لم يمضِ وقت طويل على عودتي إلى القصر حتى أدركت أنني ارتكبت خطأً كبيراً. منذ ذلك اليوم، لم أذهب لمقابلة يوليان، وهو كذلك لم يأتِ لمقابلتي.
لم نتناول الطعام سويةً، وكانت غرف نومنا مختلفة. أدركت أنه ما لم نبذل جهداً متبادلاً، لن نتقابل حتى لو كنا نسكن في القصر نفسه. مجرد الابتعاد قليلاً عن ذلك الرّجُلِ الصامت، جعل القصر موحشاً ومملاً للغاية.
حاولت الذهاب إلى يوليان عدة مرات، لكنني كنت أتوقف دائماً عند الباب. اليد التي رفعتها للطَّرق، كانت تسقط بخذلان بجوار فخذي في كل مرة.
كان السبب الأول هو أنني لم أمتلك الجرأة الكافية لشرح سِرّي الذي أحمله له، والثاني هو أنني أدركت أنني مستاءة من قناعه أكثر مما كنت أتصور.
كان لدى يوليان ما يرد به على كلامي. لو قال لي إنه سيزيل القناع، لما كان أمامي مفر سوى البوح ببعض أسراري. لكن يوليان اختار الصمت.
أعلم، أنا أيضاً، أن الأمر ليس هيناً. ومع ذلك، شعرت بالاستياء. تداخل الشعور باللوم وتأنيب الضمير معاً، فجعلني عاجزة عن فعل أي شيء.
ومع توالي هذه الأيام، أصبحت أتوجس من مجرد صوت طرقة على الباب.
طَـق.. طَـق.. عند سماع ذلك الصوت، قمت من مكاني على عجل. سمعت صوتاً مألوفاً من خلف الباب.
“سيدتي، أنا كبير الخدم.”
“أدخل.”
لم يكن الصوت الذي انتظرته، بل صوت كبير الخدم الذي أسمعه دائماً. عدت إلى مقعدي وتظاهرت بالهدوء وأمرته بالدخول. يا له من عَبَث! انتظرته رغم أنني لست مستعدة لجمع شجاعتي حتى لو جاء، فاضطررت لإخراج تنهيدة من شدة إحساسي بالسخافة.
فتح كبير الخدم الباب ودخل، ثم أدى تحية مهذبة.
“ما الأمر؟”
“لقد انتهى أول استخراج للحجر السحري النادر. لم نحصل إلا على كمية ضئيلة جداً، لكن السيد أمرني بأن أقدمه للسيدة أولاً، فجئت به.”
“يوليان؟”
شعرت بارتجاف عينيّ. ابتسم كبيي الخدم وقدم لي صندوقاً صغيراً. كان صندوقاً يملأ كف يدي. أخذته من كبير الخدم وفتحته. كان بداخله حجر سحري نادر يضيء بشفافية.
شعرت وكأنني أسمع الهلوسات من جديد بمجرد النظر إليه، فأغلقت الصندوق على عجل، لكن الإحساس بالامتنان بقي كما هو.
“أين سمو الدّوق الآن؟”
“إنه في المكتب يزاول أعماله.”
أمسكتُ صندوق الزينة بكلتا يديّ، متحيّرة لا أعرف ماذا أفعل، ثم أمرتُ آنَا بالاستعداد للمغادرة إلى القصر الإمبراطوري.
“ماذا؟ بهذه السرعة؟”
“يجب أن أسرع. سأذهب للطابق العلوي لبعض الوقت.”
أومأت آنَا برأسها على كلماتي المتسرعة وتحركت بنشاط.
كان الطريق المؤدي إلى الطابق الرابع يبدو قصيراً وطويلاً في آن واحد. وفي كلتا الحالتين، كان يزيد من توتري. كانت خطوات كبير الخدم الذي يتبعني منتظمة، بينما كانت خطوتي تتباعد وتتقارب مراراً وتكراراً.
“يا كبير الخدم، هل يوليان غاضب مني كثيراً؟”
“كيف لعاجزٍ مثلي أن يعرف ما في قلب سيده؟”
أجاب الخادم بوجه هادئ. كانت تلك كذبة. لا يوجد أحد في هذا القصر يعرف قلب يوليان جيداً مثله. زممتُ شفتيّ وتمتمتُ: “يا له من لُؤم.”
ظل كبير الخدم يبتسم. منذ فترة، أصبح يضحك “هه هه” كثيراً. ورغم أن تعابيره ما زالت غير قابلة للكشف كما في السابق، إلا أنه بدا أكثر ليناً.
وقفت أمام مكتب يوليان. لقد أتيت إلى هنا عدة مرات خلال الأيام القليلة الماضية، لكنني لم أتمكن من الطرق على الباب. بعد تردد، طرقت أخيراً.
طَـق.. طَـق.. طَـق..
“ادخل.”
كان صوتاً خالياً من أي شعور، ربما ظن أنه كبير الخدم. أمسكت بمقبض الباب ثم تركته مرة أخرى.
“يوليان.”
ناديته من خلف الباب، لكن لم يأتِ رد. تُرى، ماذا يفعل يوليان؟ هل تفاجأ؟ هل شعر بالحرج؟ أم أنه يتخذ تعبيراً عن الانزعاج؟ قررت أن أتوقف عن الأفكار السلبية. لذا، جمعت شجاعتي.
“لدي ما أقوله لك.”
“…ادخلي.”
“أشعر أنني لن أستطيع الكلام بشكل صحيح إذا رأيت وجهك.”
“ادخلي رغم ذلك.”
“لا، لَـنْ أفعل.”
قلتُ ذلك بصوتٍ فيه دلال من فتحة الباب. عندئذٍ فقط، توقف يوليان عن الإلحاح عليّ بالدخول. التصقت بالباب وقلت ما كنت أرغب في قوله.
“لقد كنتُ قاسية في العربة قبل أيام. أنا آسفة.”
لم يأتِ رد على اعتذاري، فظننت أنه غاضب حقاً. لكن يوليان أجاب بشيء مختلف تماماً.
“أنا أيضاً آسف.”
اتسعت عيناي لذلك القول، وفتحت الباب دون أن أدري. تمنيتُ أن أرى وجه يوليان وهو يعتذر.
كان يوليان مختلفاً عن جلسته المعتادة المستقيمة على المكتب. كان يتكئ بذراعيه على المكتب ويضع جبهته على يديه. عندما رفع رأسه، التقت أعيننا بلطف في الفضاء.
“ما الذي يجعلك أنتَ آسفاً؟”
هذا ما كنت أريد سماعه بالتحديد. أدار يوليان رأسه قليلاً إلى اليمين، ثم مسح وجهه بيديه ونظر نحوي. بدت عليه علامات الارتباك والحيرة. للحظة، شعرت بأنه مُحِبّبٌ إلى قلبي. سيطرت تلك الفكرة على كياني من أخمص قدمي حتى خصلات شعري.
استمر يوليان في الكلام دون أن يعلم بما يدور في ذهني.
“أظن أنني كنت دائماً أطلب من زوجتي أن تكون مستعدة نفسياً. الحقيقة هي أنني أنا من لم يكن مستعداً بعد.”
ربما سحرتني كلماته. كما أن نظراته الخفيضة التي بدت وكأنها تلوم نفسه، وقلقه الواضح حيث لم يستطع ترك القلم من يده، كل ذلك أسرني. لقد كان رجلاً نبيلاً.
خطوت خطوات سريعة ودخلت، واقتربت منه. كان يوليان مسترخياً للغاية، ربما لأنه ظن أنني سأتوقف عند مسافة معينة. وقفت أمامه ووضعت يدي على خده الأيسر. كان خده الناعم الخالي من أي لحية ملمساً ناعماً على راحة يدي.
قُـبْـلَة خفيفة.
طبعتُ قُبلة على قناعه. ضغط إحساس القناع البارد على شفتيّ.
كان هذا كل ما في الأمر. ومع ذلك، احمر وجهي بشدة. سحبت يدي منه على عجل وتراجعت للوراء.
“جئت لأخبرك أن استعدادي النّفسي اليوم… وصل إلى هذا الحد.”
تلمس يوليان قناعه بأطراف أصابعه. لم أستطع النظر إليه، فأخفضت رأسي.
“سأذهب إلى القصر الإمبراطوري. هل تعرف السبب؟”
“…حسناً.”
سحبت يدي من وجهه كأنني أهرب، وتراجعت بجسدي. ثم سارعت نحو الباب للمغادرة.
“لايلا.”
تفاجأت بصوت يوليان وهو ينادي باسمي، لكنني استدرت بسرعة دون أن أظهر ذلك قدر الإمكان. كنت أشعر بالحرج الشديد لدرجة أنني قررت التصرف بوقاحة. وقفتُ بظهر مستقيم ورفعت ذقني وقلت:
“ماذا هناك؟ لا داعي للقول إن قُبلتي كانت جَدّ رائعة.”
ابتسم يوليان لغروري المبالغ فيه. ثم هز رأسه.
“لا شيء. اذهبي وعودي بسلام.”
كنت فضولية لمعرفة ما أراد قوله، لكن لم يكن بوسعي البقاء هناك أكثر، فخرجت بسرعة من المكتبة. كنت ألهث من ضيق التنفس بعد تلك المسافة القصيرة، فقام كبير الخدم بمساعدتي، متفاجئاً.
“لـ، لا. أنا بخير.”
تركت كبير الخدم خلفي ونزلت السلالم مسرعة. كان عليّ التوجه إلى القصر الإمبراطوري بسرعة قبل أن يأتي الأمير الثاني حاملاً الأمر الإمبراطوري. عدت إلى غرفتي وبحثت عن آنَا. عندما رأتني آنا، تفاجأت وسألت:
“يا إلهي، سيدتي! هل تشاجرتِ مع الدّوق مرة أخرى؟”
“ماذا؟”
على إثر كلمتها، وقفت أمام المرآة خلف ظهر آنا. كان يقف فيها امرأة حمراء الوجه حتى أعلى جبينها.
***
كانت قاعة استقبال الإمبراطورية مليئة بالتحف المصنوعة من أندر المواد، وكأنها دليل على عظمة وجلال من هم في القاعة.
كانت هناك ثلاثة كراسي موضوعة في وسط القاعة، وأكثرها ارتفاعاً وفخامة هو كرسي الإمبراطور.
وُضِع على يساره كرسي الإمبراطورة، وعلى يمينه كرسي ولي العَهد. لكن كلاهما لم يكن موجوداً الآن. كان الإمبراطور وحده يجلس بوضعية متعجرفة.
أمام الإمبراطور، كان كين يقف بوجه يائس.
“يا أبَتِي! على الرغم من أنني شخص متواضع، إلا أنني أمير! أنا ابنك! من يتصرف بوقاحة تجاهي، فكأنه يهين العائلة الإمبراطورية. لذا، أرجوك عاقب الدوقة دوزخان!”
أخفى كين حقيقة أنه تعرض للضرب في منطقة حساسة من الدوقة، وظل يكرر فقط أنه تعرض للضرب.
شعر الإمبراطور بأن ابنه الذي يهرع إليه شاكياً تعرضه للضرب من امرأة هو أمر مخجل، لكن كلام كين لم يكن خاطئاً تماماً. بغض النظر عن كل شيء، فالأمير أمير.
“ماذا فعلت أنتَ؟”
“أنا لم أفعل شيئاً…”
قبل أن يتمكن كين من قول أي شيء، أشار الإمبراطور بيده. لو كان ينوي قول الحقيقة، لما كان سيتظاهر بالبؤس هكذا.
“حسبك.”
نظر كين إليه بحدة، ثم انحنى على عجل. لحسن الحظ، بدا أن الإمبراطور لم يره وهو يمسح جانبي رأسه.
“من الواضح أن تلك الفتاة كان لديها نية إهانة العائلة الإمبراطورية!”
“الدوقة دوزخان هي ابنة الماركيز وينسلي! هل تعتقد أن الماركيز وينسلي علّم ابنته بمثل هذه الطريقة المخجلة؟”
“لكن…”
كانت ثقة الإمبراطور بآل الماركيز وينسلي أكبر مما يتصور كين. كان هذا طبيعياً، فقد دعمت تلك العائلة السلطة الإمبراطورية عبر الأجيال.
والآن، أصبحت ابنتهم دوقة. لذا، حتى لو كان كلام كين صحيحاً، كان يجب تخفيف العقوبة.
نظر الإمبراطور إلى كين بملامح توحي بالصداع، ثم أطلق تنهيدة عميقة.
“سأقابل الدوقة دوزخان بنفسي. هل هذا يكفيك؟”
“حقاً؟ هل يمكنني أن أحضرها بنفسي؟”
“هل هذا سؤال يُسأل؟!”
شعر كين بالذهول. ما الذي يعنيه بالضبط؟ عندما ظل كين واقفاً لا يفهم، صرخ فيه الإمبراطور:
“ماذا تفعل واقفاً؟ اخرج! أيها الأَحمَق! إذا تجرأت على إخبار أي شخص آخر أنك تعرضت للضرب، فسأكسر ساقيك بنفسي!”
هرع كين بالفرار عند سماع ذلك. على أي حال، لقد طلب الإمبراطور مقابلة الدوقة دوزخان، أليس كذلك؟ بالتأكيد سيأخذ جانب الأمير!
بينما كان كين يغادر بتلك الأفكار السخيفة، هز الإمبراطور رأسه بعدم رضا.
“حتى مثل هذا الغَبِيّ يحاول أن يصبح إمبراطوراً…”
بعد خروج كين، فُتح باب قاعة الاستقبال بحذر، ودخل رئيس الخدم بحركة هادئة.
“صاحب الجلالة، الأميرة الأولى في انتظارك خارج القاعة.”
“أبيغيل؟ اطلب منها الدخول فوراً.”
قال الإمبراطور بوجه سعيد للغاية. على الرغم من أن كين و أبيغيل ولدا من نفس الأم، إلا أن أحدهما كان غبياً جداً بينما كانت الأخرى ذكية ومحبوبة. كان الإمبراطور يحب ابنته التي كانت لطيفة معه، حتى لو كان عنيداً مع الآخرين.
“يا صاحب الجلالة، هناك شيء يجب أن تراه قبل ذلك.”
أخرج رئيس الخدم رسالة من جيبه ووضعها أمام الإمبراطور بتبجيل. أمسك الإمبراطور الرسالة بتكاسل ورفع حاجبه.
“إنها من قصر الدوق دوزخان. أليست رسالة تحية اعتيادية؟ أنا سعيد بذلك، لكن لا داعي لجعل أبيغيل تنتظر.”
عند إصرار الإمبراطور، نصحه رئيس الخدم مرة أخرى.
“ليست من الدوق دوزخان. بل من الدوقة.”
عندئذٍ فقط، نظر الإمبراطور إلى الرسالة مرة أخرى. بالتأكيد، لم يكن خط الدوق دوزخان. فتح الإمبراطور الرسالة ونهض فجأة من مقعده ناسياً وقاره، ثم ضحك ضحكة عالية بدا عليها الفرح الشديد.
“أحضِروا الدوقة دوزخان إلى القصر الإمبراطوري فوراً! يجب أن ألتقي بها!”
في هذه الأثناء، كانت أبيغيل تقف في الخارج وتحدق في أخيها الذي خرج من قاعة الاستقبال.
“يا أخي، ماذا قلت لوالدنا؟ سمعت أصوات صراخ من الداخل.”
استدار كين وكأنه يريد الهرب. كان كين ضعيفاً أمام أخته الصغرى والأكثر ذكاءً منه. حاول الهرب خوفاً من أن تبدأ في توبيخه. لكن أبيغيل قبضت على ذراع كين خلسة.
“أخي!”
كان صوتاً منخفضاً وصغيراً، لكنه لم يختلف كثيراً عن شعور صراخ الإمبراطور. انكمش كين بكتفيه خوفاً.
“إذا لم تكن قد كُشفت، فاطرد تلك المرأة الآن. عشيقة واحدة تكفي.”
قال كين بوجه يائس حقاً:
“يا أبيغيل، أنتِ ما زلتِ صغيرة ولا تعرفين. يحتاج الرجل إلى الكثير من النساء لرعايته.”
“ماذا! يا أخي، فكر في المَهمَّة الكبرى! ماذا فعلت بـ الماركيز أَمبِر؟ لا تقل لي…”
كانت المهمة الكبرى التي تتحدث عنها أبيغيل تنظر إلى منصب ولي العهد، وفيما هو أبعد من ذلك، منصب الإمبراطور. كان كين يميل إلى الاستماع لتوبيخ أبيغيل، لكن هذه المرة لم يكن يريد التراجع حتى لو كلفه ذلك حياته. يطرد امرأة نادرة حصل عليها بصعوبة؟
“يا أبيغيل! إذا حققتُ أنا هذه المهمة الكبرى، فلن تكون هذه المشكلة مجرد عقبة على الإطلاق. هل تفهمين؟ عليكِ فقط أن تهدئي مزاج والدنا.”
وبعد أن قال ذلك، خرج كين من مدخل قاعة الاستقبال بكل فخر. حدقت أبيغيل في ظهره، ثم استدارت عندما سمعت صوت رئيس الخدم يناديها.
في تلك اللحظة القصيرة، اختفت ملامحها الشرسة وتحولت إلى مظهر الابنة المحبوبة.
التعليقات لهذا الفصل " 26"