أمسكتُ بذراع يوليان وهززتُها مستعجلة إياه. على الرغم من أنَّ يوليان كان قليل الكلام، إلا أنه نادراً ما كان يتوقَّف عن الحديث في منتصفه. ما الذي يُقلِقُه لدرجة أنه لا يُريد إخباري؟ شعرتُ بالقلق ولم أستطع التظاهر بعدم الاكتراث.
“أسرِع.”
عندما حثثتُه مرة أخرى، مرَّر يوليان يده على شعره. كانت مصيبة أنه لا يمكنني رؤية سوى نصف جبهته الوسيمة. لم يكن يوليان يعلم ما أُفكِّر فيه، فأجابني بجدية:
“أردتُ أن أتأكَّد مما إذا كان تشخيص الطبيب صحيحاً. هذا خطأ مني، فقد نسيتُ وعدي لكِ بألا أسألكِ عن أيِّ شيء.”
وضعتُ يدي على يد الرجل الجاد للغاية. توجَّه نظر يوليان إليَّ. كانت عيناه الحمراوان ترتجفان بخفَّة. ربتُّ على يده وكأنني أُطمئنه.
“لقد فعلتَ ذلك لأنك قلق عليَّ.”
لا تحتاج أن تتردَّد هكذا. فالخطأ كله يقع عليَّ.
لكن ما يدور في داخلي لا يصل إليه أبداً. أردتُ أن أكون صادقة مع يوليان، ولكن في الوقت نفسه، ما زلتُ أخدعه بسبب الاحتمالات غير المعروفة. ضغطتُ بقوة على يدي التي كانت تمسك بيده.
“يوليان.”
أنصتَ يوليان لكلامي ولم يرفع نظره عني للحظة.
“هل يمكنني أن أُدير منزلكَ الريفي؟”
لم يكن بإمكاني أن أكون صريحة مع يوليان، لكنني أردتُ أن أفعل كلَّ ما في وسعي. عندما طلبتُ الإذن لأُقدِّم له هدية صغيرة، أومأ يوليان برأسه. ابتسمتُ على اتساعي.
“شكراً لكَ. لن أُفسد حديقة الدوقة الكبرى السابقة أبداً.”
عند ذلك، ضحك يوليان وأطلق مزحة.
“لم يكن هناك مَن أفسد تلك الحديقة أكثر من والدتي.”
لقد كانت مزحة ماكرة لدرجة أنني لم أستطع إلا أن أضحك معه وجهاً لوجه.
***
نادراً ما كانت أيام إقليم دوزخان دافئة، نظراً لموقعه في الشمال. حتى في الأيام الدافئة، كانت الرياح تحمل برودة تجعل المرء ينكمش على كتفيه.
لكن حتى في هذا الطقس، كان الناس يعيشون بحيوية، وكانت الزهور التي تنمو عند أقدامهم دائماً نضرة.
وهذه الحديقة الصغيرة أيضاً كانت كذلك. لقد نمتْ بقوة وتفتَّحتْ أزهارها بالكامل حتى دون وجود مَن يعتني بها.
مددتُ طرف إصبعي إلى الزهور الوردية المتفتِّحة في الحديقة. أُخبرني ملمسها الناعم والرطب عن مدى حيويتها.
بعد أن شممتُ رائحة الزهور وسرتُ خطوة بخطوة، رأيتُ بقعة فارغة تتناقض مع حقل الزهور المشرق. لم تكن مرئية من مدخل الحديقة، ولكنها كانت واضحة جداً عند القدوم من الجانب الآخر.
“أيها البستاني، لماذا هذه البقعة من الحديقة فارغة؟”
عندما سألتُ البستاني، أومأ برأسه مراراً وتكراراً وتحدَّث بصوت متوتِّر.
“قالتْ الدوقة الكبرى السابقة إنها ستزرع زهوراً، لكنها لم تُخبرنا ما هي. بعد ذلك، ساءتْ صحتها ورحلتْ عن العالم.”
“هكذا إذاً.”
ابتسمتُ بمرارة ونظرتُ إلى البقعة الفارغة. ماذا كانت تُريد والدة يوليان أن تزرع في تلك البقعة؟
شعرتُ برغبة في صرف البستاني الذي كان يرتجف خوفاً مني، لكوني الدوقة الكبرى، لكن الحصول على نصيحة بشأن هذه الحديقة كان أولوية.
“هل هناك أيُّ شخص قد يعرف تلك الزهرة؟”
شعرتُ أنه سيسعد يوليان إذا زرعتُ تلك الزهرة وأريتُه إياها. لكن البستاني قال بتعبير محبط:
“أعتذر يا سيدتي… آه، لا. بالحقيقة، زوجتي هي التي اعتنَتْ بالحديقة مباشرة مع الدوقة الكبرى السابقة، لذا أنا لا أعرف.”
“في الحقيقة… تعرَّضتْ زوجتي لحادث، وهي ليست على قيد الحياة الآن.”
غصَّ البستاني بصوت خفيض، ناسياً أنه كان متوتراً أمامي. أومأتُ برأسي وأنا أشعر بالأسف.
“أشعر بالأسف. لا بدَّ أنكَ تُعاني كثيراً.”
بعد سماع عزائي، تذكَّر البستاني أنه يقف أمام الدوقة الكبرى، فهزَّ يديه على عجل.
“أوه، لا، لا. ما هذا الكلام أمامي… أعتذر.”
“لا بأس. يمكنكَ أن تنصرف الآن. سأطلب مساعدتكَ مرة أخرى لاحقاً.”
“حسناً. نادني بي في أيِّ وقت.”
انحنى البستاني باحترام وغادر. تجوَّلتُ في الحديقة مع آنا، وقضيتُ يوماً كريماً بعد فترة طويلة.
“يا سيدتي، ما رأيكِ بزراعة أشجار الكرز في تلك الزاوية؟ ستبدو جميلة حقاً عندما تهبُّ الرياح.”
“هذا صحيح.”
كانت آنا تُبدي رأيها بحماس، وكأنَّ هذا المنزل الريفي قد نال إعجابها. أومأتُ برأسي بناءً على كلامها، وأنا أُفكِّر في كيفية تزيين الحديقة. كان أهمُّ شيء هو الحفاظ على بساطتها الأصلية.
“ما رأيكِ في طلاء السياج باللون الأبيض؟”
“أعتقد أنه سيكون جميلاً جداً! وسيتناسب مع المبنى أيضاً.”
“أليس كذلك؟”
“سيكون من الجيد أيضاً استبداله بسياج جديد. على الرغم من أنَّ السياج الحالي هادئ وجميل، إلا أنَّ السياج القديم قد يكون خطيراً.”
استمتعتُ بالهواء الذي يداعب خدّي وأنا أستمع إلى ثرثرة آنا. كان عليَّ أن أُمسك بقبَّعتي واسعة الحواف في كلِّ مرة تهبُّ فيها الرياح، لكن حتى هذا التصرُّف البسيط جعلني أشعر بالرضا.
كنتُ أُفكِّر أنني يجب أحضر يوليان معي في المرة القادمة، وأنا أُحدِّق في الشمس الساطعة والجبل المقابل.
طقطقة، طقطقة.
صدح صوت عربة تجرُّها الخيول بضجة في المنزل الريفي الهادئ. أمسكتُ بقبَّعتي ورفعتُ رأسي.
توقفتْ عربة فاخرة عند مدخل المنزل الريفي، ونزلتْ منها فتاة ترتدي ملابس تبدو ثمينة جداً. كانت الفتاة ترتدي عباءة لطيفة، وبدتْ مرتبكة من البرد، ممَّا دلَّ على أنها ليست من هذه المنطقة.
“مَن هذه؟”
سألتْ آنا بحيرة. كان هذا مفهوماً. لم يكن المكان سرياً، لكنه كان منزل الدوق الخاص. كان من الأفضل للأشخاص العاديين عدم الاقتراب منه لسلامتهم.
“اذهبي واكتشفي.”
أشرتُ إلى آنا بالذهاب، فاقتربتْ على الفور. لكن الفتاة كانت أسرع في القدوم نحوي.
“يا آنسة، انتظري قليلاً!”
بدتْ آنا مرتبكة وسارعتْ لإيقافها. توقفتْ الفتاة أخيراً عن الركض أمام آنا. عند هذه المسافة، لم أتمكن من سماع ما كانتا تتحدثان عنه إلا إذا صرختا. لكنني تمكَّنتُ من رؤية وجه الفتاة بوضوح.
كانت فتاة رائعة، عيناها الكبيرتان تحت جبهتها المستديرة تبدوان وكأنهما تحملان نجمة الصباح. تسريحة شعرها الأحمر المموَّج المُربوط على شكل ذيلين كانت تبدو لطيفة أيضاً.
ربما بسبب إيقافها، بدا وجهها الأبيض عابساً قليلاً، لكن ذلك زاد من سحرها. كان من الواضح أنها فتاة نبيلة نشأتْ وهي محبوبة.
“مَن تكون؟”
تملَّكني القلق. تذكَّرتُ أبيغيل، التي كانت في مثل عمرها تقريباً وتصرَّفتْ بعدوانية تجاهي. ماذا لو كانت هذه الفتاة تُحبُّ يوليان سراً؟ ماذا لو جاءتْ لتطالب بحقِّها؟ كيف يجب أن أتصرف بحكمة؟ بينما كنتُ أُفكِّر في كلِّ هذا، التقتْ عيناي بعيني الفتاة.
ابتسمتْ الفتاة ابتسامة مشرقة كشفتْ عن أسنانها البيضاء ولوَّحتْ بيدها.
“أختي لايلا!”
أختي؟
اتَّسعتْ عيناي من اللقب الودود وحدَّقتُ في الفتاة بشكلٍ أدق. فكَّرتُ ملياً فيما إذا كنتُ أعرف أيَّ فتاة في هذا العمر، لكن دون أن أتمكَّن من إيقافها، ركضتْ الفتاة نحوي.
“أختي! إنها أنا!”
أشرتُ بإصبعي إلى نفسي من الإحراج. لم يكن هناك طفل يُمكن أن يُناديني بمثل هذه الألفة. لكن الفتاة كانت واثقة جداً.
لحسن الحظ، أمسكتْ خادمة الفتاة بها قبل أن تصطدم بي.
“يا، يا آنسة! طلبتُ منكِ أن تهدئي!”
“لكن!”
“لا يوجد لكن. يجب أن تُناديها بـ ‘صاحبة السمو الدوقة الكبرى’ وليس ‘أختي’. وإلا ستُحدِثين كارثة حقاً!”
عند كلامي، ظهر على وجه الفتاة تعبير يائس تقريباً. بدا وكأنها لم تتوقَّع أبداً أن تواجه مثل هذا الموقف.
“أختي! آه، لا. صاحبة السمو… ألا تتذكَّرينني؟”
وضعتْ الفتاة يديها على صدرها وبدتْ في حالة حزن عميق. شعرتُ بالأسف الشديد، لكن لم يكن لديَّ خيار آخر. أومأتُ برأسي ببطء.
“أنا آسفة. إذا أخبرتِني باسمكِ، فلن أنساه أبداً.”
بدتْ الفتاة حزينة حتى بعد اعتذاري. لكنها لم تنسَ آداب النبلاء، فانحنتْ مرة أخرى وقدَّمتْ نفسها.
“أُقدِّم نفسي لكِ مرة أخرى، صاحبة السمو الدوقة الكبرى. أنا نيفي ساشا.”
“نيفي ساشا؟”
تفاجأتُ وسألتُ بصوت أعلى قليلاً. أومأتْ نيفي برأسها بقوة.
“نعم! أنا نيفي! هل تتذكَّرين؟”
عند سماع هذا الاسم، تذكَّرتُ شخصين. الأول هو الكونت ساشا الذي واجهتُ صعوبات معه في إحدى الحفلات مؤخراً، والثانية هي ابنته الصغيرة نيفي.
عندما كنتُ صغيرة جداً، كانت العلاقة بين عائلة الكونت ساشا وعائلتي (الكونت وينسلي) قوية، ولذلك كنا نلتقي بنفي كثيراً. كانت نيفي في ذلك الوقت مجرَّد طفلة صغيرة، وما زالت صورتها الصغيرة عالقة في ذهني.
وها هي تلك الطفلة الصغيرة تقف أمامي وقد أصبحتْ فتاة بالغة.
لم أكن متأكِّدة مما إذا كان يجب أن أُرحِّب بها، أو أن أعود إلى موقفي البارد وأطلب منها العودة. بصراحة، الكونت ساشا كان عدوِّي الآن، لكن ابنته لم ترتكب أيَّ خطأ.
“يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى، أردتُ رؤيتكِ بعد وقت طويل، لذلك جئتُ إلى هنا. آمل ألا أكون عبئاً؟”
والأهم من ذلك، كيف لي أن أطلب من هذه الفتاة، التي كانت تبتسم هكذا وتتوسَّل لي بشدة، أن تعود؟ على الرغم من أنَّ مقاطعة ساشا المجاورة لإقليم دوزخان، إلا أنها كانت مسافة بعيدة بالنسبة لفتاة صغيرة تسافر بمفردها.
التعليقات لهذا الفصل " 44"