“أنا… لم أفعل ذلك قط، ولن أفعل أبدًا. صراحةً، لا أرى ما الذي قد يدفع أحدًا للتجسس في قصر الكاهن الأكبر سينييل. أنا فقط أريد أن أواصل عملي هنا بهدوء. عندي طفل في الثالثة من عمره ينتظرني في البيت…”
وقال آخر وهو يلوح بيديه:
“تقولين لص، ثم تسألين عن جاسوس… على كل حال، أنا أبعد ما يكون عن ذلك. أقصى ما أجيده هو الاعتناء بالحديقة والزهور.
إن طلبتِ مني حفظ سر، فسأرتجف فورًا ويقشعر بدني. لا أستطيع.
حتى هدية عيد ميلاد زوجتي لم أستطع أن أخبئها عنها يومًا! أنا بائس تمامًا في الكذب.
إن أردت أن أقدم شيئًا، فأنا أفعله علنًا أمامها. كيف لي أن… أن أكون جاسوسًا؟!”
لم أحصل إلا على تفاصيل حياتهم الخاصة التي لم أرغب أصلًا في معرفتها: البستاني بريل لا يستطيع حتى أن يخفي هدية عيد ميلاد زوجته، وعاملة التنظيف ميتي لديها طفل في الثالثة، وسائس الخيول مارتن اشترى بيتًا بعد طول فراق ليجتمع بأسرته أخيرًا… قصص بشرية بحتة.
وبين دموعهم ومخاطهم، وجدت نفسي أعجز عن التحكم في ملامحي.
أما كبير الخدم، فمع أن أثر العقار قد زال، ظل يكتب في ورقة غريبة المصدر أسماء الجميع وما قالوه، وكأنه يخشى أن يُطرد إن لم يثبت جديته.
ثم قدّمها لي بوجه صارم:
“سيدتي، لقد أنهى جميع خدم القصر اعترافهم. تفضلي بالاطلاع.”
“…شكرًا لك.”
لم أكن بحاجة فعلية للقائمة، لكنني أخذتها فقط لأطمئنه.
“لو كان عندنا جاسوس فعلًا، لكان ذلك تقدمًا على الأقل.”
لكنني ما زلت لا أعلم على أي أساس بُني ذلك التهديد الموجه إليّ.
هل كانت مجرد شكوك لمجرد أنني حاولت الهروب بحرًا؟
“مع ذلك لا أستطيع أن أطمئن كليًا.”
قريبًا سألتقي رونان. كنت أنوي أن أُطلعه على بعض الأدلة تدريجيًا، لكن بعد ما حدث لم أعد أعرف إن كان ذلك ممكنًا.
قررت أولًا أن أنهي مسألة الخدم:
“…أعتذر لأنني شككت فيكم. ليس في نيتي طرد أحد، فلا تبكوا. فقط لا تخبروا أحدًا بما جرى اليوم. يمكنكم الانصراف.”
“أتمنى لكِ راحة هانئة، سيدتي.”
خرجوا جميعًا مذعورين، واحدًا تلو الآخر، وبقي كبير الخدم لآخر لحظة، ينحني بعمق قبل أن يغادر.
كان موعد لقائي بـ رونان يقترب.
أخذت أقضم أظافري وأنا أذرع الغرفة جيئة وذهابًا.
“قد لا أعرف كيف اكتشف المهدِّد أمري، لكن هناك شيئًا واحدًا أنا متأكدة منه.”
ذلك الشخص لا يعرف على وجه الدقة ما الذي كنت أنوي فعله مع رونان.
حتى رونان نفسه لا يعرف. فكيف يكون هو على علم؟
“لكن، بما أنه هدّدني بألّا ألتقي به، فهل من داعٍ للمخاطرة والذهاب؟ حتى لو كان يمتحنني فقط، فإنني، وقد صرت هدفًا له مرة، لن يسعني إلا أن أبقى مطاردة.”
حتى لو قابلت رونان الآن، فلن يكون عندي ما أقوله.
كنت أنوي أن أبعثر بعض الأدلة بطريقة غير مباشرة، لكنني لم أعد أجرؤ.
إن لاحظ رونان شيئًا وبدأ يبحث أكثر في قضية كيد، فسيكون ذلك بمثابة إعلان مباشر للمهدِّد: “أنا أعرف كيد جيدًا، وأحاول إفشال خططه، هاها!”
“يا إلهي… أنا من حدّدت الموعد، والآن لن أذهب… يا للحرج.”
إن لم أخرج الآن فسأتأخر.
ولو بعثت برسالة اعتذار، فلن يراها رونان إلا بعد عودته إلى البيت.
والأسوأ أن إرسال الرسالة بحد ذاته صار يبدو مخاطرة.
“لكن… ماذا لو فعلت كما فعل المهدِّد، وأرسلت رسالة دون اسم مرسِل؟”
من المستبعد أن يفتح المهدِّد الرسالة ويتأكد.
وحتى لو فعل، فلن يجد فيها ما يمسكه عليّ. بل ربما يتفهم.
ففي النهاية، لا شيء يثير الشكوك أكثر من أن أقطع كل اتصال فجأة بعد أن تلقيت تهديدًا بألا ألتقي برونان.
على الأقل، عليّ أن أقول: “سأكون مشغولة لفترة، ولن أتمكن من رؤيتك.” ثم أختفي بهدوء.
جمعت بعض الحليّ وأدرجتها في الرسالة.
لم أرد أن يظن أنني أرسلها بدافع الشفقة فقط.
كان ذلك أيضًا تعويضًا عن المرة التي انهرت فيها باكية في العربة، وأمسكت برجل غريب أبكي فوق كتفه.
استدعيت كبير الخدم وطلبت منه أن يرسل الرسالة دون اسم مرسِل.
ارتديت ملابس نوم خفيفة واستلقيت على السرير.
‘يجب أن أجمع معلومات عن جويل. صحيح أن المبتز قد لا يكون هو جويل، لكن الاحتمال ضعيف.’
وحتى لو لم يكن هو، فمن الأفضل أن أعرف عنه أكبر قدر ممكن.
‘لكن ممَن أطلب المساعدة؟’
السوق السوداء مستبعدة تمامًا،
فبمجرد أن يُشاع أنني أبحث عن جويل، فستنتشر الأخبار كالنار في الهشيم.
مجرد التفكير بذلك جعلني أشعر بالدوار.
من يعرف الكثير من المعلومات ويستطيع أن يكون موضع ثقة؟ من كان في القصة الأصلية شخصًا يمكن الاعتماد عليه؟
آه، تذكرت.
‘مساعد البطل، “سانشي”!’
بفضل شخصيته الفضولية كان يملك شبكة واسعة من العلاقات.
وجويل أيضًا كان في فترةٍ ما تابعًا للهيكل، لذلك قد يعرفه سانشي.
كدت أن أهرع إلى المعبد فورًا، لكني توقفت فجأة عند الباب.
لم يمضِ يوم على وصول رسالة التهديد، ولو بدأت أتنقل هكذا فقد يلصقون بي مزيدًا من المراقبين من حيث لا أدري.
‘بهذا الجانب، كيد أفضل بكثير. فلا أعلم متى أو أين يراقبني صاحب الرسالة ، و أنا لا أستطيع رصده حتى.’
الأفضل أن أتحرك بحذر في الوقت الحالي.
طرقٌ متتالٍ قطع سكون الغرفة.
“سيدتي، هناك ضيف يصرّ على مقابلتك. ويقول أنه إن لم يُسمح له بالدخول فسيدخل بالقوة. هل تريدين أن أطرده حالًا؟”
“……ضيف؟”
كعادته جاء الخادم بخبر مربك.
‘هل هناك أحد يبحث عني؟’
من ارتباك الخادم بدا واضحًا أنه ليس من أقارب فيفي أو معارفها.
“من الذي جاء إذن؟”
قال الخادم بصوت متردد، خافت الثقة:
“إنه الفارس المقدس رونان فيلاكسيس. لا بد أنك يا سيدتي لا تعرفينه أيضًا، أليس كذلك؟ قوته ليست عادية وقد أحدث فوضى، فلم أتمكن من منعه. أعتذر. سأطرده فورًا.”
ماذا؟! تجمدت أفكاري لحظة. رونان فيلاكسيس؟
“تـ… تمهّل لحظة!”
ارتديت معطفي على عجل، حتى أن إحدى يديّ لم تدخل في الكم، ثم فتحت الباب بصعوبة.
“لا تطرده، خذه إلى غرفة الاستقبال…”
“سيدتي.”
تجاوز رونان الخادم المربَك وتقدم نحوي.
بدا من مظهره أن شجارًا وقع؛ ياقة ردائه مجعدة وشعره مبعثر، لكنه رغم ذلك لم يفقد هيبته بسبب نظراته الحادة المليئة بالغضب.
رأيت الارتباك في عيني الخادم، وخلف رونان تجمّع الخدم الذين حاولوا منعه.
أفكاري تشابكت مثلهم تمامًا.
‘هل يجوز لرونان أن يأتي إلى هنا؟ لم أستدعه أنا… هل هذا يدخل ضمن المؤامرة؟ ثم ماذا لو التقى بسينييل، الذي حان وقت قدومه؟’
تشوش ذهني أكثر مع الضوضاء، وكان لابد من حسم الموقف قبل أن يتعقد.
رونان لم يكن ليغادر بسهولة وهو في هذه الحال، والإقناع أمام هذا الجمع لن يكون مناسبًا، فالأفضل أن ننتقل إلى مكان آخر.
“خذه إلى غرفة الاستقبال.”
“نـ… نعم! حاضر!”
أسرع الخادم مذعورًا وهو يتقدمنا.
أما أنا فلم أحيّ رونان، ولم يكن الموقف يسمح بتحية ودّية على أي حال.
حين ازدحم المكان قبل قليل لم ألحظ، لكن الآن وأنا في غرفة الاستقبال لاحظت أنها تشبه بشكل مزعج تلك الغرفة السرية في الطابق الأول.
لو أزلنا الكتب من الجدران، لصارت نسخة عنها.
“هابرن، يمكنك أن تنصرف.”
“……حاضر.”
نظر الخادم إليّ قليلًا ثم غادر بسرعة، كأنه يريد الهروب من هذا الجو الثقيل.
بقي رونان واقفًا عند الباب، وأنا كذلك، إلى أن ابتعد الخادم تمامًا.
كان رونان يرمقني بصمت، فأردت أن أقطع التوتر وأعتذر بإيجاز عن إلغاء الموعد.
“السير فيلاكسيس؟”
لكن ما أدهشني أنه جثا فجأة على ركبتيه أمامي.
“أعتذر لقدومي بلا استئذان. وأعتذر كذلك عن إساءتي للخدم. سأتحمل كامل المسؤولية عن الموقف.”
“……لا، لا داعي. انهض رجاءً. جئت بسبب الموعد الذي ألغيتُه؟ إذن أنا من يجب عليه الاعتذار، وليس عليك أن تعتذر.”
لم أعتد أن أرى وجهه من هذا المستوى، وقد بدا الأمر غريبًا علي.
التعليقات لهذا الفصل " 33"