“شعرت بوعكة مفاجئة، لذلك لم أستطع الحضور. آسفة لأنني حددتُ موعدًا ثم ألغيته من دون تنبيه.”
“لا بأس. هل ما زلتِ متوعكة؟ هل تناولتِ دواءً؟”
“……تحسنت قليلًا الآن.”
“الحمد لله.”
ساد صمت ثقيل. كنت أعلم أن الوقت لا يسمح بإضاعته هكذا، لكن الكلمات لم تسعفني.
هو من كسر الصمت أخيرًا.
“ما السبب الذي أردتِ لقائي من أجله؟”
لم أجد عذرًا جاهزًا.
رمقته سريعًا ثم خفضت بصري.
لم أرَ في عينيه تلك الكآبة المعتادة، بل كانتا جادتين كأنهما عينَا محقق.
تك… تك… عقارب الساعة تصدر صخبًا.
عندها أدركت حقًا أن الوقت يمر، وأن وجوده هنا يرعبني.
هو الشخص الذي يمكن أن يكون حليفي الأقوى الآن، لكنه بشكل متناقض أكثر شخص يخيفني بقربه.
رفعت رأسي ونظرت إليه مباشرة، وانطلقت الكلمات بسرعة وبنبرة أقل تلعثمًا:
“أردت فقط أن أعتذر عن الموقف المخجل الذي حدث في المرة الماضية. وأضيف أننا سنحاول أن نبدأ من جديد بعلاقة أفضل. لم يكن هناك سبب مهم. آسفة لأنني أتعبتك بالمجيء والذهاب بلا طائل.”
“يمكنكِ أن تستدعيني متى شئتِ.”
لم أملك وقتًا للتأثر بلطفه. عيناي لم تفارقا الباب.
“أنا أيضًا أود الحديث معك أكثر، لكن هل يمكنك الآن أن تعود؟”
“جسدي ما زال متعبًا، وفوق ذلك فإن زيارتك بلا موعد قد تُساء فهمها. لا أقصد لومك، أبدًا.”
ارتجف رونان عند إضافتي الأخيرة، واعتذر بوجه متصلب:
“لم يكن قصدي إطلاقًا أن أسبب ذلك. أعتذر.”
صحيح أن المجتمع لم يكن متشددًا جدًا، لكن لم يكن أيضًا خاليًا من الألسنة.
لم أكن أكذب، ومع ذلك لم يكن خوفي من الشائعات، فأنا مشغولة بالنجاة أكثر من أي سمعة.
أردت فقط أن أجد ذريعة لطرده بسرعة.
“أقدّر قلقك، لكنني لا أريدك أن تسيء الظن بعائلتي. ثم… لستُ أظن أن هناك ما يستدعي أن تتواصل معي شخصيًا. وأظن أنني سأكون مشغولة قريبًا، فلن أستطيع الرد عليك.”
“…….”
“عندما تنتهي أموري، سأتواصل أنا معك.”
بدا أنه فهم قصدي الضمني: ألا يفعل شيئًا حتى ذلك الحين.
ظل صامتًا لحظة، وحين التفتُّ أنظر إليه بانتظار جوابه، فتح فمه أخيرًا ليتكلم.
“ألم تحصلي حتى على معلومات حول طريق الهروب؟”
لكن حتى لو كان هناك طريق، فلم يكن ذا فائدة لي الآن، ما دمت لا أعرف بعد من يقف خلف الأمر.
“……سأخبرك بها كلها حين أتواصل معك لاحقًا. في الوقت الحالي، الأمر صعب.”
أدرت وجهي بعيدًا.
عضضت على شفتي بقوة خارج مجال بصر رونان، ثم فتحت الباب على مصراعيه.
“أنا من طلب اللقاء، ومع ذلك أطردك هكذا… آسفة.”
“……لا بأس. بل أنا من يعتذر لأني جئت بلا استئذان.”
“لا، لا بأس.”
هززت رأسي ومشيت بسرعة إلى الأمام.
رافقته بنفسي حتى باب القصر الخارجي.
كان يكفي أن أوكل الأمر للبواب، لكنني شعرت بالقلق.
إن التقى رونان وسينِييل مصادفة، فلن تكون العاقبة بخير.
غادر رونان على متن عربته، وسرت خلفه أنفاسي الثقيلة حتى تلاشى بعيدًا.
عندها فقط استطعت أن أتنفس بارتياح، وأعدّل ملامحي.
صحيح أنني تأكدت من خلو القصر من الجواسيس، لكن الطمأنينة لم تطرق قلبي بعد.
‘قد يرى سانييل عربة رونان وهي تغادر القصر…’
لن تكون كارثة كبرى إن رآها، لكن القلق ظل عالقًا في صدري.
كل شيء صار يبعث على الريبة.
تظاهرت بوجه بارد وأنا أحدّق إلى الأفق حيث اختفت العربة، ثم استدرت وغادرت.
اقترب مني هَاربن.
“سيدتي، أعتذر إن سبّبت ضجة في التعامل مع الموقف قبل قليل. سأخبر السيد أن صديقتك المقربة زارتك، وسأُحكم أفواه الخدم أيضًا.”
كان يهمس بعينين تومضان كمن يعدني بحفظ سرّ خطير. كأنه يقول لي:
‘لقد رأيت خيانة سيدتي، لكن حفاظًا على السلم، سأغمض عينيّ’.
“ليس لي سوى زوجي.”
أطرق رأسه متظاهرًا بالتصديق: “بالطبع، سيدتي.”
“إذن، احرص على ألا ينتشر أي كلام فارغ.”
“أمركِ.”
لوّحت له بيدي المتعبة إشارة أن ينصرف.
ثم فتحت باب غرفة الطعام وجلست على مقعدي المألوف بإنهاك.
ارتميت على الكرسي كجثة، أحدّق في الفراغ بذهول.
‘هل سيسارع المبتزّ إلى التحرك ضد ما حدث اليوم؟ إن فعل، فهو مجنون حقًا.’
لقد أطعت أوامره: ألغيت اللقاء وبقيت في القصر. لم أطلب من رونان أن يأتي، بل جاء من تلقاء نفسه. ليس ذنبي.
‘على الأقل الليلة لن يتمكن من نقل شيء إلى كِيد. فماذا سيقول؟’
التعامل مع خصم خفي أرهق رأسي. كدت أنفجر وأقرر: ‘لتذهب حياتي وحياته سويًا! سأفضح كل شيء لكِيد الآن!’
فكرت جديًا لعشر ثوانٍ، ثم صرفت النظر.
كانت مجازفة انتحارية.
‘الأفضل أن أنتظر حتى يحاول كِيد قتلي بناءً على ما يسمعه من المبتز. حينها، يمكنني أن أساومه وأقنعه بالتصرف معي. هذا أأمن.’
أن تتصرف بلا أوراق بيدك، أقصر طريق إلى الموت.
‘لو كان عندي القليل من المعلومات عن جويل، لكان بإمكاني التفاوض مع كِيد…’
أما الآن، فمحاولة التودد له بما أملك من فتات معلومات، ليس إلا كمن يضع رأسه في فم أسد.
مجرد التلميح بجويل أمام كِيد يعني: ‘أنا أعرف أنك كنتَ فأر تجارب، وأعرف من كان وراء الأمر’.
إعلان حرب صريح.
‘حياتي مليئة بالكوابيس، أليس يكفيني كل هذا حتى يُضاف جويل أيضًا؟!’
صفعت الطاولة بيدي بعصبية.
في تلك اللحظة، فُتح الباب.
لم يكن أحد سيدخل غرفة الطعام سوا سينييل.
أخذت نفسًا عميقًا، وأخفيت غضبي قبل أن أرفع قامتي باستقامة.
التعليقات لهذا الفصل " 34"