عيناه المتوترتان، وكأنهما على وشك الانكسار، انقبضتا قليلًا، ثم ما لبثتا أن انفتحتا بحدة.
ذلك الحضور الخافت الذي يشبه القمر، تحول فجأة إلى وضوح لاهب أشبه بالشمس.
نهض كيد، وما أن استيقظ حتى مرر يده بين خصلات شعره المبعثرة.
ثم كعادته، نظر إلى المزهرية.
التوليب، الفريزيا، الرانونكولوس، والأنيمون.*
*حطيت صورهم كلهم بنهاية الفصل
‘لا شيء جديد.’
مدّ يده ليمسح بلطف على بتلات الأنيمون، آخر زهرة أُضيفت.
“قلتِ أنكِ ستُثبتين كلامك بالفعل، لا بالقول فقط…”
ورغم أن الزهور بقيت على حالها مثل الأمس، لم يشعر بالسوء كما ظن.
لم يعرف السبب.
بل كان ينبغي أن يثير الأمر غضبه.
تساءل مع نفسه، لكنه لم يجد إجابة.
لم يكن يومًا قادرًا على شرح مشاعره، فترك الأمر يمضي كعادته.
وقبل أن يغادر الغرفة، خطرت بباله فكرة: ربما عدم ظهور زهرة جديدة يعني أنها قد هربت بالفعل.
امتزج شعوره المتحمس فجأة بضيق خانق.
‘لقد حذرتُها بوضوح، ومع ذلك تختار أن تفعل هذا؟’
وبينما يدخل المبنى الرئيسي، تساءل مجددًا عن سبب ضيقه.
‘حتى لو هربت، يكفي أن أمسك بها من جديد. فلماذا يثيرني هذا الغضب؟’
لم يكن هناك داعٍ للغضب أصلًا.
فكيد كان معتادًا على ترك الفريسة تهرب، مثل قط يلعب مع فأره؛ يمسكها، ثم يتركها، ثم يعيد الكرة، ليتلذذ بتلك اللحظة التي ينهار فيها الأمل من وجه الضحية تمامًا.
لكن بالأمس، حين لمح أنها قد تحاول الهرب، انتابه شعور غير مألوف، ضيق صاعد من قدميه حتى صدره.
لدرجة أنه بنفسه فتّش غرفتها، عملٌ تافه لم يكن يليق به.
لكنها لم تكن تخطط للهروب فعلًا.
إذًا، لماذا ابتسمت له حينها؟
تبريرها الوحيد كان أنها فرحت بهدية سينييل، وكأن ابتسامتها تخصه كما تخص سينييل.
‘هل تجرؤ… أن تراني مثله؟ أن تضعني في كفة واحدة معه؟’
غلى صدره غضبًا.
كان ينبغي أن ترتجف وتخاف من قاتل مثله، لا أن تبتهج كما لو كان شخصًا عاديًا.
وبالرغم أنه لم يعد هناك سبب للبقاء، أصر على مكوثه بحجة المراقبة.
تخيلها وهي تحاول النوم بعينين مغمضتين عمدًا، فمرر يده بعصبية على شعره.
كان بإمكانه أن يذهب ويُحطم كل شيء كما اعتاد، فما الذي يجعله هذه المرة متوترًا على غير عادته؟
أدرك أنه في الآونة الأخيرة بات يفعل أمورًا لا يفهمها.
ومع ذلك لم يرغب في كبح نفسه.
فهو دومًا اعتاد أن يفعل ما يريد، فقط لأنه يريد.
‘المرء حين يفعل ما يشاء، يفترض أن يكون راضيًا وسعيدًا… لكنني اليوم لست كذلك. لماذا؟’
رغم أن طبيعته تكره التحليل، وجد نفسه يتساءل.
ثم اختصر الأمر بخلاصة سطحية:
‘لأنها تملك موهبة. تُثير سينييل، وتعزف البيانو… لابد أن هذا هو السبب.’
وبهذا التفسير الساذج، دفع الباب ودخل غرفتها.
***
ما أن دخل كيد الغرفة حتى نسي أن يشعل المصباح، وأخذ يبحث بعينيه عن فيفي.
لم يرها، بل لمح فقط اللحاف المرتفع على السرير.
ضاقت عيناه، متشككًا عما إن كان هذا مجرد خداع منها لتتمكن من الهرب.
خطواته الثقيلة دوّت على الأرض، كل واحدة تهز الغرفة.
وحين اقترب، أدرك أن ثمة أنفاسًا متقطعة وحركة خفيفة تحت اللحاف.
كانت هناك، بالفعل.
فارتخت ملامحه قليلًا، تغير يكاد لا يُرى.
ارتسمت ابتسامة باهتة على فمه.
زال من ذهنه التفكير في مطاردة، وحلّ مكانه ذكرى المزهرية.
“انتهى لعبك بالزهور إذن؟”
لم يأتِ أي جواب.
وفي الظروف العادية كان ليعيد السؤال ليستمتع برد فعلها.
لكن صبره كان قد نفد، فرفع اللحاف بعنف.
تجمدت ابتسامته.
كانت فيفي متكوّرة على نفسها، تنظر إليه بعينين دامعتين، وجهها ملطخ بآثار بكاء طويل.
وحين التقت عيناهما، أغمضت جفنيها من جديد، غير قادرة على الاحتمال.
كانت حالتها أسوأ من أن تنام، ومع ذلك حاولت عبثًا، إلى أن انهارت حين سمعت خطواته تقترب، فانفجرت في بكاء صامت.
تفاجأ كيد بالمشهد، وتوقف لحظة، ثم بدأ غضبه القديم يتصاعد مجددًا.
بالأمس كانت تستقبله بابتسامة، أما الآن فترتجف كما لو كان على وشك قتلها.
كان يعرف أن خوفها مبرر، فهو يهددها يوميًا بالموت.
لكن كما لم يفهم مشاعره تجاه ابتسامتها، لم يفهم الآن لماذا يغلي من مجرد دموعها.
أدار وجهه نحوها، وقال بصوت منخفض يقطر بالحدّة:
“لِماذا تبكين؟”
كادت فيفي أن تقول: “لأنني أخاف أن تقتلني.” شعرت أن قولها ذلك سيكون مريحًا، حتى لو انتهى بها إلى الموت.
لكن حدسًا مظلمًا أخبرها أن هذا سيجعله يقتلها ببطء وعذاب، فابتلعت الحقيقة.
“أنا… مريضة.”
لم يكن هذا كذبًا كاملًا.
رأسها كان يدور، جسدها يوجعها كأن أحدهم يضربها بعنف، ولم تعد تملك حتى القدرة على الوقوف.
أمام جوابها، خفتّت نار غضبه قليلًا.
بدأ كيد يضع يده بلا وعي على جبينها المتصبب عرقًا من الحمى.
فارتجفت فيفي فجأة وابتعدت غريزيًا عن يده.
كانت عيناها مغمضتين، لكن بمجرد أن شعرت بحرارة جسده تقترب وظله يحجب نورها، سارعت لتغطي وجهها بذراعها.
مثل حيوان عشبي مريض، كانت فيفي ترتعش محاولة حماية جسدها الواهن.
غير أن كيد لم يمد يده قسرًا، بل قرر أن يشرح لها أولًا بلطف غير معتاد:
التعليقات لهذا الفصل " 24"