استمتعوا
رايلين كانت تعدّ بصمت بينما يقترب إيلان خطوةً تلو الأخرى.
واحد… اثنان… ثلاثة…
ثم اندفعت فجأة، تنقضّ على إيلان.
تفاجأ بحركتها المباغتة، فارتبك للحظة وأسقط حذره.
استغلّت رايلين شروده، وغرست أسنانها بقوة في يده.
“آآغ !”
صرخ إيلان من شدّة الألم، وفي تلك اللحظة بدأ لانغرين والقائد بالتحرّك.
تشتّت تركيز إيلان، وانكسر سحر الوهم.
“ الآن!”
صرخت رايلين.
فهم القائد الإشارة، فرفع سيفه عاليًا وهجم على إيلان بضربةٍ واحدةٍ حاسمة.
“آغه …”
تأوّه إيلان، وسقط للأمام، وصدره مشقوقٌ بجرحٍ عميق.
تنفّست رايلين ولانغرين الصعداء.
“هوفف …”
لكن وقع خطواتٍ تقترب أعاد التوتّر إلى وجوه الثلاثة.
وما لبث أن خرج عددٌ من اللصوص من بين الشجيرات.
“ أيها القائد!”
تجمّدت أعينهم على مجموعة رايلين.
“أنتم …!”
كان من الواضح أن القتال قادمٌ لا محالة، ومع قلّة عددهم، فإن أي تعزيزات أخرى ستجعل الأمر مستحيلًا.
“ سيدتي، قفي خلفي.”
قال القائد، وامتثلت رايلين، إذ لم تكن تملك سلاحًا ولا درعًا.
راحت تراقب اللصوص بقلق، تتوسّل معجزة.
كانت تعلم أن النجاة من دون تدخّل خارق أمر مستحيل…
وفجأة، بدأ اللصوص يتساقطون واحدًا تلو الآخر.
“ما الذي …”
تمتم القائد، رافعًا حاجبه أمام هذا المشهد العجيب.
ثم أحاط أحدهم رايلين بذراعيه من الخلف.
انتفض قلبها دهشة، لكنّها سرعان ما عرفت هذا العطر المألوف والمطمئن.
“ ما الذي تفعلينه هنا؟“
كان صوته هادئًا، فيه قسوةٌ خفيفة تخفي حنانًا دافئًا — صوت آيدن.
استدارت رايلين دون تردّد.
تحت خصلات شعره الفضي الذي يتراقص مع الريح، التقت نظراتها بعينيه الرماديتين.
“آيدن …”
“ كان من الممكن أن تُصابي بأذى.”
قالها بلومٍ ناعم، خالٍ من أي غضبٍ حقيقي.
امتلأت عينا رايلين بالدموع، وانهمرت بينما كانت تتشبّث به، شاكرةً وصوله في اللحظة المناسبة.
دفنت وجهها في صدره وسألته، “ كيف عدت بهذه السرعة؟“
“ راودني شعور سيّء.”
أجابها.
ابتسمت رايلين ابتسامةً باهتة.
لطالما كان لآيدن حدسٌ غريب لا يُخطئ.
طبع على رأسها قبلةً جافة.
“ أنا سعيد لأنني أسرعت.”
مسحت رايلين دموعها وعانقته بقوة.
“ اشتقتُ إليك.”
“ وأنا أيضًا.”
ردّ عليها.
وفي تلك اللحظة، بدا وكأن العالم اختفى من حولهما، ودفء العناق محا برد الليل القارس.
لكنّ رايلين لاحظت حينها نظرات القائد ولانغرين المربكة، فعادت إلى الواقع.
احمرّ وجهها خجلًا؛ فقد سمحت للآخرين، خصوصًا الفرسان، برؤية لحظةٍ حميميّة كهذه.
وحين ابتعدت عن آيدن، استدار ببطءٍ نحوهم.
وقف القائد ولانغرين منتصبين تحت وطأة نظراته الثاقبة.
“ يبدو أن ثمّة توضيحات مطلوبة.”
قالها آيدن بصوتٍ باردٍ حادّ، كهواء الغابة ليلاً.
***
بعد سماع القصة كاملة، استدعى آيدن جنوده، وأباد ما تبقى من اللصوص.
ولسوء الحظ، ضاعت جهوده في صفقة السلاح بميناء الجنوب هباءً.
أما سبب تمكّنه من القضاء على اللصوص بهذه السهولة، دون تغيير عتاده، فكان لأنّه سبق وأن أنهى أمر زعيمهم، إيلان.
ورغم أنّ النهاية جاءت لصالحهم، فرض آيدن عقوباتٍ صارمة على الفرسان.
فالقائد خضع لشهرٍ من التكفير، والفرسان العاديون خضعوا لتدريباتٍ قاسية وخصوماتٍ من رواتبهم.
وقد تقبّلوا قراره، معترفين بأخطائهم.
وبينما كانت الأمور تعود تدريجيًا إلى طبيعتها، تلقّت رايلين فجأةً شكرًا من الفرسان.
نسبوا لها الفضل في هزيمة إيلان، فرغم أن هذه اللحظة كانت مشرفة، إلّا أنّ غياب آيدن جعلها تشعر بشيء من الارتباك.
تصفيقٌ حارّ، صدى أيدي الفرسان يملأ ساحة التدريب.
رايلين شقّت طريقها عبرهم بترددٍ وحياء، فيما وقف القائد بوجهٍ جادّ، كما لو كان ذلك من البديهيات.
“ المساهمة العظمى في القضاء على هذه العصابة تعود للدوقة.”
قال القائد.
“ لولا هجومك الشجاع على إيلان، لكنتُ أنا الآن دميةً له، أنقل أخبارًا كاذبة إلى القصر.”
وصف القائد عضة رايلين بـ“ الهجوم الشجاع“ ، ثم التفت إليها وسأل.
“ لكن، دوقتي… كنتِ قد شُللتِ حينها بسحر إيلان، كيف استطعتِ التحرّك؟“
لم تستطع رايلين الردّ فورًا.
‘… كيف أشرح هذا؟‘
في الحقيقة، كانت طريقة إيلان بسيطة.
أولًا، يجب عدم سماع صوته، لأنه يولّد الوهم.
ثانيًا، يجب منعه من فرقعة أصابعه، لأنّ قدراته لا تعمل دون هذه الإيماءة.
لذا، وقبل التوجّه إلى التلال، كانت قد جمعت قطنًا من وسادتها، وعندما ظهر إيلان، أسرعت بوضعه في أذنيها لتحجب الصوت.
لهذا استطاعت التحرّك عندما كان لانغرين مقيّدًا.
كانت أذناها محجوبتين، فلا أثر لقدراته.
أما العضّ، فكان فقط لمنعه من فرقعة أصابعه.
لكن بما أنّها لا تستطيع البوح بذلك، أجابت بلهجةٍ مبهمة.
“… ربما قدرات إيلان لم تنجح معي.”
“ غريب… عندما سمعت صوته، تغيّرت رؤيتي على الفور، وكأنني في حلم.”
“ هاها… ربما قربي من زوجي، بصفته مستيقظًا، منحني بعض المناعة ضد قدراته.”
ابتسمت رايلين ابتسامةً متكلّفة، ولحسن الحظ، أومأ القائد برأسه بجدية.
“ على كلّ حال، بفضلكِ يا دوقتي، عدنا سالمين في ذلك اليوم، وتمكّنا من القضاء على اللصوص.”
“ لا داعي للمبالغة…”
لكن حينها، اقترب كاشوود وأضاف.
“ بل هناك داعٍ. الخطأ بدأ منا.
تجاهلنا تحذير الدوقة بشأن الفخ، أليس كذلك، أيها القائد؟“
اتسعت عينا القائد للحظة، ثم أومأ.
“ أعتذر دوقتي.”
“ لا بأس. كلّ أمر يحتاج إلى شرارة. لم يكن كره فرسان بيديسيان لي بلا سبب.”
“ مع ذلك، فإن أفعالنا خالفت شرف الفروسية.”
وضعت رايلين يدها على كتفي القائد المنحنيين، ورفعته برفق.
“ أنا أتفهّم، فارجع إلى وقفتك.”
اعتدل القائد بهدوء، ثم خاطب الفرسان بصوتٍ جهوري.
“ من اليوم، أيّ كلمة تُقال بحقّ الدوقة، لن تُغتفر. عاملوها بكلّ الاحترام بصفتها سيّدة القصر الجديدة!”
“نعم !”
صدحت أصوات الفرسان تملأ الساحة.
***
كان تلقّي الشكر مهمةً شاقّة.
تنهدت رايلين بعمق وهي تغادر ساحة التدريب.
عندها سمعت وقع خطواتٍ سريعة خلفها.
“ دوقتي!”
استدارت، فرأت لانغرين يقف هناك، وجهه محمرٌ وهو يلهث.
“ سير لانغرين… ماذا هناك؟“
“ أنا… لم أُعبّر عن شكري لك كما ينبغي.”
وقد كان ذلك منطقيًا، فبعد معركة اللصوص، عادوا إلى القصر ليواجهوا العقاب، وكانت الأوضاع مشوشة.
“ لا بأس. القائد أوصل شكرك بالنيابة عنك.”
“ لا، لقد تجاهلت تحذيرك في ذلك اليوم وذهبت وحدي إلى التلال الشرقية. كدتُ أعرّضك للخطر، ثم أنقذتِ حياتي… لذا فمن الواجب أن أشكرك بنفسي.”
انحنى لانغرين انحناءةً عميقة، جسده متيبّس.
“ شكرًا لك.”
“…”
“ وأنا آسف أيضًا…”
“ نعم، أقبل اعتذارك.”
قالتها بنبرةٍ لطيفة، فرفع لانغرين جسده ببطء.
“ والآن وقد أصبحتُ فردًا من هذا المنزل، فالجميع عزيزٌ عليّ كالعائلة. وإن وصلتْ إليكِ هذه المشاعر الصادقة عبر هذه الحادثة، فأنا راضية.”
“دوقتي …”
اغرورقت عينا لانغرين بالدموع.
شعرت رايلين بالارتباك لرؤية رجلٍ بالغٍ على وشك البكاء.
وفي لحظة الحيرة، امتدت يدٌ كبيرة لتغطي عينيها.
حلّ الظلام لحظة، لكنها لم تُفاجأ، فقد توقّعت من يكون.
“ سير لانغرين، يمكنك الانصراف الآن.”
كان آيدن، وقد عاد من جولته.
ارتبك لانغرين من ظهوره المفاجئ، وقال متلعثمًا.
“ نـ، نعم؟“
“ هل مسموح لك بالراحة هكذا؟“
فانتفض لانغرين عند سماع نبرته الهادئة.
“ آه، لا! سأغادر حالًا!”
وبينما تلاشت خطواته، أسقط آيدن يده عن عينيها.
استدارت رايلين إليه.
“ آيدن، لماذا غطّيت عينيّ؟“
وقف أمامها وقال.
“ لا أريدك أن تري دموع رجلٍ آخر.”
“…”
“ أفضلُ أن يكون حزنُك من أجلي أنا وحدي.”
صُدمت رايلين من كلماته غير المتوقعة، وتجمّدت للحظة، ثم ابتسمت، ولفّت ذراعيها حول عنقه.
“ آيدن خاصتنا غيور حقًّا… هل لهذا السبب منعتني من مقابلة الفرسان؟“
“…”
لم يُجب.
لكنها شعرت بأنها بدأت تفهم شيئًا من الدلال المُخبّأ خلف مظهره الهادئ.
ظلّت ممسكةً بآيدن الصامت للحظة أطول، قبل أن تتركه أخيرًا.
— يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O ━O ━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 124"