استغرق الأمر بعض الوقت لاستيعاب الموقف. سُمع أنين مُؤلم من مقعد السائق، ممَّا يدل على إصابته بجروح بالغة. كانت العربة مائلة إلى الأمام بشكل عام، ربما بسبب انهيار الجزء الأمامي بعد الاصطدام القوي.
كانت آنا تنزف من رأسها، وقد أصيبت بضربة أقوى لأنها اندفعت لاحتضاني. احتضنتُ آنا وطرقتُ على مقعد السائق.
“هل أنتَ بخير؟ هل أنتَ سالم؟”
لم يُسمع من الأمام سوى أنين يشبه البكاء. في تلك اللحظة التي كنتُ فيها عاجزة، على وشك فقدان وعيي:
“يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى! هل أنتِ بالداخل يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى؟”
سمعتُ صوتاً مألوفاً قادماً من خارج العربة. أدركتُ على الفور صاحبة هذا الصوت العالي.
“آنسة هيرا، هل يمكنكِ إحضار بعض الناس؟”
“آه! أنتِ سالمة إذن!”
أطلقت سينا صوتاً بدا كصيحة، وكأنها شعرتْ بارتياح كبير. ثمَّ بدا أنها تُسرع في إعطاء التعليمات لخدمها. سُمع صوت ضوضاء صاخبة من الأمام، ربما وهم يسحبون السائق ويسندونه.
“يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى، انتظريني لحظة!”
بعد أن قالت سينا ذلك، لم يمرَّ وقت طويل حتى بدأ توازن العربة يستقيم.
“يا صاحبة السمو! ابتعدي عن الباب!”
سُمع صوت رجل غريب، ثمَّ ارتطم الباب بعنف واهتزَّ. بعد أن قاوم الباب المُتشوِّه لفترة طويلة، بدأ ينفتح تدريجياً. أطلقتْ آنا أنيناً، لكنها ضيَّقتْ عينيها وهي تُشاهد المشهد.
“يا سـ… سيدتي، هل أنتِ بخير؟”
عندما بدأ باب العربة يُفتح، بدت آنا وكأنها استعادت وعيها قليلاً، فسألتْ بصوت مُرتجف.
“أنتِ مُصابة أكثر مني.”
“أنا بخير…”
وضعتُ آنا، التي أصرَّت على أنها بخير رغم نزيف رأسها، في حِضني بوضع أكثر ثباتاً. كم انتظرتُ؟ أخيراً، انفتح الباب تماماً، وبدت وجوه الأشخاص الواقفين خارج العربة وأضواء المشاعل واضحة.
“أخرِجوا هذه الفتاة أولاً.”
عهدتُ بآنا إلى الرجل الضخم الواقف في المقدِّمة. بعد ذلك، مددتُ يدي لأتلقَّى المساعدة.
“يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى! يدكِ!”
أطلقتْ سينا، التي كانت تقف قريبة، صرخة قصيرة وهي تنظر إلى يدي. عندما نظرتُ إلى يدي، رأيتُ كدمات عنيفة زرقاء وسوداء قد ظهرت عليها بالفعل. رغم أنَّ آنا احتضنتْ رأسي وجسدي بكلِّ قوتها، إلا أنَّ جسدها لم يكن ضخماً، ولم تكن مُقاتلة، لذلك لم تستطع حمايتي بالكامل.
أخفيتُ يدي خلف ظهري لأنني لم أرغب في الكشف عن جرحي، ومددتُ يدي الأخرى للمساعدة.
“جرحكِ خطير.”
“إنه لا شيء يُذكر، أيَّتها الآنسة.”
ربما لاحظتْ سينا أنني أحاول إخفاء إصابتي، فاقترحتْ بحذر:
“هل بُمكنكـ استخدام قفَّازي لو سمحتِ؟”
“…سآخذه بكلِّ امتنان.”
بمجرد أن تفوَّهتُ بالكلمة، خلعت سينا قفازها وقدَّمته لي. لحسن الحظ، لم يكن هناك فرق كبير في حجم اليدين، فكان مناسباً لي تماماً. سألتُها وأنا أسندُ يدي التي لا تستطيع حتى قبض قبضة جيدة:
“لكن، هل العربة التي اصطدمتْ بنا بخير؟”
عندما سألتُ بقلق، عضَّتْ سينا شفتها ثم أجابت:
“لا تسألي. يقال إنَّ السائق كان ثملاً. لا بدَّ أنَّ السائق لم يكن مسموحاً له بدخول القاعة، فمن أين حصل على الخمر؟”
“هل أصيب الطرف الآخر بجروح خطيرة؟”
“على الأغلب.”
تزامناً مع كلام سينا، فُتح باب العربة التي اصطدمتْ بنا، وظهر خادم ورجل آخر. بدا كلاهما مُصاباً بشدة، حيث كان أحدهما يعرج والآخر لم يستطع الوقوف بشكل مستقيم وكان يمسك خصره.
“مِن أيِّ عائلة هذا الشخص؟”
أجابتْ سينا على الفور:
“أعتقد أنَّه الفيكونت ريسا. رأيتُه مرَّة عندما تفاوض نيابة عن والده.”
الفيكونت ريسا. عندما بحثتُ في ذاكرتي، تبادرتْ إليَّ ذكرى باهتة. إنه من عائلة نبيلة متواضعة في إحدى المقاطعات… ذات مرَّة، ذكره كايزاك وهو يشرب الخمر ويشعر بالانزعاج.
— هذا الفيكونت ريسا مزعج للغاية، إنه يستمر في إرسال هدايا تافهة ويتملَّقني.
كان الفيكونت ريسا يتملَّق عائلة الماركيز أمبر ليحصل على الدعم من فصيل الأمير الثاني. لكن في حياتي الماضية، كان كايزاك ثرياً للغاية، وكان يزدهر بدعم من الأمير كين.
لذلك، لم يكن بحاجة إلى الاهتمام بشخص مثل الفيكونت ريسا. في النهاية، لم يكن أمام الفيكونت ريسا سوى العودة بعد أن صُودرتْ حتى الهدايا التي أحضرها.
لكن في هذه الحياة، ربما جاء دور الفيكونت ريسا. هل ما زال كايزاك يعتمد على الأمير كين؟ أو ربما يكون شخص آخر من فصيل الأمير كين قد مدَّ يده.
على أيِّ حال، ما يمكنني التفكير فيه هو أنَّ هذا الحادث لم يكن مصادفة أبداً.
اقتربتُ من الفيكونت ريسا وأنا أتلقَّى أنظار الجميع. كان الفيكونت ريسا يتأوَّه ألماً ولم يستطع الوقوف، ربما لإصابته الشديدة في خصره.
“أيها الفيكونت ريسا.”
عند ندائي، رفع الفيكونت ريسا رأسه وشهق.
“يا صـ، يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى. سـ، سامحيني على هذا التصرف غير المهذب…”
نظرتُ إلى الفيكونت ريسا الذي كان يُحاول الكلام على عجل، ثمَّ أشرتُ بيدي بحركة كبيرة.
“خطيئة الفيكونت كبيرة لأنه لم يدِرْ سائقه بشكل صحيح. لكن لا يمكننا البقاء هنا، لذا لننتقل إلى قصر الدوق أولاً.”
“ماذا؟ لا، أنا بخير. لا مزيد من الإحراج…”
“أيها الفيكونت.”
ناديته بنعومة. عندما لمستُ يدي التي ترتدي القفاز، تحوَّل نظر الفيكونت ريسا إليها.
كانت لديَّ عربة مُتعطِّلة وعربة صغيرة يستخدمها الخدم، والتي كانت قد انطلقتْ على عجل لتلحق بشوان. لم أردْ أن أركب مع الفيكونت ريسا في تلك العربة الصغيرة.
“أيتها الآنسة، هل تمانعين في اصطحابي إلى قصر الدوق؟”
سُرَّت سينا جداً ووجَّهتني إلى عربتها. في هذه الأثناء، صعد الفيكونت ريسا إلى العربة الصغيرة دون اعتراض. ولطيبة قلبها، جعلت سينا آنا أيضاً تركب في العربة. عبَّرتُ لها عن امتناني بانحناءة خفيفة. ابتسمتْ سينا وهي تُلوِّح بيدها.
“إنه لمن دواعي سروري أن أتمكَّن من مساعدة صاحبة السمو الدوقة الكبرى.”
“أنا ممتنة حقاً.”
“على أيِّ حال، الفيكونت ريسا ليس في وعيه حقاً. حتى إنَّه لم يعرف أنَّ سائقه كان ثملاً. أن يصطدم بعربة صاحبة السمو الدوقة الكبرى، كان سيحدث أمر فظيع حقاً.”
أومأتُ برأسي. لكن كان يدور في ذهني فكر آخر. هل كان هذا الحادث مصادفة حقاً؟ هل حدث ببساطة لأنَّ الفيكونت ريسا كان طائشاً؟ كم كنتُ أتمنَّى أن أستطيع معرفة ذلك بمجرد سؤال الفيكونت ريسا.
بينما كنتُ غارقة في التفكير، ظلَّت سينا صامتة. لقد كانت شابة ذكية جداً وفطنة.
توقَّفتُ عن التفكير في ما لا فائدة منه في الوقت الحالي، ووجَّهتُ انتباهي إلى الآنسة اللطيفة التي تُظهر لي مَوَدَّة غير محدودة.
“لماذا تُظهر لي آنسة هيرا هذا اللطف، ونحن نلتقي للمرة الأولى؟”
“هل هذا واضح جداً؟”
ضحكتْ سينا وهي تُغطي فمها بيدها.
“هناك عدة أسباب، لكنني سأخبركِ بالسبب الأكثر نفعية. أنا وعائلتي بارونية هيرا نُريد التجارة في الأحجار السحرية النادرة التي تمتلكها عائلة دوزخان.”
عندما جاء ذكر المال، لمعتْ عينا هذه الآنسة اللطيفة. كان يجب أن نُطلق عليها لقب “سيدة أعمال” بدلاً من “آنسة نبيلة”. على الرغم من إعجابي، لم يكن بوسعي سوى إظهار بعض الإحراج تجاه كلام سينا.
“الأحجار السحرية النادرة التي تملكها عائلة دوزخان هي عملياً تحت تصرُّف العائلة الإمبراطورية في الوقت الحالي.”
“هل قرَّرتُم تقديمها كلها؟”
“ليس كلها، لكنهم سيرغبون في الحصول على كلِّ شيء.”
لم تنتهِ بعد الصفقة مع العائلة الإمبراطورية. كان عليهم أن يتفاوضوا على الكمية التي سيُقدِّمونها والكمية التي سيأخذونها. لن يُرحِّب الإمبراطور بفتح التجارة مع قوافل أخرى قبل الانتهاء من ذلك.
على الرغم من إجابتي المتشائمة، لم تفقد سينا عزيمتها على الإطلاق.
“لا بأس. لديَّ أيضاً ورقة رابحة لم أُظهرها بعد.”
في الوقت الذي كانت فيه سينا تقول ذلك بثقة، وصلت العربة إلى قصر الدوق. أسرعتُ في إخراج آنا من العربة أولاً.
بعد نزول آنا، أمسكتْ سينا بيدي وكأنها تخدم، وأنزلتني أمام العربة. عندما نزلتُ من العربة، لم يسعني إلا أن أُفاجأ.
كان رجل طويل القامة يقف أمام قصر الدوق المظلم. انعكس ضوء القمر على قناعه، مما أبرز تعابير وجهه الحادَّة. كنتُ على وشك السير نحوه على الفور، لكنني أدركتُ وجود سينا فتوقَّفتُ.
نظرتْ إليَّ سينا وقالت بحسد:
“على عكس الشائعات، علاقتكما جيدة حقاً.”
“ماذا… لا تقولي مثل هذا الكلام.”
شعرتُ وكأنَّ وجهي يحترق.
في قصر الكونت وينسلي، كان والدي ينتظر والدتي دائماً عند الباب. لكن هذا لم يكن أمراً شائعاً بين النبلاء أبداً. لابدَّ أنَّ سينا تجد هذا غريباً.
“أيتها الآنسة هيرا، هل تتناولين بعض الشاي؟”
“لا، سأعود إلى المنزل حتى لا أُزعجكما. أرجوكِ ادعيني إلى حفلة الشاي عندما تكونين متفرِّغة. سنتحدَّث بالتفصيل حينها.”
ابتسمتْ سينا ورفعتْ طرف تنورتها وأدَّت تحيَّة الاحترام. قبلتُ تحيَّتها بالإيماء. أضافتْ سينا، وكأنها لا تُريد أن تفترق:
“يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى، سبب مودَّتي ليس نفعياً فقط، بل هو ببساطة لأنني مُعجَبة بكِ. سمعتُ قصصاً كثيرة واعتبرتكِ شخصية رائعة.”
احمرَّ وجهي الذي كان أحمرَّ بالفعل. لوَّحتُ لسينا بيدي متمنيةً لها عودة آمنة، وأدَّتْ هي تحيَّة احترام أخرى قبل أن تستقلَّ عربتها.
بعد رحيل سينا، سارعتُ نحو يوليان.
“يوليان! لماذا أنتَ هنا؟”
لم يُجب يوليان على كلامي. كان يحدِّق بي فقط. غمضتُ عينيَّ وأنا أتساءل عمَّا إذا كانت هناك مشكلة.
لكنَّ يوليان ظلَّ صامتاً. كان يقف صامتاً كتمثال ضخم.
“يوليان؟”
أملتُ رأسي ونظرتُ إلى رأسه المُنحني. مدَّ يوليان يده الكبيرة نحوي. وضعتُ يدي على يده بشكل طبيعي.
“يا زوجتي.”
“ما الأمر؟”
“أليس الأمر يخصُّكِ أنتِ؟”
يبدو أنَّ حادث العربة الذي وقع للتو قد وصل إلى مسامعه. أومأتُ برأسي، ثم تنهَّدتُ وهززتُ رأسي. كان الأمر مروعاً لدرجة لا تُصدَّق.
“وقعتْ حادثة عربة. من الغريب حقاً أن تحدث مرتين في هذا العام وحده.”
كأنَّ شخصاً ما يطارد عربتي ويتمنَّى بصدق أن يقع لها حادث.
“هل أنتِ مصابة؟”
“لا. أنا سليمة تماماً. لكن آنا أصيبتْ بجروح بالغة بدلاً مني.”
على الرغم من إجابتي القلقة، بدا يوليان مرتاحاً. في تلك اللحظة، جاء السائق الذي كان يقود العربة الصغيرة ليسأل عمَّا يجب فعله بالفيكونت ريسا. سأل يوليان بنبرة حادَّة بعض الشيء عندما سمع القصة:
“الفيكونت ريسا؟”
“إنه صاحب العربة التي اصطدمتْ بنا. يقولون إنَّ سائقه كان ثملاً… هذا أمر مزعج، فلنتحدث عنه ونحن في الداخل.”
استدرتُ وقلتُ للسائق:
“اصطحب الفيكونت ريسا إلى غرفة الضيوف واعتنِ بجراحه. ولا تسمحْ له بالتواصل مع أحدٍ في الخارج.”
“حسناً يا سيدتي.”
توجَّه السائق إلى تلك الجهة للحصول على مساعدة الخدم، ونظرتُ إلى يدي التي ما زالت في قبضة يوليان. عادةً ما كان يوليان لا يُظهر مشاعره بوضوح، لكنني لم أستطع معرفة ما يُفكِّر فيه اليوم.
“يوليان، هل ندخل؟”
بدلاً من الإجابة على كلامي، سأل يوليان بصوت منخفض جداً:
التعليقات لهذا الفصل " 36"