في الشمال الشرقي للإمبراطورية، كانت أكبر الأحياء الفقيرة، “غلاري” تقع في إقطاعية ساشا. كان هذا المكان يُعتبر معضلة الإمبراطورية؛ فقد اشتهرت الحوادث والمآسي التي تقع فيه بسبب الفقر المدقع، ونُشرت عنها تقارير عدة في الصحف.
ساهم وجودها أيضاً في ترسيخ التحيز القائل بأنَّ إقطاعية دوزخان، المتاخمة لإقطاعية ساشا، يجب أن تكون فقيرة أيضاً.
إذا كان هناك شخص يستهين بي بصفتي دوقة دوزخان، فمن المؤكَّد أنَّه يفعل ذلك بناءً على هذا التحيز، معتقداً أنَّ سلطة الدوق دوزخان ليست عظيمة.
في الحفل الخيري هذا، لم أردْ فقط كسر هذا التحيز، بل أردتُ أيضاً أن أُظهِرَ أنني أحظى بمكانة مهمة جداً داخل عائلة دوزخان الكبرى.
لذلك، كان خياري هو إقامة حفل خيري لإغاثة الحي الفقير. لم يكن موقع هذا الحي بعيداً عن إقطاعية دوزخان، وإذا تطوَّر، فلن تخسر إقطاعية دوزخان شيئاً. لقد كان حفلاً أُقيم على أمل تحقيق المكاسب العملية وكسب قلوب الناس معاً.
كان من الطبيعي أن أُولي اهتماماً أكبر لزِينتي أكثر من أيِّ وقت مضى. قبل بدء الحفل، جلستُ للمرة الأخيرة أمام طاولة التزيين لاختيار مجوهراتي.
قرَّبت آنا قرطاً أحمرَ براقاً يُشبه الوردة من شحمة أذني. نظرتُ في المرآة، ثم هززتُ رأسي وأشرتُ إلى قرط آخر.
“آنا، أعطيني قرط الزمرد.”
نظرتْ آنا إلى القرط الذي أشرتُ إليه وهي تحني رأسها في حيرة:
“يا سيدتي، ألا ترين أنَّ هذا اللون الهادئ لا يتناسب مع عُمركِ؟ لقد اخترتِ فستاناً بلون رصين أيضاً.”
“أنا الدوقة وزخان. اليوم، مركزي أهمُّ من عُمري.”
بدت آنا آسفة، لكنها علَّقت القرط على شحمة أذني دون مزيد من الاعتراض. عندما تمَّ رفع شعري الأشقر الكثيف بعناية، بدا وجهي الذي كان يُشبه الفتيات أكثر نُضجاً.
“حتى مع كلِّ هذا التزيين، ما زلتِ تبدين لطيفة كفتاة صغيرة يا سيدتي.”
قالت آنا بابتسامة ناعمة. لمستُ خدي وقلتُ بقلق:
“لا أريد أن أبدو مضحكة.”
“أوه، لكنكِ كنتِ واثقة جداً أمام الدوق الأكبر!”
رمقتُ آنا التي كانت تحاول أن تُداعِبني بنظرة عبر المرآة، ثم نهضتُ. خرجتُ من الغرفة بمساعدة آنا.
قبل النزول إلى القاعة عبر السلالم، نظرتُ صعوداً نحو الطابق الرابع للحظة. لم أرَه منذ أن حيَّيته صباح اليوم. ربما لن نلتقي طوال اليوم.
“يا سيدتي.”
يبدو أنني نظرتُ إلى الطابق الرابع لفترة أطول مما ظننتُ، فحثَّتني آنا بلطف. أومأتُ برأسي ونزلتُ الدرج.
لم أكن ألوم يوليان على عدم حضوره الحفل. لم يكن لديَّ الحقُّ في ذلك. فإقامة حفل في قصر الدوق وزخان بحدِّ ذاتها كانت سابقةً هي الأولى من نوعها، وهذا يعني أنَّني حصلتُ على معاملة خاصَّة.
ومع ذلك، لم أستطع إزالة فكرة “لو كان يوليان بجانبي…” من رأسي تماماً.
دخلتُ القاعة مبتسمة، مُتصنِّعةً الثبات. استقبلني الأشخاص الذين كانوا في قاعة الحفل بالتصفيق. صعدتُ إلى المنصة المُعدَّة في القاعة وألقيتُ تحيَّة خفيفة. بعد الانتهاء من عبارات التحية المألوفة، نظرتُ إلى الحاضرين وقلتُ:
“إنَّ حيَّ غلاري الفقير مُتاخمٌ لإقطاعية دوزخان، لذلك شعرنا بأضراره بشكل أعمق. وبما أنني في موقع الدوقة الكبرى، أرغبُ في مشاركتهم آلامهمظ لذلك، سأتبرَّع بـ مليار قطعة ذهبية، وسأُنشئ وأُدير المرافق التعليمية بنفسي.”
عند ذكر مبلغ المليار قطعة ذهبية، بدأ الناس يتهامسون ويتطلَّعون إلى بعضهم البعض. حتى بالنسبة لدوق، لم يكن هذا المبلغ قليلاً على الإطلاق.
كان الناس ينظرون إليَّ بأعينهم، لكنهم كانوا يتهامسون بشدة خلف مراوحهم التي تُغطي أفواههم. كانت نظراتهم تقول:
‘هل تستحقُّ الدوقة الجديدة كلَّ هذا؟’
‘هل تتصرف الدوقة من تلقاء نفسها دون علم الدوق؟’
لكنني واجهتُهم مباشرة وقلت:
“أُهدي كلَّ هذا المجد لزوجي، الدوق الأكبر دوزخان، وسيِّد هذه الإقطاعية.”
لقد أوضحتُ أنَّ كلَّ هذه الأمور تتمُّ بشكل مستقرٍّ بدعم من الدوق الأكبر لدوزخان، وهو أقوى حليف لي. ظهر تساؤل آخر في أعين الناس:
‘بأيِّ طريقة؟’
لكنَّ النبلاء هم أشخاص بارعون في إخفاء ما في بواطنهم. أخفى الناس أفكارهم وابتسموا، وصفَّقوا لي مرَّة أخرى، فنزلتُ عن المنصة بانحناءة خفيفة.
انقسم الناس حولي ليُشكلوا نهراً صغيراً، لكنَّ الأنظار كانت مُركَّزة عليّ. كان من الواضح أنَّ شخصاً ما سيأتي إليَّ إذا بقيتُ واقفةً.
بينما كنتُ أتساءل أيُّ الثعالب الماكرة ستأتي أولاً، كانت البداية مع آنسة لطيفة وشجاعة. كانت لا تزال صغيرة، فخدَّاها ما زالا منتفخين، لكنَّ عينيها كانتا ساطعتين.
“تشرفَّتُ بلقاء صاحبة السمو الدوقة الكبرى لدوزخان. إنه لشرف لي أن ألتقي بكِ.”
“أهلاً بكِ أيَّتها الآنسة، أنا أيضاً مسرورة بلقائك. من أيِّ عائلة أنتِ؟”
ابتسمت الآنسة، التي بدت ذكية جداً، بابتسامة ناعمة لا تتناسب مع عمرها، رداً على سؤالي الودود.
“أنا سينا من بارونية هيرا. لم أكن أحلم بأنني سألتقي بالشخص الذي كنتُ أُعجَبُ به إلى هذا الحد.”
آه، إنها آنسة من بارونية هيرا. سمعتُ ضحكات استهزاء من الأشخاص الذين تجمَّعوا حولي بسبب صوت سينا المرتفع.
كانت بارونية هيرا تملك ثروة كبيرة بفضل إدارة قافلة تجارية ضخمة. لكنَّ ثروتها التي لا تتناسب مع مركزها المتدني كانت أحياناً مادة للسخرية.
لحسن الحظ، لم تبالِ سينا على الإطلاق. وظلَّت على وقفتها المستقيمة. كانت أكثر نضجاً من هؤلاء الحمقى.
“يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى، تودُّ بارونية هيرا أيضاً أن تُضيفَ بهجة صغيرة إلى هذا الحفل الخيري. أولاً، أودُّ التبرُّع بمئة مليون قطعة ذهبية من مالي الخاص، كما أودُّ تشجيع والدي، بارون هيرا، على التبرُّع لهذا الحفل الخيري. ما رأيكِ؟”
عندما ذكرت سينا مبلغ “مئة مليون قطعة ذهبية”، صمت جميع أولئك الذين كانوا يُحدِثون ضجة. أعجبتْني هذه الآنسة الجريئة جداً.
“سأكون سعيدة لو فعلتِ ذلك. سيتمكَّن حي غلاري الفقير أيضاً من قضاء أيام أكثر حيوية بفضل تلك المساعدة.”
أعربت سينا عن سعادتها بردِّي، وجمعت يديها باحترام وقالت:
“أودُّ أن أحصل على هدية صغيرة من صاحبة السمو الدوقة الكبرى بمناسبة هذا اللقاء.”
“ماذا تتمنين أيَّتها الآنسة؟”
“هدية صغيرة”. بما أنَّها كانت مسألة عمل واضحة، فلا ضرر من تلبيتها. سينا، التي كانت تنظر إليَّ بعين التاجر حتى الآن، أصبحتْ فجأة تلمع بعينين بريئتين، وضمَّت يديها بقوة.
“أرجوكِ، أرجو منكِ دعوتي إلى حفلة شاي.”
كانت أمنية بسيطة جداً. أخفى الآخرون الذين كانوا يتلصَّصون على محادثتنا ضحكاتهم خلف مراوحهم. لكنني لم أحتاج إلى فعل ذلك. أطلقتُ ضحكة خفيفة. احمرَّت خدا سينا بشكل جميل.
“حسناً يا آنسة. سأدعوكِ بالتأكيد إلى حفلة شاي في المرة القادمة.”
“حقاً؟”
“بالتأكيد.”
انسحبت سينا بوجه سعيد، وكأنها حصلت على توقيع من فنانها المفضل.
بعد ذلك، اقترب مني بعض الأشخاص وأجروا معي محادثات مختلفة، لكن لم يكن هناك أيُّ لقاء لطيف وحيوي مثل لقاء سينا. لكن كان هناك لقاء على النقيض من ذلك.
عندما أصبحت الأجواء هادئة بعض الشيء، كنتُ أتلفَّتُ حولي بحذر بحثاً عن الماركيزة أرينا إريانت.
لكنَّني لم أرَ سوى شوان بعيداً. حتى عندما التقتْ عيناي بعينيه، لم يقترب مني، بل كان يرتشف الشمبانيا من بعيد.
ماذا يفكر فيه شوان الآن؟
بينما كنتُ أحاول تخمين أفكار شوان، اقترب مني رجل في منتصف العمر لمحتُه من قبل. كان قصير القامة، لكنَّه ضخم الجثة، مما أعطاه انطباعاً عاماً مُستديراً. أسوأ ما في مظهره كان شاربه الطويل. تذكَّرتُ في النهاية صاحب هذا الشارب القبيح.
الكونت ساشا.
كان الكونت ساشا هو لورد إقطاعية ساشا التي يقع فيها حي غلاري الفقير. عندما كنتُ طفلة، كان صديقاً مُقرَّباً من والدي، الكونت وينسلي.
في ذلك الوقت أيضاً، لم يكن حي غلاري الفقير منطقة ميؤوساً منها إلى هذا الحد.
لكنَّ الكونت ساشا أدار ظهره لعائلة وينسلي في لحظة ما، ومنذ ذلك الوقت، تدهورت حالة حي غلاري الفقير بسرعة.
تذكَّرتُ أنَّ والدي قال بصوت حزين:
— الكونت ساشا لم يكن كذلك. لقد كان رجلاً نقيَّ القلب وبسيطاً حقاً.
لكنَّ الكونت ساشا أصبح الآن “ذلك الرجل”.
“تشرفَّتُ بلقاء صاحبة السمو الدوقة الكبرى دوزخان.”
“وأنا أيضًا أيها الكونت ساشا، مرَّ وقت طويل.”
في طفولتي، كان الكونت ساشا يُناديني باسمي “لايلا” ويُدللني. لكنَّ مظهره من تلك الأيام لم يعد موجوداً الآن. مدَّ يده ليُصافحني بوجه لامع دهني. شعرتُ بالامتنان لارتدائي القفَّازات وأنا أُصافحه.
“لقد نشأتْ صاحبة السمو الدوقة الكبرى بشكل ممتاز حقاً. وها هي تُقدِّم المساعدة لإقطاعيتنا.”
“مشكلة حي غلاري الفقير ليست مشكلة إقطاعية ساشا وحدها. يجب أن نتشارك آلام الإمبراطورية.”
“هاهاها! هذا صحيح!”
ضحك الكونت ساشا بصوت عالٍ وكان مسروراً. لا بدَّ أنَّ هذا الرجل يعتقد أنَّ كلَّ الأموال التي سأتبرَّع بها ستذهب إلى جيبه.
مُستحيل. أنا أعرف الكونت ساشا، فكيف لي أن أسمح بحدوث ذلك؟ شعرتُ بالأسف فقط لأنَّ الكونت ساشا لديه ابنة لطيفة وذكية في مثل عُمر سينا.
عندما اتخذتُ موقفاً صارماً، مُوضحةً أنَّه لا أمل لديه، اعوجَّ حاجبا الكونت ساشا بصدق.
أبي، الكونت ساشا لم يعد بسيطاً، بل أصبح شخصاً جشعاً وواضح النوايا.
كنتُ على وشك الاستدارة وأنا أنقل مشاعري الحزينة إلى والدي الذي لم يفقد الأمل في الناس، عندما حدث ما يلي:
“يا صاحبة السمو الدوقة الكبرى، إذا لم تحملي نوايا باطلة، فإنَّ الأمير كين سوف يسامحكِ.”
همس الكونت ساشا لي بخُبث. رمقتُ الكونت ساشا بعينين متألقتين. كان يجمع يديه ببعضهما البعض، وعلت وجهه تعابير تقول: “أليس كذلك؟” بدا وكأنَّه يعتقد أنني سأُصادق على كلامه وأجثو على ركبتيَّ.
نعم، شعرتُ أنَّ هذا صحيح. الكونت ساشا أعلن عن نفسه بأنه من أتباع الأمير كين، وهذا يعني أنَّ الفريسة كشفتْ عن نفسها.
التعليقات لهذا الفصل " 34"