الفصل 28
“هل يمكننا المغادرة إذا رسمتُ بابًا؟ كيف عرفتَ هذه المعلومة؟”
“سأشرح لكِ لاحقًا. لا وقت لدينا.”
“أفهم.”
أخرجت باندورا لوحة الألوان وعصرت عليها الطلاء بكثرة. لم يكن لديها وقت لخلط الزيت، فغمست الفرشاة مباشرة في الطلاء.
ثم رسمت بابًا على الأرض، بحجمٍ يكفي لدخول رجلٍ وامرأة بالغين.
وحين انتهت باندورا من رسم الباب ونظرت إلى إيرف، اقترب منها.
“ضعي يدك على الباب وفكّري في المتاهة. تخيّلي أنكِ تعودين إلى هناك.”
“هل سينجح ذلك حقًا؟”
“نحن داخل لوحتك، والمتاهة كذلك. في هاتين اللوحتين، أنتِ الحاكمة. والحاكمة ليست كاملة، لكنها قادرة على جعل المستحيل ممكنًا.”
نظرت باندورا إلى إيرف بعينين مرتجفتين.
‘أنا… حاكمة؟’
كان لقبًا يثقل كاهلها ويملؤها بالرهبة، لكنه بدا كأنه التعبير الصحيح.
كانت باندورا تؤمن وتصف الأشخاص الذين ابتكروا لعبة <طريق الشريرة إلى الحب> واستمتعوا بها بأنهم ‘حكام’.
كانت ترى نفسها تتلصص على عالم الحكام من خلال نافذة البحث التي تشبه الإناء.
فالعالم الذي تعيش فيه باندورا، في النهاية، كان فضاءً من صنعهم.
أما الآن، فقد كانت باندورا تحدّق في الفضاء الذي خلقته هي.
رأت كل شيء ينمو في لوحتها: العشب، والأشجار، والناس الذين يعيشون فيها.
ظنّت دائمًا أنه مجرد سطحٍ مسطّح، لكن داخله كان عالمًا يتنفّس بوضوحٍ مدهش ويتوهّج بالحياة.
“لكن…”
“بوسعكِ فعلها.”
ابتسم إيرف وأمسك يد باندورا بإحكام.
“تذكّري كل زاوية من المتاهة. استحضري كل الخيالات التي راودتكِ حين رسمتِها.”
أومأت باندورا وهمسُه في أذنها.
ثم وضعت يدها على الباب المطلي بالأزرق. كان ملمس الطلاء الرطب البارد ينزلق على كفّها.
“امتياز الحاكم هو أن يخلق المعجزات في لحظات اليأس.”
ليس هناك ما هو مستحيل بالنسبة لمن يصنع المعجزات.
أضاف إيرف بصوتٍ دافئ.
‘صنع المعجزات؟ أنا؟’
دبّت القوة في يد باندورا التي تشدّ على الباب. أغمضت عينيها وتخيّلت عملها <المتاهة>.
كانت تلك اللوحة قد وُلدت من فكرة أن وضعها — عالقة في حلقة زمنية — يشبه التيه في متاهة لا نهاية لها ولا مخرج.
تشبه غابةً جليدية مثالية للضياع والتوهان.
جدرانٌ مغطاة باللبلاب تمتد إلى السماء، مليئةٌ بالفخاخ التي تزرع بذور الإحباط في نفوس كل من يتجوّل فيها.
لكن المتاهة كانت مغمورةً بأشعة الشمس.
كانت الجدران شاهقة إلى حدٍّ بدا تسلقها مستحيلاً، ومع ذلك أضاءت الشمس المشرقة الطريق أمامها.
ولم يكن الليل يحلّ في تلك المتاهة.
في قلب اليأس، كان الضوء المنهمر يمنح بصيصًا من الأمل.
‘إن تمسّكتُ بأشعة الشمس، وأبقيتُ عينيّ مفتوحتين، وواصلتُ التركيز، فسأجد المخرج في النهاية.’
‘لابد أن هناك طريقًا ما.’
تلك الآمال الصغيرة ستتحوّل يومًا ما إلى أجنحة تعينها على الخروج من المتاهة.
تصلّب الطلاء تحت كفّها. فتحت باندورا عينيها ببطء ونظرت إلى الأرض.
لم يعد الباب رسمًا فحسب.
بل أصبح ‘بابًا’ حقيقيًا ينتظر منها أن تمسك مقبضه وتفتحه.
“افتحيه، باندورا.”
همس إيرف.
باندورا، وقلبها يخفق بعنف، أدارت المقبض بحذر.
طَق. فُتح الباب، وانكشفت من ورائه مناظر المتاهة. تسلّل عبير العشب المنعش ليغمر جسدها كله.
“هيا بنا. حان وقت العودة.”
حمل إيرف فريدريك ومدّ يده نحو باندورا.
لوّحت باندورا بيدها لتزيل بقع الطلاء الأزرق الجافّ، ثم مدت يدها نحوه.
بانغ!
“لا، باندورا!”
في تلك اللحظة، انفتح باب الورشة بعنف، وقفز إيرف آخر إلى الداخل.
***
التقى النسخه المتطابقة، لكن أحدهما لم يمت فورًا.
بل ظهرت مشكلة أعقد.
“باندورا، أنا إيرف دارلينغ من عالمك. انظري، أقول الحقيقة.”
“لا، باندورا! ذاك الشخص هو الشبيه في هذا العالم. أنا الحقيقي!”
ادّعى الاثنان أنهما إيرف الحقيقي المرافق لباندورا.
وباندورا، وهي تحمل فريدريك في ذراعها اليسرى، نظرت إلى إيرف الواقف أمامها، ثم إلى إيرف اللاهث عند الباب على يمينها.
تأرجح رأسها ذهابًا وإيابًا حتى شعرت بالدوار.
“إنه يكذب. صدّقيني. عليكِ أن تثقي بي.”
“باندورا، لا تقتربي منهِ. تعالي إلى هنا. لا نعلم ما قد يفعله. إنه خطر…”
“أحبكِ، باندورا.”
“!”
تجمّدت باندورا التي كانت تنظر بين الاثنين، وحدّقت بإيرف الواقف على اليسار بدهشة.
“اختاريني.”
همس إليها بعينين يملؤهما الرجاء واليأس.
عضّت باندورا شفتها وأغمضت عينيها للحظة، ثم قالت أخيرًا:
“هل يمكنك أن تتحوّل إلى قطة، صدفة؟”
وبمجرد أن نطقت، تحوّل الاثنان إلى قطتين بيضاوين تمامًا،
بعينين بنفسجيتين كالجواهر، وأقدام صغيرة لطيفة، وحتى شوارب متطابقة.
بل إن ذيولهم تحرّكت بالزاوية نفسها والمرونة ذاتها.
ومع ذلك، هرعت باندورا بلا تردد نحو القطة الواقفة على اليمين واحتضنتها ما إن لامستها يدها.
فما إن لمستها حتى عادت القطة إلى شكلها البشري، وأخفت باندورا خلفها ونظرت إلى القطة الأخرى بعينين غاضبتين.
تجمّدت القطة اليسرى للحظة، ثم استعادت شكلها البشري أيضًا.
“باندورا، لماذا…؟”
صوته، الذي كان يتمتم بيأس كشخص مصاب، جعل باندورا تميل رأسها بدهشة.
حينها حاول إيرف على اليمين أن يخفيها خلفه من جديد، كأنه يحميها.
باندورا، وقد حجب ظهره العريض رؤيتها، قالت بصوتٍ ثابت:
“دكتور، كنت أعلم حقيقتك منذ البداية.”
تشنّف كتفا إيرف الحقيقي في خجل.
“أحدهما تحوّل إلى قطة دون تردد، بينما الآخر أبدى دهشة وارتباكًا.”
وضعت باندورا يدها بلطف على ظهره، شاعرة برجفة جسده.
“والمُنتحل اختار الإغراء، بينما كان همّ إيرف الحقيقي أن يحميني.”
تذكّرت باندورا كيف بدا إيرف مرتاحًا لرؤيتها بخير، ومع ذلك كان وجهه يفيض قلقًا لا يُحتمل.
ذاك الذي اقتحم الباب بعنف وهو يراقب الشخص المقابل، يده ترتجف بلا انقطاع،
وكأنه على وشك أن يجذبها خلفه ويخفيها في أي لحظة.
كانت تلك أول مرة ترى فيها باندورا ملامح إيرف المشتعلة بتلك الحِدّة،
بعينين يملؤهما الخوف واليأس كأنهما ستنهاران في أي لحظة.
أما المُنتحل على اليسار، فبدا يائسًا بدوره، لكنه لم يُظهر أدنى قلق من أن يؤذيها إيرف على اليمين.
لقد اكتفى بالتوسل لثقتها.
تابعت باندورا الإصغاء لادعاءاتهما، تراقب كل ما يجري.
آه، ذلك الاعتراف بالحب كان خدعة صعبة حقًا.
مع أنها كانت قد عرفت مسبقًا من الحقيقي، إلا أنها استخدمت طلب التحوّل إلى قطة لتؤكّد حكمها.
وضعت باندورا جبهتها برفق على ظهر إيرف.
‘لكن… لو لم يأتِ إيرف في الوقت المناسب، لكدتُ أنخدع للحظة ضعف.’
حين استرجعت الموقف، أدركت أن شيئًا ما لم يكن طبيعيًا في وقت سابق.
عندما كانت عالقة في منزل فريدريك، وظهر إيرف وسط الخطر، شعرت بالراحة،
لكن تصرفاته لم تكن تمامًا كإيرف الحقيقي.
فلو كان هو، لكان أول ما فعله أن احتضنها فورًا.
وكان ليطمئن عليها ويهدّئ خوفها قبل أي شيء آخر.
“هاهاها!”
في تلك اللحظة، انفجر المُنتحل ضاحكًا بصوتٍ مرتفع.
وتسلّل القشعريرة إلى جسد باندورا وهي تراه يضحك بمرحٍ مجنون لا تدري ما سببه.
***
قبل بضع ساعات…
قبل بضع ساعات، خُدع فريدريك على يد شبيه إيرف، والتقى جون رايل داخل اللوحة.
كان المكان بلا شكل، تغمره الغيوم والضباب الكثيف.
حوّله جون رايل إلى فضاء مريح على نحوٍ مدهش.
جمع الغيوم الناعمة كغزل البنات، وشكّلها بيديه لتصبح أريكة.
ثم صنع أسِرّةً ووسائد وطاولات وكراسي، بل وحتى أكواب شاي وإبريقًا رغم عدم وجود شيءٍ للشرب.
وبينما استمرّ في صنعها، ازدادت مهارته حتى فكّر أنه ربما يستطيع حياكة ملابس دافئة من الغيوم قريبًا.
“إن خرجت من هنا يومًا، سأفكّر في مهنة أستطيع فيها أن أصنع الأشياء بدلًا من أن أكون طبيبًا.”
حدّق فريدريك في جون رايل بعدم تصديق، بينما كان الآخر يصنع رجلَ ثلجٍ بابتسامةٍ مسترخية.
كان الاثنان محتجزين في المكان نفسه، لكن أحدهما بدا في غاية الهدوء، فيما الآخر يعيش كابوسًا.
“من الجيد أنك وجدتَ شغفك الجديد، لكن ألا ترى أن صنع رجل ثلج أمر غير مناسب في مثل هذا الموقف؟”
“حسنًا، ما عساي أقول؟ في حياةٍ أمضيتها أعمل ليلًا ونهارًا في الروتين نفسه، فهذه فرصة نادرة للراحة، ويجب أن أستمتع بها قليلًا.”
“هاه؟”
“لديّ أكثر من عشرين مريضًا أعتني بهم وحدي.”
أجاب جون رايل متنهدًا، والهالات السوداء تزداد عمقًا تحت عينيه.
التعليقات لهذا الفصل " 28"