استمتعوا
لم يكن التأقلم مع منزلها الجديد بالسلاسة التي توقّعتها رايلين.
فبالرغم من ظنّها أنها قد لا تمانع البقاء على جزيرة مهجورة ما دام آيدن معها، إلا أن الواقع كان يحمل في طيّاته صعوباتٍ عمليةً لا يمكن إنكارها.
على سبيل المثال، كان هناك موظفو القصر.
في البداية، كانوا ينظرون إلى رايلين بحذرٍ بالغ، وكأنها كائن غريب قَدِم من عالمٍ آخر.
وقد تفهّمت رايلين هذا السلوك، إذ لا بدّ أن التغيير المفاجئ في سيدة القصر كان بالنسبة لهم مريبًا ومخيفًا في آنٍ واحد.
سعت في بادئ الأمر إلى كسب ودّهم، فخاطبتهم بلطف، وحسّنت ظروف عملهم، بل وزادت من أجورهم.
لكن هذه الطيبة، للأسف، انقلبت عليهم وجعلتهم يتمادَون.
“ سيدتي!”
اقتحمت جيني الغرفة بخطواتٍ ثقيلة حتى اهتزّت قطرات الشاي الأحمر داخل الفنجان البنفسجي.
تنهدت رايلين، ثم وضعت فنجانها جانبًا.
“ ما الأمر؟“
اقتربت جيني بخطى غاضبة، وقد اشتعلت أنفاسها.
“ هل تعرفين ما الذي سمعته اليوم من أفواه الخادمات؟“
استطاعت رايلين أن تتكهّن بأنها مجرد شائعات جديدة عنها، لكنها تظاهرت بالجهل وسألتها.
“ وماذا سمعتي؟“
“ كنّ مجتمعات في المطبخ، لا يعملن بشيء، بل يثرثرن بسوءٍ عنك، يا سيدتي. قلن إنك مُبذّرة ومتطلبة وأكثر!”
أخفضت رايلين بصرها، ثم فركت جبهتها بأصابعها.
لقد مرّ أسبوعان منذ أن بدأت جيني بنقل هذه الأحاديث إليها.
فلم يقتصر الأمر على ريبة الخادمات تجاهها، بل تعدّى ذلك إلى تنمّرٍ على الموظفات اللاتي جاءت بهن معها.
‘ لا بدّ أن تماديهن ازداد لأنني لم أعلّق على شيء.’
فكّرت رايلين بأسى، وقد لاحظت أن جيني والخادمات التابعات لها يُعاملن معاملةً سيئة.
جيني كانت تزعم أنها بخير، لكنها كانت تتحوّل إلى وحشٍ غاضب كلّما سمعت إهانةً لسيدتها.
لكن رايلين لم تكن قادرة على التدخل المباشر، والسبب كان آيدن.
فهو لم يكن على دراية بما يحدث داخل القصر، وخصوصًا ما يتعلّق بأمور الخدمة.
فمنذ أن ورث لقبه، بات يقضي معظم وقته في إدارة الأملاك.
ورغم ذلك، كان يسألها كل مساء إن كانت تواجه صعوبة في شيء، لكنها لم تكن تجرؤ على الإفصاح عن هذه المشكلة.
لم ترغب في التذمّر من أمرٍ تافهٍ كهذا.
كانت تودّ أن تتعامل مع الموقف بنفسها، وأن تتوصّل إلى نتيجةٍ ترضي الجميع دون إثقال كاهل أحد.
فلو أخبرته، لتدخّل حتمًا، وهذا ما لم ترده.
آيدن لديه ما يكفيه من الهموم.
لكن هذا التردد أخلّ بنظام القصر.
لم تكن تمانع الثرثرة من خلف ظهرها، لكن الإهمال في أداء المهام كان مسألةً لا يمكن التغاضي عنها.
وقد بدا ذلك واضحًا في تقصير الخادمات بشكلٍ خاص.
إذ في قصرٍ كبيرٍ كهذا، يكفي القليل من الإهمال حتى يتراكم الغبار في الزوايا.
“ سيدتي، هل ستبقين صامتة مجددًا؟“
سألت جيني وهي ترفع كمّيها.
“ إن لم تتصرّفي الآن، فسوف ألقّنهن درسًا بنفسي! لقد كنت أكبح نفسي فقط لأنك طلبتِ مني ذلك، ولكن… سيدتي؟“
كانت رايلين تحدّق من النافذة بهدوء، تراقب الخادمات وهنّ يتبادلن الحديث أثناء جمع الغسيل.
ثم نهضت ببطء من مقعدها.
رفعت جيني رأسها تتابع حركتها بدهشة.
فتحت رايلين شفتيها القرمزيتين وقالت.
“ أظن أنه قد حان وقت سحب الجزرة.”
“ ماذا؟ سحب ماذا؟“
سألت جيني وقد رمشت بدهشة.
نظرت رايلين إليها وأجابت.
“ الجزرة. يبدو أنها لم تعد تنفع مع خيولٍ جاحدة لا تقدّر قيمتها.”
***
كانت الخادمات يثرثرن وهن ينشرن الأغطية على الحبال.
وكان منظر الأقمشة البيضاء وهي ترفرف في السماء الزرقاء مريحًا للعين، ومغايرًا تمامًا لما سيأتي لاحقًا.
اقتربت رايلين من الخادمات.
كنّ لا يزلن منشغلات بالثرثرة، دون أن يشعرن باقترابها.
“ هل رأيت وجه تلك الخادمة؟ اصبح أحمر كالطماطم!”
“ وماذا في ذلك؟ كلّ ما تفعله هو الشكوى للسيدة.”
“ أعلم، أليس كذلك؟ في البداية بدت السيدة متغطرسة لدرجة أخافتني، لكنها في النهاية مجرد شخص يسهل التلاعب به.”
“ هاهاها، بالضبط!”
كانت رايلين تتقدّم بخطى أنيقة وهي تصغي إليهن.
لكنهن ما لبثن أن صمتن عندما لاحظنها بين الأغطية.
مرّت على وجوههن لحظة من الذعر، سرعان ما تظاهرن بعدها بالتماسك وكأن شيئًا لم يحدث.
ثم تقدّمت خادمة ذات شعرٍ أحمر وخاطبت رايلين.
“ نهارٌ سعيد، سيدتي!”
ورغم وقاحتها الظاهرة، ردّت رايلين بابتسامةٍ خفيفة وسألت.
“ أرى أنكن غسلتم الأغطية هذا الصباح. والآن تقومن بنشرها.”
“ نعم، كان الماء لا يزال باردًا، فكانت المهمة شاقة.”
أجابت الخادمة بابتسامة.
نظرت رايلين إلى الخادمة، ثم إلى الأغطية البيضاء.
“ لكن يبدو أن الغسيل لم يُنظّف كما ينبغي.”
فوجئت الخادمات.
فرايلين لم تكن تعلّق أبدًا على الأعمال المنزلية.
وقد قالت ذلك بوجهٍ خالٍ من التعابير.
“ عذرًا؟ ماذا تعنين…”
“ تعالي وانظري. أليس هناك غبارٌ ما زال عالقًا هنا؟“
وأشارت إلى بقعةٍ باهتة.
فكّرت الخادمة في نفسها.
‘ هل فعلنا ذلك بإهمال؟‘
لكنها لم تردّ أن تعترف بذلك.
فالاعتراف هنا قد يفتح عليها أبوابًا أخرى من المحاسبة.
رفعت ذقنها بتحدٍ وقالت.
“ عذرًا، لكنني لا أرى شيئًا— آه!”
قبل أن تُكمل، كانت رايلين قد نزعت الغطاء عن الحبل وأسقطته على الأرض.
فسرعان ما تلطّخ بالغبار.
“ الآن، يمكنك رؤية البقع بوضوح.”
“ لكن… لقد لوّثتِه بنفسك، سيدتي!”
صاحت الخادمة وهي تحدّق بعينين متسعتين، ثم اصطدمت عيناها بعيني رايلين.
كانتا زرقاوين كثلج الشتاء، شديدتي البرودة.
نظرة لا تمتّ لرايلين القديمة بصلة.
“ أعيدوا غسله.”
قالت بصوتٍ صارم متجمّد.
ثم بدأت تتفقّد باقي الأغطية، واحدة تلو الأخرى، وتُلقي بها على الأرض.
ولم تستطع الخادمات سوى الوقوف مذهولات.
وكانت الخادمة الحمراء أول من استفاق من الصدمة.
“ حتى وإن كنتِ سيدة القصر، فهذا كثير! تطلبين منّا إعادة غسل الغسيل النظيف بلا سبب!”
“ هل أنتِ المسؤولة عن هذا الغسيل؟“
سألتها رايلين بصوتٍ حاد.
ترددت الخادمة للحظة، ثم أجابت:
“… نعم، أنا .”
نظرت رايلين إليها من علٍ وقالت.
“ ما اسمكِ؟“
فوجئت الخادمة بالسؤال المفاجئ، وتلعثمت قبل أن تجيب.
“… آنا .”
قالت رايلين.
“ آنا، عليكِ أن تفكّري جيدًا في السبب الذي جعلني أقول إن هذه الأغطية متّسخة.”
ثم استدارت ومضت.
“ أعيدوا غسلها بحلول الغد. وستكونين مسؤولة عن فحصي لها.”
***
بعد رحيل رايلين، عاد الهمس إلى الخادمات.
“ ما الذي كان ذلك؟“
“ ربما قصّرنا قليلًا، لكن… لا حاجة لإعادة الغسل فعلًا.”
“ بالضبط!”
هزّت إحدى الخادمات كتف آنا التي بدت مذهولة.
“ آنا، هل ستعيدين غسل كل شيء؟“
استفاقت آنا أخيرًا، ونظرت إلى الخادمات من حولها وقد بدَت ملامحهن غاضبة.
“ لا. ولمَ نُعيد غسله؟ هي من لوّثته.”
“ هل هذا جيد؟ لقد قالت إنك ستكونين المسؤولة عن الفحص.”
تذكّرت آنا للحظة نظرات رايلين.
لم تكن تتخيّل أن السيدة يمكن أن تملك مثل تلك النظرات… لكن الخوف تبدّد سريعًا.
لم ترغب في العودة إلى العمل الجاد، فقد اعتادت الكسل.
‘ كما أنني لا أحب تلك المرأة…’
صلّبت آنا نظرتها وقالت.
“ يبدو أنها تحاول أن تتصرّف كسيدة قصر حقيقية الآن، لكن إن خضعنا لها، فسوف تسحقنا إلى الأبد.”
“صحيح …”
“ هي وحدها هنا، ومهما تظاهرت، زواجها من السيد زواجٌ سياسي. ولو كان يحبها حقًا، لتدخّل الآن.”
أومأن جميعًا برؤوسهن لكلمات آنا المقنعة.
“ وفي زواجٍ بلا حب، ستقضي وقتها معنا على كل حال. أليس من الأفضل أن تسير الأمور بسلاسة بيننا؟“
ومع تزايد ثقة آنا، بدأت ظلال الخوف تنزاح عن وجوه الخادمات.
ابتسمت آنا وقالت.
“ ثقن بي فقط.”
***
وأثناء عودتهن إلى الغرفة، سألت جيني وقد اتسعت عيناها كاللؤلؤ.
“ سيدتي، لقد أدهشتني حقًا. هل كانت الأغطية متّسخة بالفعل؟“
أجابت رايلين دون تردّد.
“لا .”
أسرعت جيني لتواكب خطواتها وسألت.
“ إذن، لماذا طلبتِ إعادة غسلها؟“
“ لأنني ظننت أن قلوبهن السوداء قد لوّثت الغسيل.”
أومأت جيني، وقد فهمت المغزى.
فالمشكلة لم تكن البقع، بل العقليات.
لكنّ أمرًا ما لا يزال يقلقها.
“ هل تعتقدين أنهن سيعدن غسله فعلًا؟“
ولم تأتِ الإجابة هذه المرة سريعًا.
وبعد صوت خطوات الكعب العالي لثماني مرات تقريبًا في الممر، خرج صوت ناعم من بين شفتي رايلين.
“ غالبًا لا.”
أمالت جيني رأسها وسألت.
“ هل أمرتِهن بإعادة غسله وأنت تعلمين ذلك؟“
“ ذلك ضروريٌ للصورة التي أريد أن أرسمها.”
توقّفت رايلين لحظة ونظرت من النافذة.
كانت الخادمات يتجمّعن وكأنهن يتآمرن على شيء.
‘ ما لم تحدث مفاجآت… فكل شيء سيسير كما خُطّط له.’
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 117"