ظهر شعر سينييل الطويل المربوط بعناية.
كان مرتبًا ونظيفًا كعادته باستثناء وقت الصباح.
حين التقت عيناه بعينيّ بدا مرتبكًا لا يعرف ما يفعل، ثم حرك نظراته بشكل غريب قبل أن يعود ليلقي عليّ نظرة خاطفة مبتسمًا بخجل، بخلاف ما فعله في الصباح.
قال مبتسمًا ببراءة لم أعهدها فيه:
“مساء الخير، هل انتظرتِ طويلًا يا فيفي؟”
ارتبكتُ داخليًا لرؤيته يبتسم هكذا بلا دفاع، هل حدث له أمر سعيد؟ أم أن كلماتي له في الصباح كانت نوعًا من العزاء؟
“… لم أنتظر كثيرًا.”
“لحسن الحظ.”
ابتسم مرة أخرى بخفة، ومع أنني كنت غارقة طوال اليوم في أفكار معقدة، إلا أن ابتسامته جعلت قلبي يضطرب من نوع آخر.
وجهه المشرق الهادئ لم يكن يشبه أيًّا من تعابيره السابقة.
لم أظن يومًا أنني قد أضعف أمام جماله، لكن التغير المفاجئ أربكني.
صحيح أنه ابتسم من قبل، لكن كانت ابتساماته دائمًا باهتة، حزينة، كأنها ستذوب في أي لحظة.
*عزتي لرونان اللي مسوي لك المستحيل و هو غالبا مش البطل*
جلس سينييل في المقعد المقابل لي.
كان يبتسم ببراءة حتى خفت فجأة.
فالناس حين يتغيرون هكذا بغتة، يكون سبب ذلك اقترابهم من الموت.
انتبه سينييل إلى نظراتي الثابتة نحوه فخفف من ابتسامته قليلًا:
“هل هناك شيء على وجهي؟”
“… لا، أبدًا.”
لم أجرؤ على قول ما في قلبي فمررت الأمر بتملص.
عندها توقف عن الابتسام تمامًا، ومع ذلك لم يظهر عليه الاضطراب المعتاد.
وبينما كانت المائدة تُجهز، ساد صمت قصير.
شعرت بالعطش وهممت بشرب الماء، لكنه بادر بالحديث:
“سمعت أن صديقكِ زاركِ اليوم. صالة الضيوف لم تكن بحالة جيدة، آسف لأنني لم أهتم بها مسبقًا. هل قضيتِ وقتًا جيدًا معه؟”
توقفت يدي الممسكة بالكأس. ما الأمر؟ لماذا يتكلم دون أن يتلعثم؟ بل ويجري حديثًا طبيعيًا؟ صحيح أن أسلوبه بقي متواضعًا كما هو، لكنه بدا أكثر ثباتًا.
“كانت الصالة بحالة جيدة فلا تقلق. أما عن صديقي… نعم، قضينا وقتًا طيبًا.”
راقبت ردة فعله بحذر، لكنه ظل مطمئنًا، وإن كان لا يزال يفرط في مراقبة نظراتي بتردد.
رغم أن الطعام كان شهيًا، لم أستطع مد يدي إليه.
كنت متوترة، خائفة أن يكون سينييل جزءًا من فوضى هذا اليوم.
إن قرر أن يسلك طريقًا خاطئًا، فما التصرف الأذكى؟ كنت أستعرض الخطط في رأسي محاوِلةً التماسك.
هل أخبره أن للحياة أملًا كبيرًا، وأن أي حماقة منه قد تجرني إلى الموت معه؟
لكن سينييل كان أول من كسر الصمت:
“لقد فكرتُ كثيرًا. كنتُ أظن أن رؤيتي تُشعركِ بالضيق، وأن الأفضل أن أتجنبكِ.”
انقبض قلبي. هل ستكون هذه كلماته الأخيرة؟ أم كلماتي أنا؟ جسدي مال قليلًا نحوه مستعدًا للتدخل عند الحاجة.
ثم أكمل وهو يخفض بصره:
“لكنني أدركت أن عند الإفطار أو العشاء، لا مفر لكِ من رؤيتي. ومع ذلك، كنتِ دائمًا تعتنين بي. أنا الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء…”
تساءلت في داخلي بقلق: وما النتيجة؟ خشيت أن يقول شيئًا أحمق، فانتظرت بصمت.
“سأبذل جهدي. على الأقل حين تنظرين إليّ، أريدكِ أن تشعري بالراحة… لن أُظهر بعد الآن وجهًا مخزيًا. وسأحاول أن أكون عونًا لكِ ولو قليلًا.”
تنفست بارتياح شديد داخليًا.
يا له من طفل مطيع! ظننت أنه سيقلب البيت رأسًا على عقب، لكنه لم يأتِ إلا وهو متمسك بلعبته المفضلة.
لكنني كنت مطمئنة إلى حد أنني لم أبدِ أي ردة فعل.
عندها تلاشت ابتسامته وحل محلها القلق وهو يراقبني:
“… هل يزعجكِ كلامي؟”
“لا! لا، أبدًا. بل يعجبني. نعم، يعجبني كثيرا.”
ارتاحت ملامحه المتوترة، وأنا بدوري شعرت بارتخاء ينعكس على وجهي.
ومع أن جسدي كان مرهقًا، إلا أن شهيتي عادت.
أمسكت بالشوكة وابتسمت ابتسامة خفيفة مليئة بالتعب.
قال بهدوء:
“تبدين جميلة وأنتِ تبتسمين هكذا. يعجبني هذا الموقف. فلنعمل معًا من الآن ونعيش حياة أفضل.”
غرست شوكتي في الطعام البارد.
ورغم أنه فقد حرارته، إلا أنه بقي لذيذًا.
وفجأة لفت انتباهي شيء على الطاولة.
رسالة؟
تتبعت بيدي ظرف الرسالة حتى وصلت إلى اليد التي وضعتها، وبالطبع كانت يد سينييل.
“بيبي، أريدكِ أن تأخذي هذه.”
“ما هذا؟”
أخذت الرسالة دون أن أفتحها.
لم أستطع تخمين ما بداخلها: مال؟ شيك فارغ؟
*كل في همه سرى*
رفعت بصري نحوه مطالبةً بتفسير، فرأيته ينظر إليّ بخجل، خائفًا من أن أرفض هديته.
قال سينييل بخجل:
“إنها تذكرة لحفل عزف بيانو لريسيتال لارجو. لا أعرف ما الذي تحبينه، لكنني أردت أن أُهديكِ شيئًا ما…”
“…….”
“إن لم يُعجبك هذا، فسأبحث عن شيء آخر يناسب ذوقكِ أكثر.”
كان ذلك هدية غير متوقعة.
وجنتا سينييل احمرّتا قليلًا وهو يراقب ملامحي.
ولأنني لم أبدِ أي رد فعل، ظهر عليه الارتباك الشديد.
لكن السبب لم يكن أنني انزعجت من الهدية، بل أن شعوري كان معقدًا.
لم يكن في القصة أي ذكر لعازف البيانو لارجو، لكن من خلال ذكريات فيفي كنت أعلم أنه أشهر عازف بيانو في هذا العصر.
وبمجرد أن سمعت أنها تذكرة لحفله المنفرد، شعرت برغبة جارفة في الذهاب.
لم يكن من الممكن أن أكره تلك الهدية، بل على العكس، أعجبتني كثيرًا.
وربما لهذا السبب ازداد شعوري بالتعقيد.
يوم كامل قضيتُه في معاناة، والآن يتقدم نحوي السبب الأكبر لمعاناتي وهو يحمل لي عزاءً.
كان ذلك التناقض مؤلمًا، كلما فكرت فيه ازداد اضطرابي.
فتحت الظرف بصمت وتأكدت من التذكرة.
كانت تذكرة واحدة فقط، كأنه ينوي أن أذهب بمفردي.
وكان موعدها نهاية هذا الأسبوع.
المبتز أمرني ألا أخرج من المنزل…
ومع ذلك، رغم خوفي، كنتُ أريد الذهاب بشدة.
أردت الهروب من واقعي ولو للحظة.
لم يكن الخروج بلا طريقة آمنة تمامًا، فهناك حيل ممكنة.
رفعت بصري والتقت عيناي بعينيه مباشرة.
“سينييل، تعال معي.”
إن أردتُ أن أهرب قليلًا عبر هذا الحفل، فلا بد أن أحمل معي عين العاصفة نفسها: سينييل.
صحيح أن المبتز كتب في رسالته أنني لا ينبغي أن أرتبط بسينييل، لكنه لم يهددني مباشرة بسبب علاقتي به. إذن، لن يضر.
عينا سينييل ارتجفتا سريعًا.
“أنا… مشغول… يعني، ذلك…”
سألته بنبرة تحمل خيبة أمل لم أقصدها:
“لن تتمكن من المجيء؟”
ارتبك أكثر وتحركت شفتاه بارتباك:
“……سأحاول أن أحصل على تذكرة أخرى.”
يا لها من لحظة، كم مضى منذ آخر مرة عشتُ شيئًا ثقافيًا كهذا؟ وضعت التذكرة مجددًا في الظرف وأعدتها إلى الطاولة مبتسمة بخفة.
كان صادقًا حين قال أنه سيبذل جهدًا، وهذا جعلني أشعر نحوه لأول مرة بشيء يشبه الإعجاب الإنساني، بعد أن كان كل ما أحسست به تجاهه مجرد شفقة.
هل جننت؟ أن أشعر نحوه بالإعجاب؟
ربما أرهقني الوضع النفسي أكثر مما أتصور.
لكن مشاعري تلك لم تكن عميقة، بل خفيفة، لذا اعتقدت أنها ليست خطيرة. ابتسمت له بصدق.
“شكرًا لك.”
كانت كلمات قصيرة، لكنها مليئة بالصدق أكثر من أي شيء آخر.
وجنتا سينييل ازدادتا احمرارًا، وقد بدا مرتاحًا.
وحين اقتربت نهاية العشاء، تذكرت فجأة أنني لم أحضر الزهور.
شعرت بالذعر للحظة، لكن سرعان ما هدأت نفسي:
لقد حصلتُ على التذكرة واتفقنا أن نذهب معًا.
أليس هذا أفضل من الزهور؟
فالغرض الأساسي من التفاوض مع كيد كان تحسين علاقتي مع سينييل، لا مجرد تقديم الزهور.
رغم أن شعورًا غامضًا بالضيق بقي عالقًا.
***
بعد العشاء، أخذت حمامًا وغيرت ثيابي ثم عدت إلى غرفتي.
ومع اقتراب الليل، راحت مخاوفي تتصاعد، فقد كان موعد لقائي مع كيد يقترب.
ترى، هل المبتز أخبر كيد بما حدث مع رونان اليوم؟
إن كان قد فعل، فليكن: ستموت أنت وسأموت أنا.
كنتُ متوترة جدًا فلم أستطع النوم بعمق.
لذلك ما أن سمعت صرير الباب وهو يُفتح حتى فتحت عيني فورًا.
نهضت بجسدي قليلًا أراقب الداخل.
كان ضوء القمر يتسرب من النافذة كافيًا لرؤية هيئة الشخص، لكن ليس بوضوح.
كان يتجاوز المصباح دون أن يشعله ويتجه مباشرة نحو سريري.
لماذا؟ لماذا لا يُشعل المصباح؟
لم أصدق عيني في البداية فأمعنت النظر في المصباح مرات ومرات.
لكنه بقي مظلمًا لا يعمل.
إذًا… يبدو أنه لا ينوي قتلي!
ارتجف قلبي بسرعة مع شعور بالأمل، لكنه لم يدم طويلًا.
إذ فجأة قبض على عنقي وأدار رأسي بقوة إلى الجانب.
قال بصوت غامض:
“ما الذي تراقبينه هكذا؟”
••••◇•••••••☆•♤•☆•••••••◇••••
ترجمة : 𝑁𝑜𝑣𝑎
تابعونا على قناة التلغرام : MelaniNovels
التعليقات لهذا الفصل " 35"