الفصل 19
كان شعرها الطويل المنسدل وكتفاها المستديران يشتتان انتباهه مع كل حركة خفيفة من رأسها.
شعر بالعطش رغم أنه لم يكن بحاجة إلى الماء.
تصلبت أطراف أصابعه وهو يمسك بثيابه بعناية.
فكّ إيرف عباءته بإحكام وسحبها ببطء.
“لكن يا دكتور، ألا تشعر أن هناك شيئاً غير طبيعي؟”
في تلك اللحظة، صفّقت باندورا بيديها واستدارت.
ارتجف إيرف وسحب الثوب الذي أسقطه ليغطي نفسه.
اتسعت عيناها بدهشة عندما رأته يستدير.
وحين التقت نظراته بعينيها الرماديتين المذعورتين، خفق قلبه بشدّة حتى كاد يسقط أرضاً.
“آه، انظر إليّ، آسفة، لن أنظر إليك مجدداً، أُقسم!”
تراجعت باندورا حتى التصقت بالجدار، ثم ربّتت على وجنتيها وضحكت بخجل وهي تُعيد خصلة من شعرها خلف أذنها.
ومن زاوية عينه، لمح إيرف طرف أذنها وقد احمرّ.
كانت تحكّ وجنتيها خجلاً، تعبث بطرف تنورتها، تُمسكها وتتركها مراراً، ثم أخفت وجهها بين كفيها وجلست على الأرض متكئة على الجدار.
عضّ إيرف طرف شفته من الداخل، وقد راوده إحساس بالرغبة في عضّها رداً على مظهرها الجميل.
كانت الرغبة في احتضان تلك المخلوقة المرتجفة والجري بها مباشرة إلى غرفة نومها طاغية عليه.
خفض رأسه وضغط بيده على صدره في محاولة لكبح خفقان قلبه الجامح.
ضاعف سرعته وهو يرتدي ملابسه.
وبينما كان يلعن فريدريك الذي هاجمها كالحيوان بلا تفكير، أدرك إيرف أنه ربما كان أكثر الناس دناءة.
“باندورا. لقد ارتديت ملابسي بالكامل…….”
عند سماعها كلامه، استدارت باندورا بارتياح.
لكن منظر إيرف بملابسه الجديدة كان يبعث شيئاً من الارتباك.
“ملابسك تبدو… صغيرة بعض الشيء.”
“…….”
“هاها، لا حيلة لي.”
أخفض إيرف رأسه من جديد.
‘هل سأتحول إلى نبتة أرز ناضجة لأنني لا أستطيع رفع رأسي؟’
كانت ملابس كبير الخدم النحيل ضيقة جداً على جسد إيرف القوي.
أزرار القميص المشدودة بدت وكأنها تستغيث، وكتفاه العريضان وفخذاه يكادان يمزقان النسيج.
فجأة أدركت باندورا ضخامة قامته وصلابته.
ملابس الطبيب كانت صغيرة عليه، لكن هذا جعله يبدو أكثر جاذبية. أما ملابس الخادم فكانت مشهداً مذهلاً بحق.
“كيف تمكنت من ارتداء هذه الملابس؟ تبدو وكأنها لا تناسبك أبداً.”
“قمت بإجبارها قليلاً…….”
عبث إيرف بطوق قميصه بضيق.
‘مع أنه طويل، كنت أظن أن إيرف نحيل بما أن خصره ضيق ووركيه صغيران…’
تذكرت باندورا جسده العاري من قبل، فاحمرّ وجهها وغطّت وجنتيها بكفيها.
كانت تعلم أنه قويّ لأنها اعتادت احتضانه، لكنها لم تدرك كمّ العضلات التي يمتلكها.
كان الفرق شاسعاً بين ما كانت تتخيله وبين ما رأته بعينيها.
‘ليس هذا وقت التفكير في ذلك.’
طردت باندورا الصور المزعجة التي بدأت تتكوّن في ذهنها.
‘لكن… عندما ينتهي كل هذا، سأطلب من إيرف أن يكون نموذجاً لي في لوحة فنية. لوحة عارية…….’
في تلك اللحظة، انطلق زر من قميصه المشدود وارتطم بجبهة باندورا.
“آه!”
بدا أن الهجوم المفاجئ لذلك الزر مصحوب بصوت يقول: “هذا المحتوى مناسب لجميع الأعمار، استيقظي!”
“باندورا!”
أمسك إيرف وجهها بكلتا يديه ورفعها ليتفقد موضع الإصابة.
كان هناك احمرار خفيف في منتصف جبينها حيث أصابها الزر مباشرة.
تجمّعت دمعة صغيرة في زاوية عينها من الألم، وانحنت حاجباها بحزن.
نظرت إليه بعينين دامعتين كجرو صغير، وللحظة شعر إيرف بأن خيوط عقله تتقطع.
كبح نفسه وقبّل جبينها المحمرّ برفق.
تشوك.
تباعدت شفتاها بخفة، ثم ببطء، ورفعت باندورا رأسها نحو إيرف بدهشة.
“آه…….”
ارتجف قلب إيرف بِلَذّة لا تُحتمل أمام ذلك الوجه البريء.
عضّ شفتيه المحمرّتين ثم جذبها بقوة إلى حضنه وأطلق تنهيدة مكتومة.
“إيرف……؟”
نادته باندورا بصوتٍ متردد.
“دكتور؟”
“ناديني إيرف فقط، هكذا أفضل…….”
قال بصوت أجش وهو يشدّها نحوه أكثر، فاختلّ توازنها واستندت إلى صدره كأنها ستنهار بين ذراعيه.
أحاط خصرها بذراعيه القويتين حتى التصق جسدها به.
تمنى لو أن خفقان قلبه القوي لا يصل إلى أذنيها.
لكن ذلك جعله أكثر تمسكاً بها.
وبعد لحظة صمت، رفعت باندورا يدها برفق ووضعتها على ظهره.
“إيرف.”
انطلق صوتها كرنّة جرسٍ صافٍ، يحلّق كرفرفة فراشة ويستقر في أذنه.
كان طعمه حلواً في فمه، يتسلل إلى حلقه ويغمر جسده كله بقشعريرة لطيفة.
ابتلع إيرف ريقه ورفع باندورا فجأة.
“آه!”
صرخت باندورا وهي تتشبث به بعدما رفَعها عن الأرض.
أحاط وركيها بذراعيه ليثبّتها، ثم سار بها حتى وضعها على المكتب.
انحنى، ووضع يديه على سطح المكتب من جانبيها، ثم قبّل خدها الأيسر.
تشوك.
ثم خدها الأيمن.
تشوك.
ثم شفتَيها.
انفتح أحد أزرار قميصه مجدداً، تاركاً الجزء العلوي مكشوفاً، ولم يُبدِ أي اهتمام بمظهره الفوضوي.
احمرّ وجه باندورا وهي تراقبه يقترب منها بعينين ضيّقتين مركزتين عليها.
راحت تخطر في رأسها خيالات مثيرة.
“آه! لا، لا، انتظر! إيرف!”
صرخت باندورا وأغمضت عينيها وهي تضرب وجهه براحتها.
“ليس الآن وقت هذا!”
“لماذا؟”
“علينا إحضار ولي العهد والكاهن، وفريدريك ينتظرنا في الورشة، يجب أن نذهب ونُنهي العمل!”
“لا أريد الذهاب.”
“……!”
“لا أريد.”
“لِمَ؟”
“لأنك تعرفين ذلك الوقح، وتبدين قريبة منه، وتنادين بعضكما بالأسماء.”
“…….”
“ولأن عينيه لا تفارقانك أبداً.”
اشتعلت في عيني إيرف البنفسجيتين شرارات باردة وهو يحدّق في الباب بنظرة حانقة.
“أكره هذا كله.”
نظرت إليه باندورا بدهشة.
‘أهذا غيرة؟ مستحيل.’
لم تستطع فهم غيرة إيرف.
كانت هي الأحقّ بالغيرة حين يكون مع غيرها.
ففي عدد لا يُحصى من التاسع من يونيو، كانت باندورا قد قبّلته، ونظرت في عينيه، وقضت الوقت معه.
ليس غريباً أن يغلي قلبها نحوه.
لكن إيرف لا يعلم ذلك.
فهو لا يتذكّر شيئاً من كل تلك الأوقات.
من وجهة نظره، لم يكن بقربها سوى يومين فقط، الأمس واليوم.
لذلك، كان قبله مدفوعاً بالعاطفة أكثر من الحب.
مجرد استجابة غريزية لانجذابه إلى باندورا.
وإن كان إيرف لطيفاً معها، فذلك ببساطة لأنه كذلك دائماً.
فهو لا يستطيع مقاومة باندورا الماهرة في الخداع والمراوغة والتسلّط.
إنه رجل طيّب ورقيق يفعل ما يُطلب منه، ولا يواجه إلا عند الضرورة.
‘أنا متأكدة أن إيرف لا يمانع تقبيلي، لذلك يفعل ذلك.’
كانت علاقته بها قصيرة جداً لتُولد منها غيرة.
نظرت باندورا إليه بعينين واسعتين.
“لماذا تتذمر؟”
“…….”
أغلق فمه، تنهد، ثم أسند ذقنه على قمة رأسها.
أضاف مزيداً من الثقل كي لا يؤذيها طرف ذقنه الحاد.
اضطرت باندورا إلى تحويل نظرها بعيداً عن عنقه الطويل وصدره الذي يملأ مجال رؤيتها.
ثم أمسكت برفق بمعصمه المكشوف تحت كمّه القصير وقالت:
“أظن أنك بحاجة لملابس أخرى.”
“نعم.”
“وهل يمكنني إكمال ما كنت أودّ قوله قبل قليل؟”
“؟”
“قلت إن هناك شيئاً غير طبيعي، وذلك لأنني، إن لم تخنّي الذاكرة، فإن ورشتي يجب أن تكون مغلقة.”
رفع إيرف ذقنه عن رأسها واستقام منتبهاً إلى حديثها.
“لكن الأبواب لم تكن مقفلة، ولم أرَ أي جنود، ولا خادماً واحداً في الممرّات، ولا حتى شخصاً واحداً خارج النافذة طوال الطريق إلى هنا.”
كانت باندورا محقة.
الخدم، والجنود الذين حاصروا البوابات، والمراسلون الصاخبون جميعهم اختفوا وكأنهم تبخروا.
“وأهمّ ما في الأمر…… أنني أرى بوضوح شديد الآن.”
لو كان تحسّن بصرها سببه دخولها إلى اللوحة، لكان يفترض أن يسوء عند خروجها منها.
لكن رؤيتها ما زالت واضحة تماماً.
“انظر، بصري حاد جداً.”
“أرى ذلك.”
قال إيرف وهو يحدّق في عينيها.
“إنهما جميلتان.”
“!”
احمرّت وجنتا باندورا على الفور.
“إيرف، أنت لا تُصغي!”
“أنا أُصغي أكثر من أي وقت مضى.”
تنهّد إيرف إعجاباً بخجلها المتحوّل إلى توبيخ، وأنزلها من فوق المكتب.
“إذن، باندورا، تقصدين أننا لم نغادر اللوحة بعد؟”
“أجل، هذا صحيح، أو بالأدق…….”
أمسكت بيده وبسطتها حتى ظهرت راحته، ثم رسمت عليها مربعاً بإصبعها، وبعده مربعاً أصغر بداخله، وقالت:
“أظن أننا دخلنا إلى لوحة داخل لوحة.”
“لوحة داخل لوحة…….”
“تماماً مثل حلمٍ واعٍ.”
ومع إمساكها بيده، تسارع خُطاهما قليلاً.
التعليقات لهذا الفصل " 19"