ساد صمت بارد.
قلبي أخذ يخفق بعنف.
وبينما كنتُ أنتظر صدور حكم الإعدام بحقي، سقط صوت منخفض ومتحجر من فوق رأسي.
“فليكن.”
“……أعطني فرصة أخرى فقط، ……ماذا؟”
رفعت رأسي الذي كان منحنيًا، فرأيت عيني كيد المتحفزتين.
كان وجهه يدل على انزعاجٍ شديد، وكأن شيئًا ما لم يرق له إطلاقًا.
“افعلي كما قلت.”
لم أفهم بالضبط ما الذي يقصده بــ”افعل كما قلت”.
أي جزء من كلماتي جعله يرد بهذه الطريقة؟
حاولت أن أستعيد ما قلته، لكن الخوف الذي كان أمامي جعل عقلي فارغًا لا يفكر في شيء.
ولم أستوعب إلا متأخرة أن هذا يعني أنه سيُبقي على حياتي.
عندها خرج من فمي صوت أحمق: “آه…”
“شكرًا، شكرًا جزيلاً! سأبذل جهدي حقًا، أعدك، سأ……”
“لكن بالمناسبة.”
فجأة جلس كيد أمامي القرفصاء.
كان على وجهه البارد ما يوحي بالرهبة.
“بسبب شخصٍ ما لم أنم طوال الليل، وجسدي كلّه متعبا.”
“……؟”
علمت فورًا أن هذا مجرد كذب منه ليضايقني، فسينييل لم يقل مثل هذا قط.
‘مرة أخرى… لماذا يفعل هذا؟’
“أظن أنه يجب أن آخذ ثمنًا مقابل ذلك.”
ثم ابتسم ابتسامة باهتة:
“أليس كذلك، يا زوجة سينييل؟”
“……ماذا علي أن أفعل……؟”
أمرني كيد بوجه خالٍ من التعبير:
“خذي المفتاح واتبعيني.”
كدت أن أسأله أي مفتاح؟، لكنني أدركت متأخرة ما يريده.
فنهضت بسرعة.
وبفضل ضوء القمر الساطع استطعت بسهولة العثور على المفتاح في درج الخزانة.
جلس كيد يراقبني بلا كلمة، وحين أمسكت المفتاح نهض هو الآخر ببطء.
ثم خرج من الغرفة بخطوات سريعة، فلم يكن أمامي سوى اللحاق به بصعوبة.
كان كيد واقفًا متكئًا على جدار باب غرفة البيانو، وذراعاه معقودتان وهو يحدّق بي.
“إن سقط المفتاح فأنتِ في عداد الموتى… المفتاح يعني الموت…”
أمسكت المفتاح الصغير بقوة وحاولت إدخاله في القفل بصعوبة، وبعد عدة محاولات، فتح الباب أخيرًا.
وقفت ممسكة الباب مفتوحًا كي يدخل أولاً، فدخل بخطواته الواسعة متعمدًا أن يغيظني.
جلس على الأريكة وأشار برأسه نحو البيانو.
جلست بسرعة على الكرسي وعدّلت جلستي.
كان يحدّق بي بثبات.
ابتسامته المعتادة الساخرة لم تكن موجودة، مما جعل خوفي يتضاعف.
وضعت يدي فوق مفاتيح البيانو، لكنني لم أجرؤ على العزف.
لقد قال أنه سيأخذ ثمنًا، وأنا أعرف أن كيد ليس من النوع الذي يرضى بعزف بسيط كثمن.
‘هل سيفعل شيئًا مرعبًا؟ كقطع إصبعٍ مع كل خطأ؟’
ارتجفت من هذه الفكرة، لكنها بدت منطقية جدًا.
لم يلقّب بـكيد عبثًا.
مع أنني أجيد العزف عادة، إلا أن رأسي صار فارغًا ولم أتذكر أي لحن.
كأن مفاتيح البيانو تهتز أمامي.
ضغطت أخيرًا على المفتاح الأول، لا أعلم لأي لحنٍ كان.
عزفت نغمات مبعثرة وفجأة توقفت لأنني لم أستطع تذكّر أي شيء آخر.
يدي المرتجفة بقيت على لوحة المفاتيح.
سمعت صوت تسك يخرج من بين شفتيه.
فارتجفت وتشنجت كتفاي.
“أهكذا كنتِ تعزفين لسينييل أيضًا؟”
*الغيووور*
“……لا، لا! سأ… سأعيد المحاولة.”
أعدت ضبط جلستي، لكن يديّ لم تتحركا.
‘تحركي بسرعة، بسرعة!’
“كفى. توقفي وتعالي إلى هنا.”
‘قريبًا منه؟ ليُفعل بي ماذا؟’
أدركت أنه من الأفضل أن أتحرك بسرعة لزيادة فرص نجاتي، لكن قدماي كانتا ملتصقتين بالأرض.
رمقني كيد بتأفف، ثم قال ببرود:
“لو كنتُ أريد قتلك لفعلت ذلك البارحة.”
…صحيح، لكنه لا يُطمئن.
اقتربت بخطوات مترددة ووقفت أمامه.
كنتُ أنظر إلى أسفل حيث يجلس، ومع ذلك لم أشعر بأي تفوّق.
أسند ذقنه على يده وحدّق بي بلا تعبير.
“أطعمتك الدواء بيدي، ومع ذلك لا تستطيعين فعل شيء.”
لم أستطع حتى الاعتذار.
عضضت باطن شفتيّ بقوة.
فكر قليلًا ثم قال:
“الثمن يعني أن تُعاد الأشياء كما أُخذت، أليس كذلك؟ لذا لا حاجة لأن أستبدله بشيء آخر.”
لم أفهم ما يقصده. ‘يُعاد؟ ماذا يعني؟’ شعرت بالقلق يتصاعد داخلي.
ثم ابتسم ابتسامة جانبية، وأشار إلى فخذيه.
“اجلسي.”
“……ماذا؟”
“قلتُ اجلسي.”
‘لا يعقل… يقصد بالثمن أن… أن أجلس هناك؟’
ترددت ولم أتحرك، فمد يده وأمسك بيدي بخفة وجذبني نحوه.
‘مجنونة…’
تجمد جسدي كالصخر، غير قادر بعد على استيعاب الموقف.
‘الآن، الآن أنا جالسة فوق…….’
شعرت بعضلة فخذه القاسية تحتي.
ومن خلفي كان ذراع الأريكة ويده التي جذبني بها.
لو تحركت قليلًا فقط لاصطدم وجهي مباشرةً بصدره.
صرخت صرخة مكتومة بلا صوت.
رمقني كيد بنظرة جانبية ثم أغلق عينيه بابتسامة ساخرة.
“ربتي.”
“ن-نعم؟”
“كم مرة يجب أن أكرر كلامي حتى تفهمي؟”
كان صوته يوحي بتهديدٍ مبطنٍ بأنني لو سألت مرة أخرى لقطع لساني.
فأفقت بسرعة ورفعت يدي آليًا.
لكن المشكلة أنني لم أعرف أين وكيف أربت.
كما فعل معي البارحة؟ على ظهري؟ لكن ظهره كان ملتصقًا بمسند الأريكة، فلم أستطع.
لم يبقَ سوى صدره أو كتفه. فترددت يدي حولهما دون أن أجرؤ على اللمس.
“لن تفعلي؟”
“سأفعل، سأفعل.”
وبيدٍ مرتجفة لمست كتفه وربتّ عليه بخفة شديدة، بالكاد كأنني ألمس زغبًا.
وبعد حوالي عشر مرات التقت عينانا، فانقبض حاجباه بامتعاض.
“أداء رديء للغاية.”
‘كيف كنت سأعرف إن لم أجرب؟’
“س-سأعيد… المحاولة.”
بدأت أربت أمام عينيه مباشرة.
هذه المرة لم يكن الخوف وحده ما يجعلني أتعرق، بل أيضًا الحيرة من غرابة ما أفعل.
ومع ذلك، حين ضبطت قوة الضغط بشكلٍ معقول، بدا وكأنه رضي فأغمض عينيه ثانية.
لكن مع استمرار التربيت ويدي مشدودة، بدأ الألم يسري في ذراعي.
أردت أن أسأله متى سيتوقف هذا.
وإذا كان يقصد بكلامه عن رد الدين بالمثل أن أظل أربت عليه حتى ينام، فربما سأموت أنا أولًا من الإرهاق.
‘لماذا يفعل هذا فوق الأريكة أصلًا؟ لا بد أنه غير مريح له أيضًا.’
صرت أتساءل بصدق.
صحيح أن كيد يتصرف دومًا خارج حدود المنطق، لكن إن كان يفعل هذا فقط ليسخر مني… فهذا مستوى آخر من العبث.
وهو يكره لمس الآخرين أصلًا، فربما هو نفسه نادم داخليًا على إجبار نفسه عليّ.
‘لكن لو كان منزعجًا فعلًا، لرماني بعيدًا منذ البداية.’
كنت أحاول أن أبعد جسدي عنه قدر الإمكان أثناء التربيت، لكنني وصلت لحدودي.
ذراعي ترتجف وشعرت بشدّ عضلي يقترب.
قبل قليل فقط كنتُ مستعدة لفعل أي شيء مقابل النجاة، لكن الآن ومع الألم الذي اجتاح جسدي، رغبت أن أُنهي هذا الموقف بأي طريقة.
“أم… أيها الوجود العظيم… ألا تشعر بعدم الراحة وأنت تنام هنا؟ وأنا ثقيلة، سيزداد الأمر إزعاجًا…”
تمتمت بضعف، ففتح كيد عينيه وأمال رأسه قليلًا.
“هل نذهب إلى السرير إذن؟”
تسربت قشعريرة باردة في جسدي.
لو قالها أي شخص آخر لظننتها نية خبيثة، ولسعيت لقطع رأسه على الفور.
لكن من فم كيد، بدت كأنها جملة تعني “سأرسلكِ للقاء أمك.”
“ل-لا! أعني… أقصد… أعتقد أنني أستطيع العزف الآن، نعم! أريد العودة للعزف على البيانو، هذا كل ما في الأمر…….”
“تريدين أن تتصرفي على هواكِ دون أن تدفعي الثمن؟”
“ل-لا أقصد ذلك، أقسم! أنا فقط… خفت أن أزعجك… أيها الوجود العظيم…”
ارتبكت وأنا أتكلم متلعثمة ومنكمشة على نفسي، وندمت فورًا أنني فتحت فمي أصلًا.
عندها حدق بي كيد وقال ببرود:
“ناديني كيد.”
“نعم؟”
ماذا؟ ماذا قال للتو؟
فتحت فمي بذهول، وتوقفت يدي عن التربيت.
حين سمعت اسمه شعرت كأن الدم جف من عروقي.
وبلا وعي رفعت يدي إلى عنقي وكأنني أدافع عنها.
ضاقت عيناه وهو يراقب رد فعلي.
“بدلًا من أن تُفاجئي، أول ما فعلتِ هو الارتجاف خوفًا… يبدو أنك كنتِ تعرفينه منذ وقت طويل.”
“……”
لم أستطع قول “لا” ولا “نعم”.
ارتسمت ابتسامة على شفتيه.
“كيف عرفتِ؟ هل أخبركِ سينييل؟ منذ متى؟”
كان صوته أكثر لينًا من ذي قبل، وهذا ما جعله أكثر رعبًا.
“أجيبي.”
شعرت أنني إن لم أتكلم فورًا فسيقشر جلدي وأنا حية.
“……م-منذ أسبوع… أخبرني سينييل… لكنه لم يكن قصدي أن… أن أقول لأي أحد… لم أفعل…”
ضحك كيد ضحكة قصيرة.
بدت وكأنها نابعة من سرور حقيقي.
“وأنتِ تعرفين حقيقتي منذ أسبوع، ومع ذلك تصرفتِ بجرأة هكذا… يا له من أمر يجعل قتلك مضيعة.”
“……”
“ولماذا لم تُبلغي عني؟”
“……ظننت أنه لن يكون هناك جدوى. و-ولن أفعل أبدًا، أبدًا، صدقني.”
“خيار ذكي جدًا. حتى لو أودعوني السجن فلن يجدي ذلك شيئًا.”
لا أعرف السبب، لكن بدا وكأنه مسرور.
كان غريبًا.
فقد ظننت دائمًا أنه لو علم أنني أعرف هويته لقتلني في الحال.
“زوجة سينييل الذكية. توقعت أنك ستهربين خلال أسبوع من معرفتك، لكنك لزمتِ الصمت.”
انقبض قلبي مترقبًا ما سيقوله تاليًا.
“أتُرَاني يجب أن أمدحك على هذا العمل الطيب؟”
تنفست بارتياح أخيرًا.
لكنني لم أجرؤ على الاطمئنان.
لم أعرف إن كانت كلماته مديحًا صادقًا، أم سخرية قاتلة بطريقته المعتادة.
كل ما استطعت فعله هو التشبث بأملٍ أن تحمل ابتسامته خبرًا جيدًا.
♤♧♤♧♤♧♤
التعليقات لهذا الفصل " 29"