استمتعوا
في المساء، كان آيدن أول من أخبر رايلين بمحتوى المرسوم الإمبراطوري، مُعبّرًا عن عزمه على المشاركة في الحرب.
كانت رايلين قد أعدّت نفسها لهذه اللحظة، لذا استطاعت أن تبتسم له برقة، وهو يحدّثها بقلق عن قراره.
“ نعم، هذا صحيح. فأنت أقوى رجل في الإمبراطورية، آيدن.”
رمش آيدن ببطء، وكأن المفاجأة قد باغتته، لكنها كانت تعرف سبب ردة فعله تلك، لذا بادرت بالكلام لتعبّر عما في قلبها.
“ آيدن، أنت أكثر من يعرف فظاعة الحرب وضرورتها. وإن كنت قد قررت أن تخوض حربًا أخرى، فلا شك أن لديك سببًا وجيهًا.”
“…”
“ أريد أن أحترم قرارك، آيدن. ولكن…”
خفت بسمتها، وغلب عليها طيف مرارة.
“ أنا قلقة.”
مدّ آيدن يده وأخذ أصابع رايلين المتوترة بين كفيه.
“ لماذا تظنين أنني أريد الذهاب إلى هذه الحرب، رايلين؟“
“ ربما… لحماية سكان إقليمنا، ومن ثم شعب الإمبراطورية…”
ضمّها آيدن إلى صدره. وكان احتضانه يحمل حزنًا خفيًّا.
“ السبب الذي دفعني لاتخاذ هذا القرار هذه المرة… هو أنتِ، رايلين.”
رفعت رايلين نظرها إليه، مبهوتة.
“ بسببي أنا؟“
“ لدي واجب بأن أجعل هذه الإمبراطورية، التي تعيشين فيها، آمنة ومسالمة.”
رمشت بعينيها، وقد تلاشى صوت العالم حولها.
“ إذًا… تقول إنك قررت الذهاب إلى الحرب من أجلي؟“
“ بالطبع، أهل إقليمنا وشعب الإمبراطورية مهمون، لكن في النهاية… أنتِ مَن يحرك خطواتي.”
غصّ حلق رايلين، وكأن كتلة من الدفء والحزن تجمعت فيه.
لم تكن تتخيل أن قرار آيدن بخوض حرب جديدة، يعود في جوهره إليها هي.
“ رايلين.”
عندما ناداها بلطف، رفعت إليه عينيها المحمرتين.
“ دعيني أعدك… سأعود إليك سالمًا، قبل أن يحل الصيف القادم.”
كان الصيف المقبل على بُعد عامٍ فحسب.
هل يمكن لهذا الوعد أن يتحقق فعلًا؟ كانت رايلين تعلم أن هناك الكثير من المقاتلين البارعين في إمبراطورية هامنيبو، كفرسان كافيريون وبدوسيان.
لقد امتلكت الإمبراطورية نخبة من المُستيقظين الأقوياء، وكانت الحكومة الإمبراطورية تُغدق الدعم على الجيش بسخاء، مما زادهم تفوقًا في التقنية والإمدادات.
لكنهم كانوا يواجهون إمبراطورية كانبوس، التي لا يقل تعدادها ولا اقتصادها عن هامنيبو، ما يجعل الحرب معها طويلة وشاقة.
ولعل آيدن، وقد شعر بصمت رايلين القلق، أضاف.
“ هل سبق لي أن أخلفت وعدًا؟“
ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهه، كانت نادرة لكنها تحمل ثقة لا تتزعزع.
“لا، لكن …”
“ إذًا ثقي بي، وانتظريني. سأعود ومعي أنباء نصر عظيم قبل أن تتساقط أوراق الخريف الحمراء.”
كان وقاره وإصراره عميقين، حتى إن رايلين لم تستطع سوى أن تومئ برأسها.
رفع آيدن شفتيه بابتسامة أنيقة. لقد أصبح أكثر مهارة في الابتسام من ذي قبل.
نظرت رايلين إليه نظرة طويلة، ثم رفعت يدها لتجفف دموعها كمَن يريد إخفاءها.
لكنه أمسك بمعصمها بلطف، وخفض يدها، ثم طبع قُبلة على دموعها، يلعقها بشفتيه.
احمرّ وجهها في لحظة، لكنه لم يتوقف، بل قرّب شفتيه إلى فمها المتفتّح قليلًا.
فتحت رايلين عينيها قليلًا، لترى وجه آيدن وقد امتلأ بالشغف.
ولما التقت نظراتهما، فُتحت عينا آيدن على مهل، وفي عينيه اشتعال العاطفة.
‘ الرغبة في امتلاكك بالكامل‘— هذا ما شعرت به رايلين، فانقبضت أصابع قدميها.
خفق قلبها، يغمره الترقب والارتعاش.
ويبدو أن آيدن قد شعر بالمثل.
فأغمضت رايلين عينيها بقوة، خجلًا.
***
اقترب موعد مراسم الرحيل.
وكان على رايلين أن تتعلم التطريز، أمر لم تفعله من قبل، لتمنح آيدن منديلًا من صنع يدها في ذلك اليوم.
‘ أيّ أحمق اخترع هذه الخرافة…!’
بدأ كل شيء بسؤال جانبي من الخادمة جيني:
[ سموكِ، ستطرزين المنديل بنفسك كهدية للدوق، أليس كذلك؟]
[…هاه؟ ]
[ ألا تقل لي أنك لم تكن تعلم؟ هناك تقليد في الإمبراطورية بتقديم مناديل مطرزة يدويًّا كهدية للفرسان الذين يذهبون إلى الحرب.]
ويُقال إنّ مَن يحمل ذلك المنديل يعود سالمًا من الحرب.
‘ لو كانت تلك المنديلات تنفع، لما سقط قتيلٌ واحد في الحروب الماضية.’
ورغم أنها لم تصدق، فإن مثل هذه الخرافات لا يمكن تجاهلها حين تُعرف.
فبدأت رايلين بتعلم التطريز على عجل، بمساعدة وصيفتها.
واختارت أن ترسم زهرة النفل على المنديل.
بينما كانت الأخريات يخترن رموز السلام كالحمام أو إكليل الغار، رايلين كانت تحب النفل.
فقد كان ينبت بكثرة حول القصر، ويُعدّ رمزا للحظ.
عندما وصلت إلى هذا القصر للمرة الأولى، اعتادت الخروج للبحث عن النفل الرباعي الأوراق، وكان ذلك يبعث فيها بعض الطمأنينة.
لذا قررت أن تُهديه لآيدن مطرزًا.
لكن الأمر لم يكن سهلًا.
“ سموكِ… ربما من الأفضل أن تختاري شيئًا أبسط؟“
نظرت رايلين إلى المنديل بين يديها.
‘ بصراحة، لا تبدو كزهرة نفل…’
لقد بدت بتلاتها البيضاء مثل أنياب وحش. ولم يعد هناك وقت للبدء من جديد.
أخذت تزيح الواقع عن بصرها، وقالت بنبرة مطمئنة.
“ لا بأس، لنكمل.”
***
وأخيرًا حلّ يوم المراسم، ووقفت رايلين عند البوابة الرئيسية لتودّع آيدن.
لم تكن وحدها، بل خرج جميع من في القصر ليتمنّوا له وللفرسان التوفيق.
“دوق .”
نادته رايلين، وكان هذا اللقب لا يزال ثقيلًا على لسانها.
فلقد اعتادت أن تناديه ‘ آيدن‘ حين يكونان وحدهما.
لكن أمام الجمع، كان لا بد من الرسمية.
فتكلمت بجدية، وكأنها هي من سيغادر إلى الحرب.
“ أنا أؤمن بك.”
“ هذا يمنحني قوة أعظم من أي كلمات.”
ابتسم آيدن بخفة. وتمايل شعره الفضي في الهواء، خفيفًا كبتلات الزهر.
فأخرجت رايلين المنديل المطوي من جيبها.
“ تفضل.”
فتحته لتُريه تطريز النفل. ورغم ترددها لقلّة ثقتها، إلا أنها سرعان ما فردته بفخر أمامه.
ثم قالت بصوت منخفض حتى لا يسمعه سواهما.
“ إنها زهرة نفل. ترمز إلى السلام والحظ. وبما أنها تتفتح في الصيف، آمل أن تعود حين تتفتح هذه الأزهار.”
أخذ آيدن المنديل.
“ فهمت… زهرة نفل… لن أنساها.”
أومأت رايلين.
وتعانقا لدقائق، ثم امتطى آيدن جواده، وقاد الفرسان بعيدًا.
تقف رايلين عند البوابة، تدعو بعودتهم آمنين، حتى اختفى صوت حوافر الخيول.
***
وقضت عامًا كاملًا في القصر، خاليًا من آيدن.
رغم القلق الذي كان يعتريها بين الحين والآخر عليه وعلى أخيها، إلا أنها كانت تدرك أن القلق وحده لا يغيّر شيئًا، فانشغلت بتعلّم أشياء جديدة.
وكان أبرز ما أتقنته هو إدارة شؤون القصر.
تعلمت النظام الضريبي المعقّد، بعد أن كانت تعرف الأساسيات فقط.
ثم عادت لتعلم التطريز بجد.
فقد كان تطريزها السابق للنفل أقرب إلى أنياب الوحوش.
لكنها استغلت الندم كدافع، فدرّبت نفسها على التطريز شهريًا.
وتحوّل الشكل شيئًا فشيئًا، من كتل بيضاء عشوائية إلى زهرة تبدو حقيقية.
وفي التطريز الثاني عشر، بدت الزهرة وكأنها قُطفت من مرج.
‘ انظر لهذا! فعلتُها!’
أشرق وجه رايلين وهي تنظر إلى تطريزها، ولكن ليس بسبب المهارة فقط…
بل لأن أنباء النصر وصلت، مصحوبة بحرارة الصيف وصوت الزيزان.
كان الجيش قد دخل العاصمة بالأمس. ولا شك أن الاحتفالات ستُقام، ثم يعود الجنود إلى أقاليمهم.
وهكذا، ستلتقي بآيدن هذا الشهر.
ومنذ وصلت تلك الأخبار، وقلبها لا يهدأ من فرط الشوق.
واليوم كذلك، كانت قدماها تتململان تحت الكرسي.
ثم رأت فارسًا يمر عبر البوابة.
كان مدرعًا، ووجهه مخفيًا، لكن هيئته بدت مألوفة لها.
‘…هاه؟ ‘
هل يُعقل أنه وصل؟!
نزلت رايلين بسرعة، وكأنها رأت خيالًا.
لكن الفارس توقف حالما رآها.
ثم ترجل، وخلع خوذته، فتساقط العرق، وظهر وجه كالحلم.
“…آيدن؟ “
لقد كان هو حقًا.
“ لو بقيتُ في العاصمة أكثر، لتساقطت أوراق الخريف قبل أن أعود.”
عاد وحده، وترك حتى الفرسان خلفه!
لم تصدق ما تراه.
ومدّ آيدن يده بشيء إليها.
كانت زهرة بيضاء صغيرة.
زهرة نفل.
في يديه الصلبتين المغطّيتين بدرع الحرب، بدت تلك الزهرة الصغيرة كحلم.
لكن عبيرها العشبي أيقظها.
“ سعيد لأني لم أتأخر.”
كان صوته دافئًا، حقيقيًّا.
“ ومن يهتم بالتأخير…!”
قالتها وهي ترتمي في حضنه. فضمّها بقوة.
ثم ابتعدت عنه قليلًا، وفتحت المنديل الذي أكملته لتوها.
“ ما رأيك؟ أليس أفضل من المنديل السابق؟“
ابتسم آيدن بلطف.
“ كلاهما مثاليّان في نظري.”
ورغم أن جوابه جعل تدريباتها المضنية تبدو عبثية، فإن المشهد — آيدن واقفًا في وهج الغروب، وسط قصر تلوّنه الشمس— كان أشبه بصورة خالدة.
فابتسمت رايلين معه.
وبعينين ممتلئتين، قال آيدن.
“ اشتقتُ إليكِ كثيرًا. وكنت أريد أن أقول لك ذلك منذ لحظة وصولي.”
“…”
“ أحبكِ. من أعماق قلبي.”
حفرت رايلين هذا المشهد في ذاكرتها، كما لو أنها تُطريزه على صفحة قلبها— لحظة لا تُنسى.
< النهاية>
وبكذا للأسف نودعهم للابد بدون مانشوف قصه حب كافيريون او ظهور البطلة الأصلية او حتى قبل نشوف عيالهم!! 💔
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O ━O ━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 129"