استمتعوا
“ ليس سيئًا.”
هكذا قال كافيريون وهو يصدّ ضربة سيف آيدن، ثم لوّح بسيفه مجددًا.
هوووش—
شقّ صوت الريح الهواء وانتهى عند فخذ آيدن، لكن الأخير صدّ الهجوم مرة أخرى.
تراجع آيدن خطوة للوراء ليتفادى السيف، ثم انحنى بسرعة وطعن بسلاحه نحو الأمام.
توجّه رأس سيفه البارد نحو كافيريون، غير أنّ الأخير تدحرج مبتعدًا عن الخطر.
توالت اصطدامات السيوف دون توقّف، لكنّ المبارزة بدت وكأنها وصلت إلى طريقٍ مسدود، كما لو أنّ كليهما يسير على مسارين متوازيين.
رغم ذلك، فإنّ التوتّر الذي خيّم على الأجواء أبقى أنظار الجمهور معلّقة عليهما.
حتى إنّ الساحة بأكملها خلت من أي صوت، سوى طنين احتكاك السيوف المتواصل.
ولم تكن رايلين استثناءً من هذا التوتر.
كانت شديدة الارتباك، إلى درجة أنها لم تكن تدري إن كانت تتنفّس أم لا.
أما المنديل في يدها، فقد بات مبلّلًا ومجعّدًا تمامًا.
وفي كل مرّة كانت تلامس فيها أطراف السيوف جسد آيدن أو كافيريون، كانت رايلين تشعر وكأن عمرها يتناقص شيئًا فشيئًا.
تمنّت من قلبها أن يُحسم النزال سريعًا لأيٍّ منهما، لكنّ توازن القوّة بين الطرفين جعل ذلك بعيد المنال.
وهنا… وقع ما لم يكن في الحسبان.
في لحظة خاطفة، ألقى كافيريون نظرة نحو المنصّة حيث تجلس رايلين.
والتقت أعينهما.
‘هاه …؟ ‘
لكن آيدن لم يُفوّت لحظة الشرود تلك، فاندفع بسيفه بضربة خاطفة.
صليل!
ضرب سيف آيدن صدر كافيريون في حركة أفقية حادّة.
ورغم أنّ الدرع المعدنيّ قد امتصّ الضربة، فإنّ قوّة الضربة كانت كافية لدفع كافيريون إلى الوراء.
انحنى الأخير من الخصر، متّكئًا على سيفه الذي غرسه في الأرض ليستند إليه.
اقترب آيدن، ووجّه رأس سيفه نحو ذقن كافيريون.
“…”
“…”
اختفى حتى صوت الحديد، وسادت الساحة صمتٌ مطبق.
ابتلع كاشوود ريقه، ثم هتف بصوتٍ جهوري.
“ السير آيدن… هو الفائز!”
قفز الناس من أماكنهم، وصفّقوا وهتفوا فرحًا.
“ يحيا الدوق!”
“ مبارك لك النصر!”
“ لقد فاز دوقنا!”
أنزل آيدن سيفه، وسط الهتافات والتهليلات القادمة من كل الجهات.
تقدّم كاشوود إلى الأمام، وأعلن رسميًّا فوز آيدن بلقب بطل البطولة.
نزلت رايلين من المنصّة لتقدّم التهاني بنفسها للفائز.
وكان من المعتاد أن تُسلّم سيّدة الدوقية الكأس الذهبية للفائز، مصحوبة بكلمات الشكر والتقدير.
لكنّ قيامها بذلك لزوجها آيدن كان أمرًا يجمع بين الفرح والحرج في آنٍ معًا.
همست له بهدوء، بصوت لا يسمعه سواه.
“ لقد أبليت بلاءً حسنًا يا آيدن.”
غير أنّ ملامح آيدن لم تكن مشرقة كما توقّعت.
لم يكن من النوع الذي ينساق خلف زهو النصر، لكنّ تعابير وجهه كانت توحي بشيءٍ آخر… باضطرابٍ ما.
حتى إنه لم يمدّ يده لأخذ الكأس التي قُدّمت له.
“آيدن …؟ “
نادته رايلين بلطف، حينها فقط التفت إليها.
وقال بصوت خافت.
“ لا أريد هذه الكأس.”
هاه… ؟
بينما كانت رايلين تستغرب قوله، رفعها آيدن فجأة بين ذراعيه.
شهقت رايلين من شدّة المفاجأة.
واتّسعت أعين الحاضرين من فرسان وخدم ومشجّعين، غير مصدّقين ما يرونه.
لقد دُهش الجميع لرؤية الدوق الصارم الهادئ، يُقدم على فعلٍ كهذا أمام أعينهم.
احمرّ وجه رايلين وهي تضرب صدره بخفّة.
“ مـ، ما الذي تفعله… ؟!”
“ ألستِ أنتِ من ستُقدّمين الجائزة اليوم؟“
“ بلى… لذا أنزلني الآن وخذ الكأس.”
“ لا حاجة لي بالكأس… أنتِ ستكونين جائزتي.”
فتحت رايلين فمها في ذهول، غير قادرة على الردّ على جرأته.
أما الجمهور، فلم يفيق بعد من صدمتهم… أن يظهر الزوجان بهذا القرب المفاجئ، وهما من كان يُظنّ أنهما تزوّجا لأسبابٍ سياسية فقط.
أنزلها آيدن بلطف، ثم انحنى على ركبة واحدة، وطبع قبلةً على ظهر يدها.
ثم وقف مجددًا، وهتف بصوتٍ عالٍ موجّه للجميع.
“ أُهدي مجد هذا النصر اليوم لزوجتي.”
رغم الذهول الذي ظلّ مخيّمًا، بدأ الفرسان بالتصفيق أولًا، ثم تبعهم الحشد بأسره.
وعادت الساحة لتمتلئ مجددًا بالبهجة والفرح.
أما رايلين، فقد ابتسمت بدورها، وصفّقت لزوجها الفخور بكل حبّ.
***
ومرّ الوقت دون أن يشعروا، حتى أتى يوم عودة كافيريون إلى دوقية إرجين.
كان قد أنهى كل استعداداته للرحيل، لكن رايلين، التي كان من المفترض أن تودّعه، لم تنزل بعد.
ولهذا، كان كافيريون وآيدن يقفان في ردهة الطابق الأول، وسط صمتٍ ثقيل، ينتظران رايلين.
وقطع آيدن الصمت أخيرًا قائلًا.
“ لماذا تعمّدت الخسارة البارحة؟“
كان كافيريون ينظر إلى لوحةٍ تُجسّد منظرًا طبيعيًّا على الجدار، فحوّل بصره ببطء.
“ تعمدت الخسارة؟“
“ لقد أظهرتَ ثغرة متعمّدة في النزال، أليس كذلك؟“
“ كنت فقط مشتّت الانتباه للحظة بسبب رايلين.”
“ بل كنتَ تتظاهر بالشرود، وأنا أعلم ذلك.”
ابتسم كافيريون بخفة أمام نبرة آيدن الحازمة.
“ لطالما كنت حادّ البصيرة.”
تقاطع آيدن ذراعيه، وأسند ظهره إلى أحد الأعمدة.
“ لماذا فعلت ذلك؟“
“ رأيت أنّ فوزك سيكون أفضل. ففي فعاليةٍ هدفها الوحدة، لا معنى للنصر أو الهزيمة.”
“…”
“ لا تأخذ الأمر بسوء. لو فزت أنا، لتحوّلت أجواء المهرجان إلى مأتم.”
… وربما رايلين لم تكن لترغب بذلك أيضًا.
لكنّه ابتلع كلماته الأخيرة.
وبالصدفة، نزلت رايلين في تلك اللحظة.
“ أعتذر، أخي. هل جعلتك تنتظر طويلًا؟ بينما كنت أخرج، تمزّق ثوبي لأنّه تعلّق بمسمار…”
“ لا بأس، كنت أتبادل حديثًا لطيفًا مع آيدن، فلم أشعر بالملل.”
نظرت إليهما رايلين باستغراب، فحديث لطيف بينهما لم يكن بالأمر المعتاد…
أما آيدن، فلم يُعلّق، لا نفيًا ولا تأييدًا.
“ على أيّ حال، عليك أن تذهب الآن. قلت إنّ لديك موعدًا مهمًّا، وأن عليك العودة إلى الدوقية في الوقت المحدد، أليس كذلك؟“
قالت رايلين، وهي تُمسك بذراعه وترافقه نحو الخارج.
كان العربة بانتظاره عند المدخل الرئيسي.
وقف كافيريون أمام العربة، ونظر إلى آيدن.
“ دوق بيدوسيان… فلنلتقِ في المرّة القادمة.”
“ رحلة موفقة.”
وبعد وداعٍ مختصر لآيدن، التفت كافيريون إلى رايلين.
“ رايلين… شكرًا لدعوتي إلى هنا.”
“ لا داعي للشكر، بل أنا من يُسرّني قدومك، أخي.”
ابتسم كافيريون ابتسامته الهادئة المعتادة، وربّت على رأسها.
“ كما قلتِ… أتمنّى أن يدوم هذا السلام.”
“ سيستمرّ.”
أنزل يده عن رأسها، ثم انحنى قليلًا حتى التقت أعينهما، وقال بصوتٍ منخفض.
“ أتمنّى ذلك… لكنّ أخبارًا مزعجة ستصل إلى الإمبراطورية قريبًا.”
نظرت إليه رايلين بقلق، فتلاقت عيناها الزرقاوان بعينيه الحانيتين، المليئتين بالتطمين.
“ أقول لكِ هذا فقط لأنّي أظن أنّ من الأفضل أن تعرفي ما قد يحدث. لكن لا تقلقي، أنا وآيدن سنحميكِ، فتابعي حياتكِ كالمعتاد.”
أمسك كافيريون بيدها للحظة، ثم أفلتها بلطف.
“ اعتني بنفسك، يا أختي رايلين.”
وبتلك الكلمات، صعد إلى عربته.
ونهق الحصان حين جذب السائق اللجام، لتنطلق العربة بسرعة.
وابتعدت عربة كافيريون شيئًا فشيئًا، حتى غابت عن أنظار رايلين.
وبينما كانت تُحدّق في الطريق، فكّرت في نفسها:
‘ أخبار مزعجة…’
ماذا يمكن أن تكون؟
***
وبعد بضعة أيّام، عرفت رايلين ماهيّة ‘ الاخبار المزعجة‘ الذي تركها كافيريون خلفه كأثرٍ مرير.
كانت تحمل مرسومًا إمبراطوريًّا موجّهًا إلى آيدن.
وقد تضمّن طلبًا بالتجنيد استعدادًا لحربٍ وشيكة مع إمبراطورية كانبوس، مع اقتراحٍ بأن يتولّى آيدن منصب المستشار العسكري.
فغامت زُرقة عيني رايلين، كما لو أنها أصبحت أعماق بحرٍ لا قرار لها.
‘ إذًا في النهاية…’
كانت قد سمعت أنباء عن لاجئين يفرّون من إمبراطورية كانبوس بسبب مشاكل عرقية، مسبّبين مشاكل على حدود إمبراطورية هامنيبو.
طلبت هامنيبو من كانبوس حلّ مشكلة اللاجئين، لكنّ الأخيرة تجاهلت الطلب طويلًا.
فالمسألة كانت مؤرّقة حتى للحكومة هناك، فالسماح بعودة اللاجئين قد يُشعل حربًا أهلية داخلية.
غير أنّ إمبراطورية هامنيبو لم تكن لتتحمّل عبء اللاجئين للأبد.
وبدا أن الإمبراطور الجديد، الذي اعتلى العرش مؤخرًا، قد قرّر إنهاء المسألة، ولو بالحرب.
وكان أكثر من تحتاجهم تلك الحرب… هم اليقظون، أمثال آيدن.
صحيح أنهم لا يستطيعون إجباره على المشاركة، لكنّ المشكلة بدأت تتسرّب إلى ما بعد الحدود، ولن يستطيع آيدن أن يقف موقف المتفرّج.
عضّت رايلين شفتيها بلا وعي.
‘ لا أريد ذلك.’
لم ترغب في أن يذهب آيدن إلى حربٍ أخرى، ولا أن تفارقه مرّة ثانية.
فرغم أنه بات محاربًا خارقًا بعد استيقاظه، فإن القلق لم يُفارِق قلبها.
ففي لمح البصر، تنهال السيوف والسهام على أرض المعركة، وكل شيءٍ ممكن.
قد يُصاب آيدن، أو… وإن كانت تكره حتى التفكير بذلك… قد يفقد حياته.
لكنها تعرف آيدن جيدًا، هو ذلك الرجل الذي يسعى لحماية من يؤمنون به، ولا يريد أن يسلك طريق أسلافه من دوقات بيدوسيان الذين لطّخوا سمعتهم بالشرور.
لذلك، ما إن وقع المرسوم بين يديه، لا بدّ أنه قد حسم أمره داخليًّا.
‘هاه …’
وخلافًا لقلقها الصامت، كان بإمكانها سماع ضحكات الخادمات من الخارج.
“ كيياهاها، وتخيلّي أنّ إيما قالت له…”
“ هيه! ألم نتّفق ألّا نتحدّث عن ذلك؟!”
نظرت رايلين من النافذة.
‘ يضحكن لأنهن لا يعرفن ما سيحدث بعد…’
للحظة، راودها شعور بالحقد تجاه براءتهن، لكنّه تبدّد سريعًا بشعورٍ مضاد.
‘… لا ذنب لهنّ، أليس كذلك؟‘
بل في الحقيقة، حمايتهنّ هي من مسؤوليات سيّدة القصر.
ثم تذكّرت كلماتٍ قالها كافيريون في وقتٍ سابق.
[ كما تعلمين، آيدن قتل الكثيرين في الحروب الماضية. والآن، وقد أصبح أعظم مستيقظ في الإمبراطورية، قد يُضطرّ لذلك مجددًا.]
نعم… مع القوّة تأتي المسؤولية.
رغبت في إنكار ذلك، لكنها لم تستطع.
آيدن هو أعظم مستيقظ في الإمبراطورية، وحياة عددٍ لا يُحصى من البشر تتعلّق به.
لهذا، لا غنى عنه في هذه الحرب.
تنهدت رايلين بعمق، ثم وضعت المرسوم على الطاولة.
— يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O ━O ━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 128"