّع. كانت عيناه الخضراوان الظاهرتان خلف عدستي النظارة البيضاوية توحيان بالكثير من الذكاء.
“مرحباً. أنا تيين يوس.”
تيين يوس. بالتأكيد، سمعتُ بهذا الاسم من قبل. لقد كان طبيباً لا يخرج من مختبره إلا نادراً، وعندما يخرج، لا يقترب من العاصمة أبداً، بل يتجوَّل في الأقاليم ويعالج جميع أنواع الأمراض.
عندما سمعتُ تلك القصص التي تشبه الحكايات، اعتقدتُ أنه رجل أكبر سناً بكثير. لكن تيين بدا في مثل عمري تقريباً.
في حياتي السابقة، عندما أدركتُ مرضي النادر، حاولتُ العثور على تيين هذا. لكن في ذلك الوقت، كان تيين حبيس مختبره، ولم يكن من الممكن مقابلته. بدلاً من المبالغة في ردِّ الفعل، ابتسمتُ و رحَّبتُ به.
“مرحباً بكَ يا لورد يوس.”
“فقط ناديني تيين. هدفي الأول هو أن أُصبح صديقاً لصاحبة السمو الدوقة الكبرى.”
“ماذا؟”
“ألن تتحدَّثي عني جيداً لصاحب السمو الدوق؟ أودُّ أن أُمارس هذا العمل لفترة طويلة.”
عندما اتَّسعتْ عيناي، صفق تيين بحماس وقال:
“آه، لا أتمنى ألا تُشفى صاحبة السمو. بل على العكس تماماً. لقد عرض صاحب السمو الدوق مكافأة كبيرة جداً مقابل شفائكِ التام.”
كان تيين شخصاً مليئاً بالحيوية. لقد تحدَّث دون توقُّف، ممَّا شتتَ تركيزي تماماً. قلتُ له لا إرادياً:
“إذاً نادني سيدتي يا تيين. ألم تقلْ إنك تُريد أن تُصبح صديقي؟”
عندها، صفق تيين مرة أخرى وعبَّر عن فرحه.
“شكراً لكِ على هذه المعاملة المريحة يا سيدتي. لكن يجب أن نحافظ على سرّيَّة هذا الأمر. صاحب السمو الدوق مُحبٌّ لزوجته جداً. إذا اكتشف الأمر، فقد أُطرد دون أن أحصل على المكافأة، وقد أخسر حياتي!”
ملاحظة : كلمة (سيدتي) هي نفسها (زوجتي) باللغة الكورية ف بيحصل التباس دايمًا في الكلمتين
ضحكتُ عند قوله.
“أنتِ تضحكين، لكنني لا أعرف مدى الخطر الذي كنتُ فيه. لا يزال كتفي يرتجف. يا إلهي، إنه مُخيف.”
عانق تيين كتفيه وتظاهر بالارتعاش. لم أستطع إلا أن أضحك مرة أخرى. قال تيين إنَّ يوليان مُخيف، لكن من خلال تصرُّفه الآن، لم يبدُ خائفاً على الإطلاق.
بعد أن قام تيين ببعض الحركات المُضحكة، أخرج دفتر التشخيص وانتقل بسلاسة إلى الفحص الشفهي.
“لم أسمع الكثير عن حالتكِ الطبية بشكل دقيق، سوى أنَّ جسدكِ ليس بخير. لكن قيل لي إنَّ الأطباء الآخرين لم يتمكَّنوا من اكتشاف أيِّ شيء بسهولة. وأيضاً، أنكِ لا تثقين بالأطباء.”
“صحيح.”
أومأتُ برأسي. الأعراض التي كنتُ أُعاني منها كانت موجودة بلا شك. لكنها لم تكن تظهر في كثير من الأحيان، ولم يتمكَّن الأطباء من العثور على أيِّ خطأ فيَّ.
وفجأة، ظهر المرض ذات يوم. هزَّ جميع الأطباء الذين قابلتُهم رؤوسهم. ومعها قالوا: “ليس هناك أمل.”
بصراحة، لم تكن لديَّ توقُّعات كبيرة. لكن تيين كان طبيباً أحضره يوليان بنفسه. كان طبيب مشهور وجده بصعوبة و دفع له الكثير لذا أردت على الأقل أن أحاول هذه المرة.
“لكنني سأثق بكَ يا تيين.”
“إنه لشرف لي يا سيدتي. هل يمكنكِ إخباري بأعراضكِ؟”
“أُصاب بنزيف في الأنف، وأحياناً أتقيأ.”
“هل تقولين أنكِ تتقيأين الدماء؟”
“نعم.”
“كم مرة يحدث ذلك؟”
“ليس في كثير من الأحيان. قد يحدث مرة كل عشرة أيام، أو كل أسبوعين. الكمية ليست كبيرة أيضاً. أحياناً أُدرك الأمر عندما أشعر بطعم زنخ كريه على لساني.”
دوَّن تيين كلَّ ما أقوله بعناية في دفتره. رفع رأسه مشيراً إلى أنه يستمع. أومأتُ وواصلتُ الحديث.
“الصداع أكثر تكراراً.”
“كيف يأتي الصداع؟”
“أشعر بالدوار، كأنني أقف على جسر متأرجح.”
“هممم، هل هناك أيُّ أعراض أخرى؟”
فكَّرتُ فيما إذا كان يجب أن أتحدَّث عن الهلوسة البصرية والسمعية. لكنني شعرتُ بالخوف فجأة من أن أبدو كامرأة مجنونة. عندما شعر تيين بتردُّدي، سألني بجدية:
“أنا لا أحكم على أعراض المرضى بسهولة. كلُّ مريض بالنسبة لي هو كتاب طبي خاص. فقط أخبريني بما تشعرين به يا سيدتي.”
بالتأكيد. كان تيين يعرف كيف يتعامل مع المرضى بقدر شهرته. شعرتُ بالثقة به وقلتُ بتردُّد:
“… عندما يشتدُّ الصداع، أرى هلوسات.”
سأل تيين بهدوء، دون أيِّ نفور أو دهشة. كان ذلك مريحاً بشكل غير متوقَّع.
“هل ترين نفسكِ في هذه الهلوسات؟”
“لا. أرى امرأة أخرى. امرأة لم أرها من قبل. أراها تنحني وتبكي لوقت طويل.”
“كم مرة ترين هذه الهلوسات؟”
“هذا نادر جداً. في الحقيقة، لم أبدأ برؤيتها إلا مؤخراً.”
تتبَّعتُ ذكرياتي وقلتُ:
“في الواقع، بدأتُ الهلوسات تظهر منذ اليوم الذي رأيتُ فيه خام الحجر السحري النادر لأول مرة.”
عندما سمع تيين قصتي، بدا عليه اهتمام كبير.
“يا سيدتي، ما رأيكِ في السحر والمُشعوذين؟”
***
في مكتب الدوق، سُمع صوت نقر على المكتب بأظافر اليد. كان صوتاً سُمع عدة مرات. لم ينادِ كبير الخدم بصوت عالٍ، لكنه كان قد وصل بالفعل أمام مكتب يوليان. تنهَّد يوليان ورفع رأسه.
“زوجتي…”
“تقابل الطبيب الآن.”
“تيين يوس، أليس كذلك؟”
“نعم، يا صاحب السمو.”
نقر يوليان على المكتب بأظافره مرة أخرى. ابتسم كبير الخدم برفق وهو ينحني.
“إنه في منتصف الفحص. هل أطلب منه أن يقطع الفحص؟”
“لا.”
كان ردُّ يوليان سريعاً جداً. لقد وعد يوليان لايلا بأنه لن يحاول معرفة تشخيص الطبيب أبداً. لن يسأل مباشرة، ولن يتجسَّس عليها.
وقد وثقتْ به لايلا. والدليل هو أنها وافقتْ على مقابلة الطبيب الذي أحضره يوليان، على الرغم من اشمئزازها من الأطباء.
أراد يوليان أن يُكافئ لايلا على ثقتها. لذلك، لم يكن عليه أن يذهب إليها بينما كان الطبيب يُجري الفحص.
ولكن…
‘ذلك الطبيب، وجهه وحديثه كلهما مُتملِّق.’
لم يُرد يوليان التفكير في لايلا والطبيب. ولهذا السبب جاء إلى المكتب ليركِّز على عمله. لكنه لم يستطع التخلِّي عن أفكاره.
‘لايلا كانت دائماً تُبقي الرجال المُتملِّقين بجانبها…’
لم تُنكر لايلا أنَّ الماركيز أمبر كان حبَّها الأول، وكانت تتبادل النكات وتنسجم جيداً مع ابن الماركيز إريانت. ربما كان هذا هو ذوقها.
تماماً مثل ذلك الطبيب.
عندما رأى كبير الخدم تجعُّد حاجبي يوليان، حاول تهدئته.
“يا صاحب السمو، زوجتكَ شخص محترم جداً.”
“زوجتي محترمة؟”
كانت لايلا بعيدة كل البعد عن كلمة “احترام”. خاصة عندما تكون أمام يوليان، لم تكن تستطيع أن تظلَّ هادئة للحظة. عرف كبير الخدم سلوك لايلا، فضحك ضحكة خفيفة.
“ما قصدتُه هو أنها شخص سيفي بأيِّ وعد.”
بمعنى أنها ليست امرأة ستطمع في رجل آخر أثناء زواجها. وافق يوليان على هذا القول.
“لكن إذا كنتَ قلقاً حقاً، فربما كان من الأفضل اختيار طبيب آخر.”
“مَن قال إني قلق؟”
حدَّق يوليان في كبير الخدم. ظلَّ كبير الخدم صامتاً، مُبتسماً بابتسامة دافئة. كان يوليان قلقاً بالفعل.
لكنه لم يستطع تغيير الطبيب. لم يتمكَّن من العثور على طبيب أفضل من تيين يوس.
“حسناً. لا تتحدَّث عن زوجتي بعد الآن. لا أريد أن أسمع.”
في النهاية، لم يستطع يوليان إلا أن يُركِّز على عمله ويتظاهر بذلك، بينما يضغط على حاجبيه المتجعِّدين.
التعليقات لهذا الفصل " 49"