الفصل 21
بعد أن امتلأت بطونهم بالطعام اللذيذ، توجّه الثلاثة إلى متجر الملابس.
أرادوا أن يحصل إيرف على ملابس لائقة تناسبه جيداً، كما أن باندورا وفريدريك كانا في حالٍ مزرٍ بعد تدحرجهما في عشب المتاهة.
كان موظفو المتجر لطفاء للغاية، يعرضون على فريدريك وإيرف أزياءً مختلفة.
صفّقت باندورا للرجلين الوسيمين وكأنهما عملان فنيان، ثم اختارت بدلة رجالية على مقاسها وجرّبتها بنفسها.
قدّم لها البائعون خياراتٍ كثيرة لتجربها، لكنها رفضت بعد أن اختارت بعينٍ متحمسة أجمل ما في المتجر.
بملابسها الأنيقة، من الحذاء إلى القبعة والقفازات، وهي تمسك بعصا صغيرة، بدت أجمل رجلٍ في العالم.
وقفت أمام المرآة تضحك وهي تغيّر وضعياتها بانشراح.
لم تعد مضطرة لارتداء الزيّ نفسه كل يوم.
مع الحرية الجديدة لاختيار ما تشاء من الملابس، كانت متحمسة كسمكةٍ خرجت للتو من الماء.
تطايرت خصلاتها المربوطة في كعكةٍ مشدودة وهي تهزّ رأسها بمرح.
راقبها إيرف بعينين مفعمتين بالعطف.
أما فريدريك، الذي كان يبتسم هو الآخر، تمتم قائلاً: “إنها مجنونة”، بينما مسح إيرف دمعة خفية.
مع غروب الشمس، خرجوا إلى النهر وركبوا قارباً.
كان الناس مصطفّين على ضفّتي النهر، وكلٌّ منهم يحمل فانوساً.
أضاءت الأنوار البرتقالية العالم بأسره.
كانت الفوانيس تخالف قوانين الطبيعة وهي ترتفع إلى السماء في أسرابٍ مضيئة.
كلّ ضوءٍ منها يحمل أمنيةً، صغيرة كانت أو كبيرة، تصعد بشوقٍ إلى السماء.
ضحكات الناس، وصيحاتهم، وصوت جريان الماء امتزجت جميعها في لحنٍ جميلٍ عابر.
شعرت باندورا بدوارٍ لذيذ وهي تشهد هذا المشهد الساحر للمرة الأولى.
تحرّكت يداها بندمٍ لأنها لم تستطع رسم هذا المنظر فوراً على لوحتها.
قال فريدريك وهو يقدّم عود ثقابٍ مشتعل: “باندورا، عليك أن تشعلي عود الثقاب.”
توهّج فانوس باندورا بلونٍ أصفر حين أمسكته، فحدّقت في نوره المتراقص وتمنّت في قلبها أمنية.
أن يمضوا معاً نحو الغد.
‘ليستمرّ الغد في المجيء، ألا يتوقف، وألا يزول أبداً.’
حياة تحلم بالمستقبل على نحوٍ طبيعي.
حياة تستثمر اليوم الذي لا يتكرّر، وتعيش بجدٍّ وسعادة، وتشيخ كغيرها من البشر.
الزمن يمضي قدماً دون أن يلتفت إلى الوراء.
تلك كانت أمنية باندورا الوحيدة. شيءٌ يبدو طبيعياً للآخرين، لكنه لم يكن كذلك لها.
رفعت الفانوس بحذرٍ إلى الأعلى، واتّسع صدرها وهي تراه يحلّق بعيداً.
‘أتمنّى أن تندفع بكلّ قوتك حتى تبلغ نهاية السماء خلف الغيوم، وأن تصل هذه الأمنية إلى الحاكم الذي صانعني.’
ابتسمت باندورا ببهجة، داعيةً أن تتحقق أماني جميع الفوانيس الأخرى أيضاً.
شعرت بأن الفراغ في قلبها امتلأ. عندها فقط أدركت أنها كسرت لعنة التاسع من يونيو.
للمرة الأولى شعرت بأنها حيّة حقاً.
الإحساس النابض بالحياة سرى في جسدها كله نشوةً ودفئاً.
انطلق فانوس إيرف في الوقت ذاته، وكان هو الآخر مأخوذاً بهذا المشهد الغريب الجميل.
وفي وسط منظره، كانت باندورا تحدّق في السماء.
في تلك اللحظة، بدت أكثر حياةً من أيّ وقتٍ مضى.
عيناها الرماديتان تلألأتا بالحماس، ووجنتاها البيضاوان احمرّتا بلونٍ زاهٍ.
انحنت عيناها على شكل هلالين، وشفاهها مفتوحة، وصدرها يعلو ويهبط بأنفاسٍ متلاحقة، ورموشها الطويلة ترتجف.
لم يستطع إيرف أن يزيح بصره عنها طويلاً.
لم يذق رشفةً واحدة من شرابه، لكنه شعر بدوارٍ وسُكرٍ غريب، كما لو أنه ثمِل.
كانت حركات باندورا المتكاسلة تميل مع تمايل القارب فوق النهر.
تضحك حين يهتزّ القارب كأن الأمر يثير إعجابها، ثم تتنهّد بارتياح وهي تتأمل السماء وضفّة النهر مجدداً.
وقلب إيرف كان يرقص كزهرةٍ طافية فوق الماء.
تمنّى لو يستطيع طيَّ هذا المشهد المذهل ودفنه في عينيه.
أراد أن يحتفظ بكلّ شيء: كلّ ابتسامةٍ تعبر وجنتيها، وكلّ تنهيدةٍ شاردةٍ تفلت من شفتيها.
⋆。゚☁︎。⋆。 ゚☾ ゚。⋆
قماشٌ أبيض ناصع.
لوحة لقطٍّ ملتفٍّ على نفسه، وحين فتح عينيه أول مرة، واجه وجه امرأةٍ رقيق الملامح.
رمش للحظةٍ كأن الضوء أزعجه، ثم وجد نفسه يحدّق فيها وهي تبتسم برضا.
كما يتعرّف فرخ البط على أول من يراه كأمّه، كذلك يقع الإنسان في الحبّ من النظرة الأولى، فيشعر أن أول من يلتقيه هو قدره.
في لحظة نفسٍ واحدة، انطبعت صورتها في عيني القط البنفسجيتين.
وجهها الملطّخ بالألوان، ومئزرها الملوث بالأصباغ، وعيناها الرماديتان المبتسمتان، كانت جميلة.
النمش على جسر أنفها كان فاتناً، وشفاهها الندية تمتمت قائلة: “أنت تحفتي الفنية.”
باندورا.
سيدته ذات الاسم الجميل. إلهته.
لم يستطع القطّ المرسوم أن يزيح عينيه عن فنانته.
كانت تلوّن خلفية لوحتها التالية.
ومع كلّ ضربة فرشاة تشقّ القماش باللون الأزرق العميق اللاصق، كان عقل القطّ يغرق في الزرقة معها.
وحين كانت تغادر المرسم وتعود بعد زمنٍ باكية، كان يشعر بأن قلبه يهبط إلى أعماق معدته.
دموعها كانت تبلّل أطراف القماش وتتسرّب إلى قلب القطّ.
وبعد مراقبته لها لوقتٍ طويل، أدرك القطّ ما تمرّ به باندورا.
اليوم ذاته يتكرّر إلى ما لا نهاية. أناس لا يعلمون شيئاً.
وباندورا، وحيدة خلف الجميع.
‘لستِ وحدك.’
على القماش، كان القطّ يراقبها ويكون معها طوال التاسع من يونيو.
وكان يحبّها لأنها رسمته.
أحبّها وهي تدندن بلحنٍ خفيفٍ وهي تعصر أنبوب الألوان.
وأحبّ عبوس حاجبيها حين تركّز في الرسم.
أحبّ عاداتها الصغيرة، كأن تدقّ بقدمها وتقبض شفتيها حين لا يعجبها الرسم الجديد.
أحبّ براءتها حين تمسح العرق عن أنفها فتلطّخ وجهها بالأصباغ وتضحك على نفسها.
أحبّ لطفها حين تشاركه أحياناً وجبةً خفيفة، رغم أنه يكره الخادمة التي كانت ترسلها إلى المعرض في تمام الواحدة ظهراً.
وأحبّ سخافتها المحبّبة حين تداعبه وتنفض الغبار عن لوحاته وتقول “مياو” رغم أنه مجرد لوحة.
ثم حدث ذلك.
بينما كان القطّ المرسوم يراقب باندورا كعادته، لاحظ شيئاً غريباً.
كان وجهها أكثر كآبةً وألماً وهي تدخل المرسم حاملةً زجاجة خضراء من الخمر.
ابتسمت بمرارة، ثم رفعت الزجاجة إلى شفتيها وأمالتها ببطء.
غرغرة… غرغرة… غرغرة…
لم يتوقف حلقها عن الحركة.
لم تكن يوماً لتتجاوز رشفتين من أي شراب، لكنها الآن تجرّعت سيلًا لا ينتهي من السمّ.
لمح القطّ في ذهنه مشهداً مروّعاً.
‘لا.’
تجمّد نفسه في حلقه كمن يغرق.
‘باندورا.’
تلوّى القطّ داخل اللوحة محاولاً مدّ يدٍ لا يمكن أن تصل.
‘أتذكّر كلّ شيء.’
‘أعرف وحدتك، حزنك، خواءك.’
كان القطّ المرسوم يائساً.
يتمنّى لو يستطيع الخروج من اللوحة ليضمّها إليه.
ليمتلك كتفين واسعين وذراعين يحتضنانها وهي تزداد هشاشة يوماً بعد يوم.
‘لا تستسلمي.’
‘لا تموتي.’
‘لا تختفي.’
‘لا ترحلي.’
نظر القطّ إلى باندورا بعينين دامعتين، وبدأت اللوحة المشبعة بالألوان تبتلّ بالرطوبة.
قاوم القطّ بجنون، فاهتزّ القماش بشدة حتى صدر عنه صوتٌ مرتفع، لكن باندورا فرغت القارورة كما لو أنها لم تسمع شيئاً.
ارتطم الزجاج بالأرض وتحطّم بصوتٍ رنّ.
وفي اللحظة نفسها، انهار جسد باندورا المتمايل وسقط أرضاً.
‘لا!’
في تلك اللحظة، سقطت اللوحة عن الجدار.
قفز القطّ المرسوم من القماش وضمّ باندورا إلى صدره.
“باندورا، باندورا، لا، باندورا!”
“…….”
“لا تذهبي، أرجوك لا تذهبي.”
كان يعلم أن الموت اختيارها، وأن الحرية التي تاقَت إليها على مقربةٍ منها.
لكن القطّ المرسوم لم يستطع تركها تمضي. كان عليه أن يتمسّك بروحها الراحلة بأيّ ثمن.
قبّل شفتي باندورا الباردتين، ونفخ فيهما دفئاً.
⋆。゚☁︎。⋆。 ゚☾ ゚。⋆
انعكس الزمن إلى الوراء. كان القطّ المرسوم واقفاً أمام باب غرفة باندورا.
أراد أن يراها.
ليتأكد أنها استيقظت بسلام، وأنها بخير، وأنها لم تشرب السمّ مجدداً.
كان قلبه يخفق قلقاً وخوفاً.
فرأى الطبيب يسير في الممرّ متوجهاً إلى غرفة باندورا.
هذه فرصته.
دون تردّد، أمسك بالطبيب وألقاه في إحدى اللوحات عشوائياً.
ثم خطف ثيابه وحقيبته وارتداها.
كانت الثياب ضيقة على كتفيه وقصيرة عند كاحليه، لكنه لم يكن يملك وقتاً للقلق بشأن ذلك، وهو في الأصل لوحة لقطّ.
كان عليه أن يرى وجه باندورا الآن.
حاول أن يقلّد الطبيب بأفضل ما يستطيع. كان يعرف كلماته جيداً، فقد كانت باندورا تشتكي دوماً من أن الطبيب يكرّر العبارات نفسها كل مرة.
“الآنسة باندورا، سأترك الدواء هنا.”
“لست بحاجة إليه.”
ضاقت عينا القطّ المرسوم من برودة صوتها.
شعر أنه سينفجر بالبكاء إن بقي على هذا الحال.
وأنه سينهار إن لم يعانقها الآن.
وأنه سيقبّلها إن لم يتمالك نفسه.
لكنها تراه طبيباً. ستظنّ الأمر غريباً.
أراد أن يكون حبّها، لا عبئها.
حاول القطّ المرسوم أن يفرّ من الغرفة مذعوراً، لكن عندها…
التعليقات لهذا الفصل " 21"