بمجرد وصولي إلى العاصمة، حجزتُ على الفور فندقاً جيداً. بدت سارة وكأنها تتفقَّد الأماكن بحذر، إذ كانت هذه هي المرة الأولى لها في العاصمة.
لم أؤنِّب سارة، بل منحتُها غرفة صغيرة. كانت غرفة تليق بابنة نبيل، فغمرتْ سارة السعادة ولم تعرف ماذا تفعل.
“يا سيدتي، هل يمكنني حقاً أن أستخدم مثل هذه الغرفة الجيدة؟”
“لكن هذا سرٌّ بيني و بينكِ عن بقية الخدم.”
“نعم، نعم! بالطبع!”
“لقد أتيتُ لتغيير مزاجي، وأريد أن أبقى لوحدي اليوم. هل هذا جيد؟”
أومأتْ سارة برأسها بحماس. كنتُ سعيدة لأنني اخترتُ خادمة صغيرة في السن. لو كانت خادمة أكثر نُضجاً، لربما لاحظتْ شيئاً بالفعل.
بينما كانت سارة تستمتع بوقتها بمفردها في الغرفة الصغيرة، ارتديتُ ملابس الرجال التي أحضرتُها معي وغادرتُ الفندق.
كانت وجهتي، بعد صعودي إلى العربة التي كانت تنتظر بالقرب من الفندق، هي جوار قصر الماركيز أمبر. شعرتُ بالقلق من أنَّ الأمور قد لا تسير كما هو مُخطَّط لها، لكنَّ يديَّ ارتجفتا أيضاً بمجرد التفكير في رؤية كايزاك.
دفعتُ الأجرة للسائق ونظرتُ إلى قصر الماركيز أمبر. كان مكاناً مألوفاً جداً بالنسبة لي، حتى لو لم يكن الباب الرئيسي. لقد كنتُ سيِّدة هذا المكان، وكنتُ أُولي اهتماماً لكلِّ لبنة في سوره، ولكلِّ عُشبة في حديقته.
كان التسلل إلى قصر الماركيز سهلاً جداً بالنسبة لي. كنتُ أتذكَّر بوضوح كيف تمَّ ترتيب الحراس داخل القصر في ذلك الوقت. لأنني كنتُ أنا مَن اكتشفَ نقاط الضعف في الحراسة واقترحتُ إصلاحها.
في ذلك الوقت، كان كايزاك يتظاهر بأنه زوج صالح، وسرعان ما وافق على اقتراحي لأنه كان جيداً جداً.
طبعاً، في وقت لاحق، انتقدني قائلاً: “تلك المرأة تحاول أن تأخذ دور زوجها بالكامل.”
قرَّرتُ التخلِّي عن الأفكار المُحبطة. الشيء المهم هو أنني أستطيع التسلل إلى قصر كايزاك بسهولة بالاعتماد على تلك الخبرة. لم أواجه أحداً حتى وصلتُ إلى غرفة نوم كايزاك عبر الممر الذي كان بإمكاني السير فيه حتى بعينين مغمضتين.
“لم أنادِ أحداً، ما الأمر؟”
قال كايزاك، الذي سمع وجودي، وهو مستلقٍ على السرير. اقتربتُ منه بخطوات بطيئة. وقبل أن يرفع كايزاك رأسه، وضعتُ السكين على رقبته. استقرَّ النصل بحدَّة فوق الندبة التي سبَّبتُها له بالحرق.
“كايزاك، لقد شُفيتْ جراحك جيداً.”
عند تحيَّتي الودودة، بدأ كايزاك يلهث وكأنه سيموت اختناقاً. يبدو أنَّه تذكَّر ما حدث في الطابق السفلي، والذي كان مُرعباً بمجرد رؤية وجهي. ابتسمتُ بارتياح كبير.
“مرَّة، مرَّة، مرَّة أخرى…”
“صحيح. إنها أنا مرَّة أخرى.”
“أيتها المـ… مجنونة. ماذا تفعلين هنا بحقِّ خالق الجحيم! قلتُ لكِ إنني لا أعرف شيئاً!”
عند هذه الكلمات، ضغطتُ النصل بشكل أعمق وهدَّدتُه بحدة:
“هذا كلام فارغ. أعرف كم فعلتَ من أجل الأمير كين.”
“اسمعي…”
بدأ كايزاك يُحاول إقناعي بصوت يرتعش بشدة.
“لا أعرف لماذا تفعلين هذا، لكني أعرف أنَّ الأمر لا يتعلق بمجرَّد كراهيتي. لو كان كذلك، لكنتِ قد قتلتِني بالفعل.”
“أنتَ ذكي، أليس كذلك؟”
“نعم، قولي ما تريدين!”
صرخ كايزاك بعجلة. صوته بدا كصوت صفيح يخدش الأرض من شدَّة الخوف.
“لا ترفعْ صوتك. حتى لو تمَّ القبض عليَّ، فسأقتلكَ قبل أن أغادر.”
همستُ بهدوء قاتم، فأومأ كايزاك بهدوء وكأنه فهم. أومأتُ برأسي أيضاً وخفَّفتُ من القوَّة قليلاً. التهديد لا ينجح إذا كان الخوف شديداً جداً.
“أنا لستُ مهتمة بكَ. لدينا عدوٌّ مشترك، أليس كذلك؟ لابدَّ أنكَ شعرتَ بالخيانة من الأمير كين أيضاً.”
عند كلامي، ظهر الغضب في عيني كايزاك. لم يكن غضباً موجَّهاً إليّ، بل غضباً على الأمير كين الذي كان مُخلصاً له حتى الآن.
لم يخن الأمير كين أبداً. لم يكن مخلصاً له بكلِّ قلبه، لكنه اعتقد أنهما في قارب واحد. لكن الأمير كين استخفَّ بكايزاك وتلاعب به بسبب شائعات تافهة.
“ما الذي تُريدين فعله بالتحديد؟”
تغيَّر سلوك كايزاك. فبينما كان مليئاً بالخوف من الضيف غير المدعو قبل قليل، تغيَّر الآن إلى سلوك حسابي ومتعاون. ورغم أنه ظلَّ حذراً للغاية من السكين الذي كان على رقبته، إلا أنه لم يكن ينوي المقاومة.
كذبتُ ببرود:
“أريدُ إزالة أيَّ خلاف قد ينشأ عندما يصعد ولي العهد إلى العرش. من الطبيعي أن أرغب في إزالة الأمير كين.”
“لطالما كانت عائلة الكونت وينسلي مخلصة للإمبراطور جيلاً بعد جيل.”
“أنا أجد هذا النوع من الأشياء مملاً.”
لم يشكَّ كايزاك في كلامي كثيراً. لأنَّ أيديولوجيته لا تحتوي على أيِّ ولاء متوارث عبر الأجيال. بل ربما يتقبَّل وجودي على أنه أكثر واقعية.
عندما بدا كايزاك مهتزاً بكلامي، انتقلتُ إلى الموضوع الأهم.
“أحتاج إلى نقطة ضعف للأمير كين. نقطة ضعف حاسمة لا يمكن حتى للإمبراطور أن يتغاضى عنها.”
“…الأمير كين لديه الأميرة أبيغيل. الأمير كين قد يكون غبياً، لكن الأميرة أبيغيل ماكرة. ليس الأمر بهذه السهولة.”
عندما كنتُ على وشك الضغط بقوة على يدي التي تحمل السكين، رفع كايزاك ذراعيه على عجل فوق كتفيه في إشارة للاستسلام.
“ليس الأمر أنه لا توجد طريقة على الإطلاق. حاول الأمير كين وضع جميع العائلات المخلصة للإمبراطور جيلاً بعد جيل تحت سيطرته. تطلَّب هذا العمل أموالاً طائلة، وتمَّ اختلاس تلك الأموال من الضرائب من أماكن مختلفة.”
“هل تتحدَّث عن أموال إقطاعية ساشا التي كان من المفترض أن تذهب إلى حي غلاري الفقير؟”
عند كلامي، ضحك كايزاك ضحكة باهتة وكأنه يشعر بالفراغ.
“يا لكِ من مطلعة على كلِّ شيء.”
“إذا كنتَ تعتقد أنَّ خطاياكم ستُدفن إلى الأبد، فأنتَ مُخطئ.”
لم يتردَّد كايزاك طويلاً. كان هذا تصرفاً يليق بشخص سريع التفكير ويبحث فقط عن المصلحة.
“ماذا سأكسب إذا ساعدتكِ؟”
“سأساعدك على الهرب بأمان.”
“مثل ماريان؟”
“نعم.”
على عكس ماريان، ستموت أنتَ في المكان الذي تهرب إليه. نظرتُ إليه بوجه وقح وكأنني أسأله: ماذا تريد أكثر من ذلك؟
حوَّل كايزاك نظره ونظر إلى ذراعه. لقد قُطعت يده وأُصيب بالحروق في كلِّ مكان. لن يكون هناك أيُّ فائدة من اتباع الأمير كين بعد الآن. بل سيكون الأمر بمثابة الدخول معه إلى جحيم.
“…حسناً.”
وافق كايزاك بهدوء.
“لن أكتفي بما حصلتْ عليه ماريان. يجب أن تُساعديني على الهرب بأمان أكبر وبترف أكبر.”
“جهِّز ثروتك بنفسك.”
على أيِّ حال، لن يأخذ معه قطعة ذهبية واحدة إلى القبر.
كايزاك، الذي تقبَّل كلامي على أنه موافقة، فتح فمه أخيراً.
“هناك أمر كان الأمير كين يعمل عليه للإيقاع بولي العهد في فخ. سأُسرِّع في إنجازه.”
“بحيث تنكشف الحقيقة بوضوح؟”
“أنتِ ذكية.”
ابتسمتُ، واتخذتُ وضعية إزالة السكين، ثم ضربتُ خده بوجه السيف. تجمد وجه كايزاك الذي كان يبتسم لي.
“لا تتصرَّف معي كأنك شخص أعلى مني وتقول لي “أنتِ ذكية” أو غير ذلك.”
وضعتُ السكين بالقرب من رقبة كايزاك مرَّة أخرى. هذه المرة، بدأت قطرات الدم تتساقط ببطء على طول رقبته. ارتجف كايزاك وأومأ بعينيه تعبيراً عن أنه فهم.
“أقولها بوضوح: يمكنني دخول هذا القصر في أيِّ وقت. دون أن يعلم أحد. وهذا يعني أنه من السهل جداً أن أقتلكَ وأنتَ نائم، هل تفهم؟”
“أ، أفهم. سأتذكر ذلك.”
“جيد.”
أمسكتُ كايزاك من شعره ودفعتُه بعيداً. مسحتُ السكين على اللحاف ونهضتُ ببطء.
“أنهِ العمل هذا الأسبوع.”
غادرتُ قصر الماركيز تاركةً كايزاك الذي ظلَّ مستلقياً على السرير وغير قادر على الحركة.
أوقفتُ عربة في الظلام وصعدتُ إليها. في طريقي إلى الفندق، نظرتُ خارج النافذة ورأيتُ مبنى أبيض بعيداً. استمررتُ في النظر إليه حتى اختفى عن الأنظار لأنَّ شكله كان مألوفاً. ثمَّ أدركتُ أنَّ ذلك المبنى هو المعبد.
كيف نسيتُه؟
كان ذلك هو المكان الذي متُّ فيه في حياتي السابقة.
***
قبل أن تشرق شمس الصباح، طرقتُ الباب الصغير وأيقظتُ سارة. فتحتْ سارة الباب بوجه لامع، وكأنها استمتعتْ بالترف طوال الليل. حدَّقتْ في وجهي للحظة، ثمَّ فزعتْ ولم تعرف ماذا تفعل.
“يا إلهي، يبدو أنني نمتُ متأخراً جداً. أنا آسفة يا سيدتي!”
“لا بأس. لقد أتيتُ مبكراً.”
“هـ، هل هذا صحيح؟”
“نعم. هلَّا جهَّزتِني، فلديَّ مكان يجب أن أذهب إليه.”
“إلى أين ستذهبين؟”
“إلى المعبد…”
لم أكن أعبد الإلهة بشكل خاص في حياتي الماضية. لكنني مُت في هذا المعبد في حياتي السابقة، وبالتأكيد لم تكن مجرد صدفة أنني عدت إلى الحياة، لذا كان يجب أن أذهب للمعبد و أقدم صلاتي مرة واحدة على الأقل.
كانت سارة تُرتب مجوهرات التزيين، ثمَّ حنت رأسها في حيرة.
“سمعتُ أنَّ الدوق الأكبر أيضاً يذهب إلى المعبد كثيراً.”
عند هذه الكلمات، تذكَّرتُ لقائي بيوليان في المعبد. لقد ساعدني يوليان، الذي لم يكن يثق بأحد ولم ينقذه أحد. كان لا بدَّ أنه رجل لطيف على عكس مظهره، ولم يستطع تجاهلي وأنا أبكي بصوت عالٍ.
بما أنَّ الكاهن لم يفاجأ بقدوم يوليان، فمن الواضح أنه كان يزور المكان كثيراً.
“حقاً؟”
أجبتُ ببرود وكأنني أسمع القصة للمرة الأولى.
“لابدَّ أنَّ إيمانه عميق.”
“قد يكون كذلك. ولكن هلَّا جهَّزتِ لي حجابًا؟ سأذهب إلى مكان مزدحم ولا أريد لفت الانتباه.”
“آه، لقد كنتُ كثيرة الكلام. سأُسرع.”
حرَّكتْ سارة يديها بمهارة.
بما أنَّني سأذهب إلى المعبد، فمن الأفضل ارتداء فستان هادئ. ارتديتُ فستاناً كُحلياً، واخترتُ حجابًا خالياً من النقوش الزاهية. ارتدتْ سارة أيضاً زيَّ خادمة أنيقاً وأحضرتْ لي مظلَّة.
بما أنَّني خرجتُ كسيدة نبيلة على عكس الأمس، استخدمتُ عربة عائلة دوزخان التي أحضرتُها معي.
كانت سارة تستمتع بوجودها في العاصمة، واستمرَّتْ في الثرثرة، لكنها فجأة كانت تفزع وتعتذر. كانت لديها جوانب لطيفة على عكس آنا الماكرة، فكنتُ أكتفي بالابتسام.
بينما كنتُ أستمع إلى ثرثرة سارة الحذرة، لم يستغرق الوصول إلى المعبد وقتاً طويلاً. عندما نزلتُ من العربة، فتحتْ سارة المظلَّة وأمالتها نحوي كثيراً. ابتسمتُ وقلتُ لها شكراً. احمرَّ وجه سارة وحملتْ المظلَّة باجتهاد أكبر.
نظرتُ إلى المبنى الأبيض الناصع بشعور غريب. تسائلتُ عن سبب عودتي للحياة مرة أخرى.
بينما كنتُ غارقة في التفكير وخطوتُ خطوة إلى الداخل، اقترب منّي كاهن ومنعني.
التعليقات لهذا الفصل " 38"