حسناً، لقد حاول أن يعتذر عندما رآها، لكنه انتهى به الأمر إلى فقدان أعصابه. لقد انغمس في انفعاله إلى درجةٍ لم يُدرك فيها ما يحدث إلا بعد أن تلقّى ضربةً على رأسه، فدمّر كل شيء.
والآن…
على قاربٍ ضيقٍ يحشر ثلاثة أشخاصٍ فيه، كان فريدريك يحدّق بحدةٍ في الرجل الغريب الذي يُفترض أنه العاشق الجديد لباندورا.
‘أوجدت عاشقاً بين ليلةٍ وضحاها؟’
‘يقول إنه طبيب، لكن أليس محتالاً؟’
بوجهه الوسيم هذا، لا بد أنه مشهورٌ إلى حدٍّ ما، ومع ذلك لم يره فريدريك من قبل قط.
كان من المطمئن أن يرى باندورا في مزاجٍ جيدٍ أخيراً، لكنه كان يغلي غيظاً لمجرد التفكير بأن السبب في ذلك هو ذلك الرجل المريب.
والأسوأ من ذلك، أن الطريقة التي ينظر بها إلى باندورا جعلته يدرك أنه بلا شكّ مجنون.
عندما كانت أصغر سناً، كانت باندورا مجرد فتاةٍ جميلةٍ من الريف، أما الآن فقد أصبحت نجمةً في أرجاء الإمبراطورية.
أول رسّامةٍ عصاميةٍ في سنٍّ صغيرة.
مُلهمةٌ فاتنة جعلت عالم الفنّ يتراخى بعد أن رفضت طلبات عددٍ لا يُحصى من الرسّامين الذين أرادوا أن تكون نموذجهم.
أجمل وأكثر ثراءً من أي أحد.
لكنها أيضاً طيبة ومحبّة.
وبقدر ما كانت طيبة، كانت باندورا تمتلك عادةً خطيرة؛ إذ كانت تظنّ أن كل من يبتسم لها لا بدّ أنه إنسانٌ صالح.
كم من الوغاد استغلّوا ضعفها أمام اللطف!
كان فريدريك يُعاني لإبعاد أولئك الغرباء عنها خفيةً.
وكان الآن يراقب إيرف بعين الريبة، يشكّ أنه أحدهم.
لكن هذا الأخير بثّ في نفسه شعوراً بالخطر يفوق ما شعر به تجاه أيٍّ من أولئك الحثالة.
شعرٌ أبيض، وعيونٌ بنفسجية. لم يكن مظهره النادر وحده مريباً، بل ذلك البريق المهووس في نظرته الثابتة نحو باندورا، وكأنها العالم بأسره بالنسبة إليه.
لقد مرّ أكثر من خمس عشرة دقيقةٍ وهم على هذا القارب الضيق، ولم يُحرّك إيرف ساكناً.
لم يتحرك له إصبع، ولا ارتجفت له قدم، ولا انثنت له رسغ.
كأنّها كانت عالمه الوحيد.
كانت باندورا ترى السماء والبحيرة والناس والأضواء الصاعدة، بينما كان إيرف يراها كلّها في عيني باندورا.
لقد غرقا معاً في عالمٍ خاصٍ بهما، حتى بدا لفريدريك أنه أصبح غير مرئي.
⋆。゚☁︎。⋆。 ゚☾ ゚。⋆
“ألم نكتفِ من هذا بعد؟ لماذا لا نتوقف عن اللهو ونبحث عن طريقٍ للخروج؟”
قال فريدريك ذلك بعدما نزلوا من القارب وملأوا بطونهم في حانةٍ وجدوها أثناء تجوالهم.
أومأت باندورا برأسها وهي تلتفت إليه بطرف عينها.
‘كنتُ أظنّ أننا سنعود إلى طريقنا ما إن تتحقق أمنياتي داخل اللوحة وتتحرر عقدتي العاطفية.’
يبدو أن الحياة ليست بهذه السهولة بعد كل شيء.
انتقلوا إلى مكانٍ هادئٍ على ضفة النهر، وجلسوا متقابلين عند طاولةٍ في الهواء الطلق. وكانت باندورا هي من بدأت الحديث.
“لنجرّب جلسة عصفٍ ذهني.”
“عصف ماذا؟”
“نتبادل الآراء بحرية.”
في عالم ‘طريق الشريرة إلى الحب’، كان الحكام بمن فيهم المطوّرون، يعقدون ما يُسمّى بـ”الاجتماعات”، وكانت تلك طريقتهم المفضّلة.
شعرت باندورا ببعض الحماس، إذ لطالما رغبت في عقد اجتماعٍ كهذا؛ أن تتحدث بحماسٍ مع الآخرين وتتبادل الأفكار معهم كان أمراً خاصاً جداً بالنسبة إليها.
فهي كانت وحيدة، ولم يكن لديها سوى إيرف وآنا الباردة لتتحدث إليهما.
كانت ترغب خصوصاً في عقد “اجتماع عائلي”.
فكرة أن يجتمع الأطفال والوالدان حول الطاولة لمناقشة شؤون الأسرة بدت مثالية.
تخيّلت باندورا إيرف بدور “الأب” للحظة، ثم هزّت رأسها محاولةً طرد الفكرة بسخريةٍ من نفسها.
فمزيج رجلٍ وسيمٍ وطفلٍ صغيرٍ كان كفيلاً بإذابة القلب.
هزّت باندورا رأسها لتتخلص من أوهامها، وركّزت على الرجلين الجالسين أمامها.
“لكن لا تنتقدوا آراء بعضكم إذا بدت فارغة. سنتحدث بما يخطر لنا، وسنحاول إيجاد طريقةٍ لإنجاحها.”
“ولماذا لا ننتقدها إن كانت فارغة؟”
رفع فريدريك حاجبيه بضيقٍ وكأنه لا يفهم كيف يمكن لأي أحد أن يفعل شيئاً غير مثمر كهذا.
“لأنك إن انتُقدتَ، ستفقد القدرة على الكلام، ولن تُعبّر عن رأيك كما يجب.”
“إذا لم يكن لديك ما يفيد، فالأفضل أن تُبقي فمك مغلقاً.”
“…….”
عبست باندورا وقد عجزت عن الرد. تساءلت كيف تحوّل “ديدي” اللطيف الظريف إلى بالغٍ متكبّرٍ بهذا الشكل.
لابد أن شيئاً فظيعاً قد حدث في نشأته.
تساءلت في ألم إن كانت حتى الأرواح اللطيفة تصبح حادّةَ الزوايا بفعل القتال في ساحات الحرب.
وإن كان الأمر كذلك، فكم هو محزنٌ ذلك.
“ربما يوجد الجواب في الكلمات التي لم تُقال.”
“أليس امتناعهم عن الكلام دليلاً على أنهم غير واثقين؟ كيف يكون ذلك جواباً؟”
“ربما.”
أغلقت باندورا فمها وهي تشعر بالغثيان من التوتر.
لقد بالكاد أفلتت من حلقة الزمن المفرغة، وها هي الآن تُلامُ وكأنها المذنبة، وفريدريك لا يُبدي أي تعاون.
لكنها لا تستطيع أن تهاجم شخصاً لا يدرك أصلاً خطأه وتقول له: “ما بالك؟”
انتفخت شفتاها بغيظ، وبدت على وجهها علامات الضيق.
وفجأة أحاط دفءٌ كتفيها.
“الجوّ يبرد، لذا… خذي هذا.”
خلع إيرف رداءه ووضعه على كتفيها. شعرت باندورا بنسمةٍ قويةٍ من الريح أصبحت أكثر برودةً فجأة.
ضمّت الرداء إلى جسدها وفتحت مقدمته قليلاً، فشعرت بالراحة إذ التفّ حولها ذلك الثوب الكبير، ولا يزال دفء جسد إيرف عالقاً فيه.
“ربما يمكننا إيجاد حلٍ جيد. لنبدأ فحسب.”
كان صوته المطمئن أشبه بنهرٍ ساكنٍ تحت ضوء منتصف الليل.
صوتٌ يُغريك أن تلمسه، أن تغمر يديك فيه وتستمتع بسكينته.
قال إيرف بهدوءٍ وهو يشارك أفكاره:
“يبدو لي أن الخروج من اللوحة يحتاج إلى شعورٍ بالاستعجال، إلى دافعٍ يائس، إلى سببٍ ملحٍّ يجعلك ترغب بشدّةٍ في الخروج منها.”
“سببٌ يائس؟”
“نعم.”
أجاب إيرف وهو ينظر في عيني باندورا.
فكّرت باندورا مليّاً وتذكّرت المهمة التي عرضتها عليها الجرّة:
التعليقات لهذا الفصل " 24"