رفع سينييل يده عن وجهه وأجاب بجدية، وكأنه قد أوكلت إليه مهمة عظيمة، منتظراً ما سأقوله بعد ذلك بكل تركيز.
“حسنًا، ردد معي: أنا بالفعل أُقدّم ما في وسعي من المساعدة.”
كان يردد بصدق حتى وصل إلى عبارة “أنا بالفعل”، لكنه توقف فجأة عند سماع بقية الجملة.
نظر إليّ بعينين مليئتين بالشك وكأنه ظن أنه سمع خطأ.
فأومأت برأسي مؤكدًة أن ما سمعه صحيح، وحثثته بلطف:
“هيا.”
طال تردده، لكني لم أقل شيئًا آخر، فقط انتظرت بصمت أن يكرر.
عندها شدّ فكه، ثم بدأ ببطء يقلدني:
“أ… أنا بالفعل… أقدّم… ما يكفي… من المساعدة…”
تزلزلت نظرته وهو ينطق الجملة القصيرة بصعوبة.
أمسكت يده وربّتُّ عليها بخفة، كنوع من التصفيق تشجيعًا له.
*محسستني انها قاعدة تتعامل مع كلب مش مع بني ادم*
“جيد. أحسنت. هذا كل ما أردت قوله لك.”
“… “
“من الآن فصاعدًا، إن شعرت بالذنب تجاهي، فقط كرر تلك الجملة، واهدأ. لا أريدك أن تستهلك قوتك كل يوم وأنت تعتذر لي باستمرار. نحن بحاجة لقوتك كي نصمد.”
بينما كنت أتكلم، خطر ببالي أن هذا لا يبدو ككلمات مواساة، لكنني لست بارعة في المواساة وإظهار المشاعر.
ومع ذلك، هذا أفضل ما أستطيع تقديمه.
“لكن… في النهاية أنا كِيد، فكيف أكون…”
لم يكمل سينييل جملته، وأطبق شفتيه.
شعرت بضعف قبضته التي كانت ممسكة بيدي.
صحيح أن ما قاله منطقي، لكنني هززت رأسي.
“لا أظن. سينييل هو كِيد، نعم، لكن كِيد لا يشبهك في شيء ولا يفيدني أبدًا. أنتما مختلفان جدًا وكأنكما شخصان لا علاقة بينهما.”
بالنسبة لي، صرت أتعامل مع كِيد وسينييل كأنهما شخصان منفصلان. وهذا التفكير أفضل بكثير لسلامتي النفسية.
تمنيت لو أن سينييل يرى نفسه كذلك أيضًا، مع أن طبيعته لا تسمح له بذلك.
فقلت بصدق:
“أنا لا أقول كلامًا فارغًا، لذا خذ كلامي على ظاهره، ولا تعقد الأمر. أنت تفيدني يا سينييل. مفهوم؟”
لكنه لم يستطع أن يجيب.
عيناه الحمراء كانتا مضطربتين، مشوشتين بالأفكار، كبحر من الحيرة.
أدركت أن أي كلام إضافي سيكون بلا فائدة.
لقد تأخر الوقت، والكلام لن يزيده إلا ارتباكًا.
لذا قررت أن أرسله إلى عمله.
“على أي حال، لا تحمل همي أكثر، ولتعد إلى حياتك الطبيعية. حان وقت الذهاب للعمل.”
بقي صامتًا.
فسحبته بهدوء نحو الباب، خطوة بخطوة، وأنا ممسك بيده.
وعند الباب استدرت إليه.
“نلتقي مساءً.”
“… نعم.”
فتحت الباب، وأفلتت يدي من يده، ثم خرجت أولاً.
لوّحت له في الممر، فبادلني نظرة غامضة لم أفهمها، ثم انصرف.
“هل كان عليّ أن أواسيه بطريقة أخرى؟”
عدت إلى غرفتي، لكن وجهه المضطرب ظل يطارد ذهني.
لو أنني لم أقل شيئًا، كما أفعل عادة، لربما كان الوضع أقل إزعاجًا.
لقد كنت أريد تشجيعه، لكن شعرت أنني ربما جرحت مشاعره أكثر.
انقبض صدري بشيء من الحزن.
تنهدت بحدة من الإحباط.
ومع التكرار، بدأ الغضب يتسلل إليّ أيضًا.
“لكن أنا أيضًا أعاني. كيف كان بإمكاني أن أواسيه أكثر من هذا؟”
أزلت مشاعري جانبًا، وعدت أركز فقط على البقاء حيّة.
“لأفكر في لقائي مع رونان لاحقًا.”
بما أنني لا أستطيع الاعتماد على إيزيت، فسوف أعطي رونان بعض الأدلة.
سأجعله يشك، ثم أجرّه ليكون في صفي تمامًا.
لو كانت علاقتنا قصيرة المدى مثل المرة السابقة، لكنت تركت الأدلة ورحلت ببساطة.
لكن هذه المرة، بما أن عليّ البقاء فترة طويلة، فمن الأفضل أن أبني علاقة قوية.
“رونان فارس مقدس، لكنه يبدو متفرغا تماما. حتى المرة السابقة حين ذهبنا إلى الميناء، كان كذلك. أما سينييل، فيعمل بلا راحة تقريبًا. هل وظيفة الفارس المقدس فارغة هكذا أصلًا؟”
قررت أن أسأله عن أيام عطلته بالتفصيل حين ألتقيه اليوم.
وبينما كنت غارقة في تلك الأفكار، طرق أحدهم الباب.
لم يكن من المفترض أن يطرق أحد بابي في هذا الوقت، بعد أن خرج سينييل للعمل.
ارتجف جسدي قليلًا وأنا ألتفت نحو الباب.
كنت أعرف جيدًا أن كِيد لن يزورني في وضح النهار، وأعرف أنه لا يطرق الأبواب بأدب.
ومع ذلك، تسللت قشعريرة باردة إلى ظهري.
ثم جاء الصوت من الخارج مع الطرقات: صوت إنسان.
“سيدتي، أنا الخادم هَاربن. لقد وصلتك رسالة، فجئت أُسلمك إياها.”
بمجرد أن سمعت صوته، فُكَّ التوتر الذي كان يجثم على صدري، وشعرت بالدماء الدافئة تتدفق في عروقي من جديد.
“… ادخل.”
رسالة؟ كما في المرة السابقة، لم يكن يفترض أن تصلني أي رسالة.
هل تكون من رونان؟ لعلها رسالة مستعجلة ليُخبرني أنه لن يتمكن من الحضور.
استلمت الرسالة مع سكين الورق من الخادم، ولوّحت له برأسي إشارة أن بوسعه الانصراف. ذ
فانحنى باحترام وغادر.
ما أن أمسكت الظرف حتى سارعت بسد أنفي.
“أوف… رائحة عطر.”
قبل أن أفتح الظرف، انبعثت منه رائحة ورد صناعية خانقة، لاذعة لدرجة أنها أحرقت أنفي وصعّبت التنفس.
كانت الرسالة بلا زخرفة ولا ختم، تمامًا مثل رسالة رونان السابقة، لكن خامتها فاخرة بشكل مبالغ فيه.
في الركن السفلي الأيمن، حيث يُفترض أن يوضع الختم، رُسمت وردة ذهبية.
“من الذي قد يرسل إليّ شيئًا كهذا؟”
بلا شعار للعائلة، ومعطرّة بهذه الكمية المفرطة… بدت كرسالة مشبوهة، وكأنها مرسلة في علاقة خفية.
لكن مالكة هذا الجسد لم يكن لها حبيب أصلًا.
حين أخرجت الورقة من الظرف، ازدادت رائحة العطر كثافة حتى كادت تخنقني.
لم أتحمل، فأخرجتها من النافذة وهززتها في الهواء حتى خفّت الرائحة قليلًا، ثم عدت أقرأ.
الخط كان متكلفًا ومزخرفًا لدرجة جعلت القراءة صعبة.
كلما تمكنت من فك الحروف واحدة تلو الأخرى، تسلّل البرد إلى عنقي.
“من… كتب هذا…؟”
تأكدت مرة أخرى أن اسمي مكتوب كمتلقية، ثم قلبت الورقة بحثًا عن المُرسِل، فلم أجد شيئًا.
عندها ناديت الخادم مجددًا:
“هذه… من أين جئت بها؟”
“من ساعي البريد يا سيدتي. هل هناك مشكلة؟”
“ابحث عن ذلك الساعي. وأريد أن أعرف من أرسلها.”
“حسنًا.”
بدأت أعض أظافري بقلق.
كان هذا الخوف مختلفًا عن ذاك الذي شعرت به حين قابلت كِيد.
وبعد قليل، عاد الخادم شاحب الوجه:
“أعتذر يا سيدتي… لقد أمرنا السيد من قبل بألا نتدخل أو نشك في أي أمر يخص سيدة المنزل، لذلك سلمت الرسالة إليك دون تحقق. من الآن فصاعدًا، سأستلم لك فقط الرسائل المختومة.”
أجبته بحزم، رافضة عرضه:
“لا. استلم لي كل الرسائل التي تصل، مختومة أو لا.”
رفع رأسه بدهشة، لكنه حين رأى ملامحي المتصلبة، أسرع يخفض رأسه من جديد.
“كما تأمرين.”
“يمكنك الذهاب.”
“شكرًا لأنك غفرتِ لي زلتي.”
انقبض فكي من الغضب.
كلما حاولت النجاة، ازدادت حياتي تعقيدًا وتشابكًا.
فيفي جيزلاين،
من المؤسف أنك لم تستطيعي الهرب عبر البحر. كنت أتمنى أن تختفي بسرعة.
سأدخل في صلب الموضوع: ما الغرض من لقاءاتك مع الفارس المقدس رونان فيلاكسيس؟
أظن أنك ربما رأيتِ حقيقته، السيد سينييل، لكن أنصحك ألّا تتدخلي فيما لا يعنيك.
هذا تحذير: لا تعرقلِي خططه. لا تلتقي بالفارس المقدس مجددًا. ابقي صامتة كالفأر.
إن أبديتِ أي تصرف يُفشل خططه، فسأخبره بنفسك أنك حاولتِ الهرب سرًّا.
وأنت تعرفين تمامًا أن شخصًا مثله لن يقف متفرجًا إن علم أن من يعرف أسراره يحاول الفرار من بين يديه.
لكن… إن تعاونتِ معنا، فسنهتم بخروجك من قصر ماككورت بسلام.
أنتِ لستِ من يليق بالسيد أصلًا.
من أين تسرّبت معلوماتي؟ وكيف لهذا الشخص أن يعرف أن سينييل هو نفسه كِيد؟ في القصة الأصلية… هل كان هناك أحد يعرف هوية كِيد؟
التعليقات لهذا الفصل " 31"