هل كان بسبب ما رأيته من شأن إيزيت؟ شعرتُ أن قلبي قد أثقله الهم.
رغبتي في العيش لا تزال قائمة، لكن إن كان بالإمكان تحقيقها أم لا، فلا أدري.
كأن الأرض تبتلعني بلا نهاية.
بينما أحدّق بشرود في الثريا المعلّقة في سقف قاعة الطعام، التفتُّ إلى شخص هرع مسرعًا إلى الداخل.
كان يرتدي زيّ الكهنة، ربما أتى مباشرة بعد انتهاء عمله دون أن يمرّ على أي مكان آخر.
قال معتذرًا وهو يتنفس بقوة:
“لقد تأخرتُ، العمل انتهى متأخرًا… آسف. هل انتظرتِ طويلًا؟”
توقفتُ لحظة وأنا أحدّق في وجه سينييل.
‘…إنه يبتسم مجددًا’.
كانت مجرد ابتسامة تنمّ عن ارتياح، لكنها على أي حال ابتسامة.
الرجل الذي كان يشدّ شفتيه في البداية وهو يراقبني بحذر، صار الآن مثل جروٍ وديع.
غير أن رؤية السكينة المرتسمة على وجهه جعلتني أشعر بالخوف.
شعورٌ يشبه اللحظة التي تلقيتُ منه فيها هدية في المرة السابقة.
مستحيل أن يحدث، لكن ماذا لو… ماذا لو أظهر يومًا ما نحوي مشاعر تتجاوز حدود المودة؟
قلت بسرعة لأبدّد الارتباك:
“…لا. لقد جئتُ للتو.”
“آه، جيد إذن.”
ابتسامته اتسعت.
لم تكن ابتسامة قاتلة مثل كيد، بل ابتسامة تبعث الدفء حتى في قلب من يراها.
‘ربما فقط يشعر بالارتياح بجانبي… هذا كل ما في الأمر’.
هززتُ رأسي بخفة.
لا، لا يمكن أن يراني أكثر من مجرد صديقة… أو على الأكثر رفيقة نجت معه من كيد.
ربما صرتُ حساسة أكثر من اللازم، حتى إنني أخذت أبني أوهامًا على تغييرات صغيرة كهذه.
لو سمعني أصدقائي في كوريا لقالوا إني مصابة بجنون العظمة.
‘دعينا نتناول الطعام فحسب’.
كل هذه الحساسية لم تأتِ إلا بسبب خوفي من أن يُمسكني كيد متلبسة بشيء.
بدأتُ أقطع شريحة اللحم المتصاعد منها البخار وأضعها في فمي.
ورغم أنني اعتذرتُ صباحًا وحاولتُ تغيير الجو، بقي شعور الحاجز بيننا يخيّم على المائدة.
ولم يكن ذلك مني أنا، بل من طرف سينييل.
صحيح أنه اعتاد أن يراقبني بحذر مبالغ فيه، لكنه اليوم بدا الأمر أكثر وضوحًا.
ولم أستطع الاستمرار في الأكل بتجاهل كما في السابق.
هذه العلاقة ستطول، وليس هناك حاجة لأن أبقى متحفظة معه.
سألتُ وأنا أقطع اللحم:
“يبدو أنه كان لديك عملًا كثيرًا اليوم، أليس كذلك؟”
تفاجأ بعينيه الواسعتين، ربما لأنه لم يتوقع أن أبادر بالحديث.
لكنه سرعان ما عاد إلى طبيعته وأجاب بصوت ناعم:
“نعم. كنتُ أراجع الحواجز السحرية في معابد العاصمة وأصلح ما يلزم، فأخذ ذلك وقتًا طويلًا.”
‘آه… لا عجب أنه بدا مشغولًا’.
ثم خيّم الصمت من جديد على القاعة.
لكني لاحظتُ أنه لم يتوقف عن التحديق بي بين حين وآخر، كما لو كان يريد قول شيء لكنه عاجز عن النطق به.
تمامًا كجروٍ ينظر إلى صاحبه منتظرًا أن يفهمه.
لم أتحمل صمته أكثر فقلت:
“هل لديك ما تود قوله؟”
ارتجف يده قليلًا وكأنه تلقى توبيخًا، رغم أنني لم أرفع صوتي.
بدا مترددًا في الكلام.
تنهدتُ داخليًا وأخذتُ شوكة لألتقط بعض السلطة.
لكنه تلعثم قائلًا:
“…فيفي، ماذا فعلتِ اليوم؟”
اهتزت يدي بالشوكة، وتدحرجت حبة طماطم على الطبق.
كل هذا التردد والقلق… وفي النهاية سؤاله لا يتعدى ذلك؟!
قلت بلهجة ضاحكة قليلًا:
“لهذا السبب كنتَ تنظر إليّ هكذا؟ لتسألني سؤالًا كهذا؟”
غشي الحزن ملامحه مجددًا.
“خشيتُ أن يزعجك الأمر…”
شعرتُ أنه يشبه نبات المستحية الميموزا*، التي تنكمش من أدنى لمسة.
تلك الرقة جعلتني أتنفس الصعداء.
‘على الأقل لن أُقتل على يد كيد، بما أن سينييل قد أدى واجبه بنجاح’.
شخص رقيق مثله لا يمكن أن ينجذب إلى إنسانة حادة وصارمة مثلي.
ابتسمتُ وأنا أجيبه:
“عزفتُ قليلًا على البيانو، ثم خرجتُ في جولة إلى القرية المجاورة.”
تمتم دون صوت تقريبًا: “خرجتِ…؟” ثم صمت.
لكن من ملامحه أدركتُ أنه لا يزال يخفي أشياء كثيرة بداخله.
وضعتُ الشوكة جانبًا وأسندتُ وجهي إلى يدي، أحدّق فيه مباشرة.
“وأنت يا سينييل؟ أتحب الخروج؟ لم أرك يومًا تخرج إلا للعمل.”
رد بهدوء:
“أنا… أشعر بالراحة أكثر حين أبقى في البيت.”
‘كنت أنوي أن نقوم بجولة بعد العشاء… لكن يبدو أنه لا يفضل ذلك’.
قلت متصنعة الحيرة:
“لا تحب الخروج إذن… كنت أنوي أن أعرض عليك نزهة بعد الطعام. حسنًا… ما رأيك إذن بالحديقة؟ هل تكره ذلك أيضًا؟”
توقف سكينه فجأة، وعيناه اتسعتا وارتجفتا.
حملقتُ فيه بعزم: ‘حتى لو كرهتَ ذلك، سنخرج’.
خفض بصره سريعًا كأنه لا يريد أن أرى ملامحه.
هل يكره الأمر إلى هذه الدرجة؟ لكن لا مفر.
*أهرب يا سينييل! أنت مع انسانة توكسيك!!! اهرب!!*
“…حسنًا. لنذهب إلى الحديقة.”
“حتى إن لم ترغب، من الجيد أن نستمتع بالهواء قليلًا، صحيح؟”
“سأخرج معك.”
‘يبدو أنه كان لا يرغب فعلًا، لكنه وافق. ربما لمجرد أن لا يخالفني’.
ابتسمت وأنا أقول:
“إنه اختيار جيد.”
***
يا لها من أجواء رائعة! بالأمس كان المطر ينهال كما لو أن فجوة فُتِحت في السماء، أما الآن فقد غمر الأفق غروبٌ ورديّ بديع.
كنتُ أمشي بخفة في أرجاء الحديقة، بينما كان سينييل يتبعني بخطوات هادئة من الخلف.
وعندما استدرت، رأيتُه غارقًا في التفكير.
توقفتُ وأشرتُ إليه بيدي:
“لا تمشِ خلفي، تعال بجانبي.”
انتبه من شروده وردّ سريعًا: “آه!” ثم لحق بي ليكون إلى جانبي.
لكن ما أن وقعت عيناي على أحواض الزهور حتى شعرتُ بالحرج.
‘كان عليّ أن أقترح مكانًا آخر’.
بين الزهور المرتبة بعناية بدت بعض الفراغات كأنها أسنان مكسورة، حيث قُطفت السيقان بلا انتظام.
كانت تلك جرائمي السابقة… الزهور التي كنتُ أقطفها وأهديها إلى سينييل بلا تردد.
‘لقد اجتهدتُ فعلًا في قطف كل الأنواع…’.
ارتبكتُ قليلاً وحاولت أن أحجب نظره بجسدي.
لكن حين التقت عيناي بعينيه مباشرة، ازداد شعوري بالحرج فاستقمتُ من جديد.
لم يكن الإخفاء مجديًا على أي حال، فالزهور الناقصة هنا وهناك لا يمكن إخفاؤها.
قلت بتردد:
“آه… الحقيقة أنني… كنتُ كلما رأيتُ الزهور تذكرتُك، فصرت أقطفها… لكن لن أعيد الكرة بعد الآن.”
حككتُ وجهي بخجل.
عندها اتسعت عيناه دهشة ثم أسرع يهزّ رأسه.
“لم أكن أزور الحديقة أصلًا، ولم أهتم بها من قبل. يمكنك أن تفعلي ما تشائين.”
“حقًا؟”
‘إذن لن أشعر بالحرج’.
حينها استوقفني جمال زهرة شقائق النعمان* مزهرة بكامل ألوانها.
كدتُ أقطفها فورًا، لكنني ترددت لحظة، وألقيتُ نظرة على سينييل.
صحيح أنه قال “افعلي ما تشائين”، لكن شعرتُ أن الأمر قد يكون مبالغًا فيه…
‘إيه، لا بأس’.
لم أهدهِ اليوم أي زهرة، وكان يجب أن أعطيه شيئًا.
كنتُ أنوي شراء واحدة من الخارج، لكن بما أن الخطة تغيّرت، فهذا هو الحل الوحيد.
قلت له:
“انتظر قليلًا.”
تقدمتُ إلى زهرة شقائق النعمان واقتلعتُها بمهارة، ثم نفضتُ التراب عنها وأعطيتها له.
‘لو كنتُ مكانه، لكنتُ فقدتُ أي مودة’.
“ضعها في المزهرية اليوم.”
اتسعت عيناه بدهشة من جرأتي، فتهيأتُ لرفع كتفيّ وكأني أقول: “سواء أعجبك أم لا، الأمر انتهى.”
لكن بدلاً من ذلك، ابتسم بخفة وتناول الزهرة برفق.
“سأضعها في المزهرية بعناية.”
ظل يتأملها طويلًا، حاملاً إياها برقة تحت وهج الغروب.
كان مشهدًا أشبه بلوحة فنية مرسومة بإتقان.
حينها تسلّل إلى داخلي شعور غريب، كأني أعيش سلامًا مؤقتًا داخل لوحة بينما حياتي مهددة بالخطر في كل لحظة.
سألتُه فجأة، لأكسر هدوء اللحظة:
“…هل تحب الزهور؟”
ثم أشرتُ بعيني إلى العودة نحو البيت.
كان ما يزال يحدق بالزهرة حين أجاب وهو يخفض بصره:
“أظن ذلك.”
‘جواب غريب. “أظن”؟’.
“حتى أنك لا تعرف ما الذي تحبه حقًا؟”
لم يجب.
لم يُسمع سوى وقع أقدامنا فوق التراب والعشب.
حتى بعد وصولنا إلى القصر، لم أحصل على جواب.
وقفتُ أمام الدرج ولوّحتُ بيدي له.
“سأدخل.”
ارتجفت يداه الممسكتان بزهرة شقائق النعمان ، ثم أجاب متأخرًا:
“ادخلي بخير… فيفي.”
ابتسمتُ له بعيني وصعدتُ الدرج.
بعد الاستحمام، ارتديتُ أدوات الحماية وجلستُ على السرير بخشوع.
انتظرتُ كيد وأنا ساهرة، لكن حتى بعد منتصف الليل لم يأتِ.
‘ربما الليلة ليست موعدًا له…؟’.
لعقتُ شفتي الجافتين بأمل خفي.
ثم— طَق… طَق… ارتفعت أصوات الكعب في أرجاء القصر الصامت.
‘ها هو قد جاء’.
أغمضتُ عيني لوهلة، أتنفس بعمق، ثم نزلتُ من السرير.
عندما فُتح الباب، هويتُ أرضًا على ركبتيّ بقوة.
ارتطم جسدي بالسجادة.
“أ… الأمس كنتُ أنا المخطئة!”
كان حضوره المهيب كافيًا لبث الرعب، ومع جلوسي راكعة أمامه تضاعف الخوف أكثر.
“لـ… لكن، مع ذلك، أنا وسينييل حققنا تـ… تقدمًا كبيرًا اليوم!”
لم أجرؤ على فتح عيني وأنا أتوسل.
سمعتُ صوته فوق رأسي المنحني:
“هكذا؟”
أجبتُ مرتبكة:
“نـ… نعم! نعم! سينييل أظهر لي فراشة من قوته المقدسة! وقال أنه المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك! اليوم أيضًا، تجوّلنا معًا… نعم، خرجنا في نزهة! أرجوك سامحني على خطأ الأمس، وسأبذل جـ… جهدي أكثر، أعدك!”
لكن لم يصلني أي رد.
فتحتُ عيني قليلًا لأتفقد وجهه—
‘لقد وقعتُ في ورطة’.
كان يحدق بي من الأعلى بوجه أشد قسوة من أي وقت مضى، ونظرة متغطرسة تقطع أنفاسي.
♤♧♤♧♤♧♤
هذي زهرة شقائق النعمان أو الأنيمون
الميموزا نبات معمر يستجيب للمس وغيره من التحفيز عن طريق إغلاق أوراقه وتدليها بسرعة. موطنه أمريكا الجنوبية والوسطى ، يعتبر النبات عشبًا منتشرًا في المناطق الاستوائية.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 28"