‘أتمنى فقط أن أفقد وعيي.’
ربما كان موتي أمس بعد شرب السم سيكون أنفع لحياتي من هذه الفوضى.
لماذا أطاعني كيد؟
هل كان يعتني بي ليقتلني وأنا في كامل وعيي؟
فكرة منطقية إلى حدٍّ ما.
حاولت أن أبتعد بهدوء عن سينييل، وسحبت بحذر ذراعه الملتفة حول خصري.
عندها توقفت أنفاسه الهادئة المنتظمة.
رفعت بصري بارتباك، فرأيت وجه سينييل وقد استيقظ للتو.
“فيفي؟”
فتح عينيه، ونظر بين ذراعه الموضوعة عليّ وبيني، بدهشة بالغة.
خرج مني زفير طويل، محمّل باليأس. بعد كل الغضب الذي صببته عليه بالأمس، لم أتوقع أن ألتقيه مجددًا بهذا الشكل.
كأن العالم لا يريد أن يسير يومًا حسب إرادتي.
حبست تنهيدتي وألقيت عليه تحية خافتة:
“…… صباح الخير.”
الآن بعدما عدت إليّ رشدي، لم يعد بي رغبة في صبّ غضبي عليه.
أنا وهو سواء، كلانا يعاني بسبب كيد.
صحيح أني لا أزال غاضبة، لكن لم أعد أملك طاقة للغضب.
بل إنّ توجيه غضبي إليه لم يكن إلا ليزيد من شعوري بالذنب.
جلس سينييل مسرعًا، عيناه ترتجفان بتوتر، ثم غادر الفراش ووجهه مكسو بالذنب.
“…… آسف.”
نظر إليّ وكأنه يريد قول المزيد، لكنه أخذ يبتعد عني خطوة بعد خطوة.
عادةً ما كان سيغرقني بالأسئلة: ما الذي جرى؟ ولماذا كنت أبكي؟ لكن الغريب أنّه اليوم بدا بلا كلام ولا تعبير.
قال بصوت قصير، منخفض:
“سأذهب الآن.”
أمسك بمقبض الباب، وأنا أحدّق به فاغرة الفم.
عندها فهمت أن الإنسان قد يبكي دون دموع، لمجرّد أن ترى ذلك الضعف والتهشم في عينيه.
بدا كأنه على وشك الانكسار.
“انتظر، سينييل.”
ناديته دون أن أشعر.
نهضت من السرير لألحق به، لكن ساقي لم تحتمل فترنّحت.
“آه!”
أسرع سينييل بخوف، وأمسكني ليمنعني من السقوط.
ساعدني بذراعه ليثبّت جسدي.
“آه، شكرًا لك.”
وبينما كان يرفعني بحذر، لاحظ شيئًا غير عادي في حالتي.
عيناه اتسعتا، وأعاد النظر إليّ بسرعة.
“فيفي، لديك حُمّى……!”
“آه…… نعم. في الحقيقة، كنت مريضة البارحة.”
ارتسم الحزن مجددًا على وجهه.
بدا وكأنه يلوم نفسه لأنه لم ينتبه لمرضي، ومع ذلك ظهرت أيضًا لمحة خيبة أمل صغيرة لأنه لم أبحث عنه.
‘آه…… تذكرت، سينييل قال ذات مرة أن بإمكاني مناداته في أي وقت لو شعرت بتوعك.’
لم أقصد إيذاءه، لكنني فعلت دون أن أشعر.
ساد صمت ثقيل في الغرفة.
عضّ سينييل شفته ثم مدّ يده إليّ:
“دعيني أعالجك…….”
شعرت أنه سيعالجني ثم يهرب فورًا، فأمسكت بذراعه وغيّرت الموضوع:
“…… لحظة. ألن تسألني عما حدث الليلة الماضية؟”
ارتسمت على وجهه ملامح خيبة أمل عميقة، لكنه لم يجادلني ولم يضغط عليّ.
وبعد لحظة صمت، أجاب:
“…… لم أظن أن لي الحق في السؤال. فكرت أن خروجي بسرعة سيكون أفضل لك، فيفي…….”
‘يا له من قلب طيب…… ما العمل معه؟’
ربما حقًا ابتعاده عني أفضل، لكن رؤيته بهذا الانكسار جعل قلبي يؤلمني.
مددت يدي وأمسكت بيده.
لوهلة، اجتاحتني ذكريات الليلة الماضية، وكدت أرتجف لا إراديًا، لكنني تماسكت.
المستقبل الذي ينتظرني الليلة مخيف، لكن عزمت أن أستقبل مصيري بقدر من الكرامة، دون أن أؤذي الأبرياء.
‘نعم…… إن كان عليّ أن أغضب، فليكن غضبي موجّهًا لكيد، لا لسينييل الذي لا يملك إلا الحزن لعجزة.’
قلت بصوت خافت:
“آسفة عما جرى البارحة. كنت فقط حساسة أكثر من اللازم. لم يكن ينبغي لي أن أفرغ غضبي عليك، سينييل.”
اهتزّت عيناه، وبدت على وجهه ملامح تأنيب لنفسي، كأنه يقول لي: لا تقولي ذلك.
“لا…… الخطأ خطئي أنا.”
عادةً عندما يقول أحدهم “لا، خطئي أنا” أثناء الاعتذار يُفهم على أنه سخرية، لكنه كان اعترافًا صادقًا بالذنب بالنسبة لسينييل.
كدت أخبره أن الخطأ ليس خطأه، لكنني آثرت ألا أزيد ثقله النفسي، ووجدت طريقة أخرى:
“إذن فلنعتبر أن الخطأ خطؤنا معًا. ولنصالح بعضنا…… بالمصافحة.”
امتلأت عيناه بالدموع في لحظة، كاد ينهار ويبكي، لكنّه تماسك.
ومع ذلك، جعلني أرتجف خوفًا من شدّة تأثره.
مدّ يده ببطء، وأمسك بيدي.
“فيفي…… أنتِ متألقة جدًا، تجعلينني أشعر بالتفاهة. طيبة، ودافئة…….”
حين سمعت كلماته وخزني ضميري. فأنا لم أكن يومًا دافئة معه حقًا.
‘لكأنني لم أفعل سوى إصدار الأوامر.’
بل على العكس، لقد تصرفت بأنانية من أجل نجاتي فقط.
ابتسمت ابتسامة باهتة وأنا ألوّح بيده الممسكة بيدي.
“أنا لست شخصًا طيبًا إلى هذه الدرجة. في الحقيقة، أنانية جدًا. لذلك لا أُعامل أيّ أحد بدفء. أعتقد أن الطيب هو أنت يا سينييل.”
“لا، أنا…”
توقف سينييل عن الكلام في منتصف الجملة.
عاد الجو ليثقل مرة أخرى، لم يكن خجولًا بل كان يكره المديح بحد ذاته.
وفي النهاية، لتجنب هذا الحديث، غيّر الموضوع.
“……على أي حال، هل يمكنني طلب شيء واحد فقط؟ بما أننا تصالحنا، أود أن أعالجك.”
“حسنًا.”
وسط جو لا يزال غريبًا قليلًا، انبثق نور ساطع من يده.
وما أن امتصه جسدي حتى اختفت الدوخة والشعور بالثقل، وحل مكانهما نشاط وراحة غريبة.
لم أكن فقط بصحة جيدة، بل شعرت وكأنني في أفضل حالاتي.
حتى تلك المرة التي عزفت فيها على البيانو طوال اليوم وبقي جسدي بخير، كانت بفضل قوة سينييل المقدسة.
فتحت يدي وأغلقتها بدهشة صادقة.
“شكرًا لك. هذا مذهل ورائع في كل مرة أراه فيها.”
لو لم يكن الجو متوترًا، ولو كنت أقرب إليه قليلًا، لربما ألححت عليه أن يريني المزيد.
اكتفيت بالنظر سريعًا إلى يده ثم عدلت عن الفكرة وهززت رأسي.
لكن سينييل ظل يراقبني بهدوء، ثم سأل بتردد وخجل:
“……هل تريدين أن أريكِ المزيد؟”
كان وجهه في تلك اللحظة يحمل شيئًا أشبه بالعزيمة الجادة.
كان من المفترض أن أقول “لا” كإجابة ناضجة، لكن فضولي الطفولي ارتفع فجأة.
كنت أريد أن أرى المزيد.
وإذ بدا وكأنه استعد مسبقًا ليُريَني، شعرت أن رفضي سيكون وقاحة.
أومأت برأسي، فتنفس سينييل بعمق، ثم…
بدأت أضواء بيضاء صغيرة تظهر حولي واحدة تلو الأخرى.
“……واو.”
تحولت الأضواء إلى فراشات بيضاء، وبدأت أزهار بيضاء تتفتح على الأرض.
من قلب الغرفة ارتفع شجر أبيض حتى وصل إلى السقف، لتتحول الغرفة كلها إلى غابة مضيئة.
أوراق بيضاء تهاوت مثل بتلات الزهور.
أمسكت بإحداها فذابت في يدي وتلاشت.
وفي نشوة الموقف، تمتمت وأنا أحدّق في الشجرة:
“لم أكن أعلم أن القوة المقدسة يمكن أن تُستخدم هكذا. ما فائدة هذا بالضبط؟”
رمق سينييل ما صنعه بنظرة عابرة، ثم هز رأسه قليلًا.
“أظن أنه بلا فائدة. هذه أول مرة أستخدم فيها قوتي بهذه الطريقة. إنه مجرد منظر جمالي.”
مددت يدي نحو إحدى الفراشات البيضاء، فهبطت برفق على كفي.
نظر إليّ سينييل وسأل:
“……هل أعجبتكِ؟”
التفت نحوه.
كان ينتظر جوابي بوجه متوتر.
كيف يمكن ألا يعجبني وقد بذل جهدًا لإسعادي؟ لكن كلما عاملني بلطف، زاد شعوري بالذنب.
كأنني سرقت منه البطلة المقدرّة له… وأفسدت مستقبله المشرق.
“……أعجبني كثيرًا. كانت تجربة رائعة. شكرًا لك. يكفي هذا الآن.”
عندها فقط، ارتخت ملامحه المشدودة.
“لحسن الحظ.”
ابتسم براحة حقيقية، وبدأت الغابة المضيئة تتلاشى شيئًا فشيئًا.
لكن رؤية وجهه المشرق جعلتني أشعر بتناقض شديد؛ أكرهه وأشفق عليه، وأتمنى له السعادة، لكن أشعر أنني أنا من دمرت مستقبله.
“ألا يجب أن تذهب الآن؟ أظن أن الوقت تأخر كثيرًا.”
“آه…….”
تفاجأ وكأنه نسي تمامًا الوقت، فألقى نظرة على ساعته.
كانت السابعة صباحًا قد مرّت بالفعل.
حتى لو استعد الآن فسوف يتأخر.
ومع ذلك لم يغادر، بل ظل ينظر إليّ كجرو مريض.
سألته بنظراتي إن كان يريد قول شيء، فقال بخجل:
“فيفي، ماذا عن هذا المساء…… ماذا سنفعل؟”
ماذا أفعل؟ لم أقرر بعد.
فبسبب خطايا البارحة قد أموت الليلة، وبالتالي لن يكون للعشاء أي معنى.
لكن من الأفضل أن أحتاط.
بالأمس كنت يائسة تمامًا، أستسلم للموت.
أما الآن، بعد أن تعافيت، بدأ في داخلي بصيص من الرغبة في النجاة.
“لنلتقِ في المطعم هذا المساء. سأكون بانتظارك.”
“……نعم!”
ما أن أنهيت كلامي حتى أضاء وجه سينييل بابتسامة نقية.
عيناه المبتسمتان على شكل هلال جذبتا نظري لدرجة أني لم أستطع صرفه عنه.
“إذن، أراكِ مساءً يا فيفي. سأعود لاحقًا.”
ابتسم سينييل. وكان لتلك الابتسامة وقع الصاعقة في قلبي.
بقيت أحدّق في مكانه الفارغ طويلًا بعد خروجه.
***
“قلتُ أنه من الأفضل أن أؤمّن نفسي، لكن كيف؟”
تمدّدت على الأريكة أحاول أن أفكر في خطة، لكن لم أجد أي حل.
لا أستطيع ركوب السفن، ولا يمكنني الخروج إلى البر، وحتى لو اختبأت داخل الإمبراطورية فالمعابد منتشرة بكثرة، وسيكون احتمال اكتشافه لمكاني كبيرًا.
في الحقيقة، قبل أن أفكر في أي خطة للهروب، عليّ أن أضع بالحسبان أن احتمال موتي اليوم هو الاحتمال الأكبر.
كيف ارتكبت ذلك الخطأ ورأيت كيد كأمي؟
صحيح أنني كنت متعبة، لكن لم أكن لدرجة أن أخلط بين الأشخاص.
*بسبب المهلوسات *
……على أي حال، التفكير في ما حدث لن يغير شيئًا.
وهكذا تحولتُ في ليلة واحدة إلى شخص بلا خطط، بلا شيء يفعله، أحدّق في الجدار بفراغ وإحباط.
في السابق، أي قبيل قدومي إلى هذا العالم ، كان أكثر ما تمنيت فعله هو عزف البيانو، وبقي ذلك حسرة في قلبي.
ربما لهذا السبب وجدت نفسي الآن متجهة إلى غرفة البيانو.
مَن ذاق طعم الحرمان يعرف أكثر من غيره ماذا يجب أن يفعل قبل النهاية ليقلل من الندم.
إنها ميزة التجسد في رواية.
في هذه الحياة، سأعزف البيانو قدر ما أريد قبل أن أرحل.
بل وربما، على الطريق، أصفع كيد أيضًا قبل موتي.
وما زلت أندم أنني لم أحرق بيت عمي بعد، لذا ربما عليّ التفكير في ذلك كذلك.
جلست أمام البيانو، وأخذت نفسًا عميقًا.
تركت يدي تختار أي لحن يخطر في بالي، فظهر في ذهني البالاد الأولى لشوبان.
يُقال إن بالادات شوبان استُلهمت من قصيدة غوته «ملك العفاريت».
حيث يحاول الملك الشيطاني أن يخطف طفلًا، فيما يركض الأب على صهوة جواده ليحميه.
ربما خطرت لي هذه القطعة لأن وضعي الآن يشبه ذلك كثيرًا.
أساتذتي الذين اعتادوا نطق شوبان على أنه شوبانغ، هل أنتم بخير الآن؟
أنا، تلميذتكم المخلصة، أشعر اليوم أنني أفهم الطفل الهارب أكثر من أي وقت مضى، بل كأني أصبحت ذلك الطفل.
الاندماج مع الموسيقى، يبدو أنه ليس صعبًا كما كنت أظن.
عيناي ترقرقتا بالدموع كأن رذاذًا خفيفًا قد أصابهما.
أخذت نفسًا عميقًا، وضبطت جلستي لأضغط أول مفتاح.
المقدمة تبدأ بتوحيد اليدين على النغمة نفسها، وكأنها تروي شعر غوته بصوتٍ موسيقي.
“من هذا الذي يمتطي جواده في هذا الليل العاصف؟”
“…….”
فجأة، انفجرت الدموع من عينيّ. ارتبكت.
كنت أظن أنني تصالحت مع فكرة الموت وقبلتها، لكن المشاعر غلبتني واندفعت أحزاني.
أشتاق إلى أمي.
بالأمس، رغم أنه كان مجرد وهم، رأيتُ كيد وكأنه أمي، ولو للحظة.
مددت يدي لأضغط على النغمة التالية، لكن الدموع استمرت تتساقط على مفاتيح البيانو.
أريد أن أعيش.
صحيح أنني أشتاق إلى أمي، لكن لا أريد أن ألقاها بهذه الطريقة، عبر الموت.
الغضب من نفسي التي تنتظر الموت جعلني أبكي أكثر أمام هذه الحقيقة القاسية.
أريد أن أعيش.
إن فكرت فيم يريده والدايّ مني الآن لو كانا على قيد الحياة، فواجب عليّ أن أعيش بكل قوتي، أن أكون شجاعة، وألا أجعلهم يحزنون بسببي.
في كوريا، متُّ قبل أن أبلغ العشرين من عمري.
لم أجرب أشياء كثيرة بعد.
لا أريد أن أموت مجددًا.
أتذكر كم بكيتُ ندمًا حين تلقيت تشخيص السرطان، وكم تمنيت لو مُنحتُ فرصة أخرى.
كنت قد أقسمت أن أتمسك بها لو أُعطيت لي.
لا، لن أستسلم هذه المرة.
بهذا الجسد السليم، يجب أن أعيش، مهما كلف الأمر.
♤♧♤♧♤♧♤
التعليقات لهذا الفصل " 26"