لم أتناول شيئًا يُذكر منذ الصباح، ولم أدرك ذلك إلا الآن.
لكن العربة ما زالت تسير في منتصف الطريق.
أخرجتُ بعض اللحم المقدد من حقيبتي.
وبما أن كل ما معي لم تعد له فائدة ترجى، أخرجت أيضًا المكسرات والفواكه المجففة.
قدمت الطعام إلى رونان، أو بالأصح من اعتقدت أنه إيزيت سابقا.
شعرت بالذنب متأخرًا حين تذكرت أنه لم يتناول الغداء بسببي.
قلت وأنا أمد إليه الطعام:
“كُل.”
“لا بأس.”
رفضه المعتاد لم يفاجئني، فأجبرته بأن وضعت في يده اللحم المقدد والمشروب.
“على أي حال، هذه الأشياء لم يعد لها أي نفع. من الهدر أن أرميها، فلنأكلها معًا.”
مزقتُ قطعة من اللحم بأسناني.
كان طعمه مالحًا ولذيذًا، لكن ذلك جعلني أشعر بحزنٍ أكبر.
كنت أريد أن أتذوقه على متن السفينة، لا هنا.
قلتُ معتذرة:
“آسفة على ما حصل اليوم. ضيعت وقتك فقط.”
“لا بأس. لم يكن لدي ما أفعله اليوم.”
لكن معدتي بقيت فارغة رغم الأكل.
“هذا على الأقل يُطمئن.”
مضغتُ اللحم وأنا أحدق من النافذة.
لم أنتبه متى عاد المطر للانهمار، لكن القطرات أخذت تضرب الزجاج “طقطق طقطق”، تاركة آثارًا طويلة خلفها.
قال رونان:
“سأفكر في طريقة ما لمغادرة البلاد.”
“شكرًا… لكنني سأبحث بنفسي.”
إن لم تكن إيزيت، فلن يكون لرونان نفع كبير.
لقد كنت أردد دائمًا أنني سأفعل أي شيء لأعيش، لكن أن لا يكون البطلة؟ كيف يمكنني تصحيح خططي الآن؟
امتلأتُ غضبًا من هذا الوضع العبثي.
‘هل هو ليس البطلة حقًا؟’
ما زلت أتشبث بأملٍ ضعيف.
إن لم يكن البطلة… فكيف سأهرب إذن؟
تنهدتُ.
حتى لو كان رونان هو البطلة إيزيت، فلن يكون من السهل حل هذه المعضلة.
قال:
“العمل معًا أفضل من أن تكوني وحدك.”
كان مُصرًا على مساعدتي.
ونظرته الجادة جعلتني أعتقد أنه لا يقول ذلك لمجرد مواساتي.
‘ربما بسبب المال الذي أعطيته إياه؟’
فقلت:
“لقد قلتَ أنك سترد لي المال، أليس كذلك؟ لا حاجة لذلك. اعتبره لك.”
أردت أن نمحو أي شعور بالدَّين بيننا.
لكن رونان عَبَس قليلًا، وكأن الفكرة لم تخطر بباله أصلًا.
“لم أساعدك من أجل المال. وسأردّ ما أستطيع قبل أن تغادري. أريد مساعدتك بعيدًا عن مسألة المال.”
‘مساعدته لي أمر أمتن له، لكن كيف سيرد ذلك المال أصلًا؟’
لو حَسبتُه بمالنا الحقيقي، لكان يعادل عشرات الملايين من الوون.
وأنا سأرحل سريعًا، فمن أين له أن يأتي به في هذا الوقت القصير؟
ثم إنه لم يكن مالي أنا. كان مال سينييل… أي كيد.
ولم أشعر بالذنب لإنفاقه أصلًا.
فقط ما يوجد في القصر وحده يساوي مئات المليارات، وثروته كاملة تبلغ آلاف المليارات.
فما قيمة بضع عشرات من المليارات؟
‘ثم إنه كان ثمن حياتي.’
ولماذا أقلق على أموال شخص يهدد حياتي؟
شعرت ببعض الوخز من تأنيب الضمير تجاه سينييل، لكنني كنت واثقة من أنه سيتفهم.
في النهاية، أومأت موافقة لرغبة رونان في المساعدة.
“افعل ما تشاء.”
‘لا أعلم كم سأعيش بعد اليوم.’
فكرتُ أن أطلب من رونان أن يحميني، لكن… بصدق؟
لم أعتقد أنه قادر على هزيمة كيد.
صحيح أن جسده مليء بالعضلات المشدودة، لكنه ليس بتلك القوة الأسطورية.
مواجهة كيد ستكون خاسرة منذ البداية.
‘أفضل أن أموت وحدي على أن أجرّ غيري إلى الهلاك.’
أصابني صداع شديد.
***
وصلت العربة إلى محطة التأجير.
بما أن رونان يعيش في هذا الحي تقريبًا—كما فهمت من عنوانه السابق—فقد كان يكفي أن أنزله هنا، ثم أستقل عربة أخرى إلى قصر سينييل.
‘لو ذهبتُ مباشرة إلى القصر معه، سينتشر كلام لا أريده.’
كشائعات من نوع: “زوجة الكاردينال ذهبت إلى الميناء ثم عادت”، أو “زوجة الكاردينال على علاقة سرية مع فارس مقدس.”
لم أُرد شيئًا من هذا.
قبل أن تتوقف العربة، التفت إليّ رونان مترددًا وقال:
“لدي سؤال.”
“تفضل.”
“لماذا تحاولين الهرب خارج البلاد؟”
استغربت من أنه يسأل الآن فقط.
من يراقب حياتي سيراني امرأة تملك كل شيء:
زواج من كاردينال وسيم وهادئ، وإن لم يكن الزواج، فأسرتي أصلًا من العائلات المرموقة.
فما حاجتي إلى أن أهرب سرًا خارج البلاد؟
حيت لم أجب سريعًا، أعاد سؤاله بصوت أكثر حذرًا وتفصيلًا:
“هل حدث شيء بينك وبين السيد الكاردينال ؟”
راجعت ذاكرتي سريعًا… لم أخبره شيئًا عن كيد. ولا حتى كلمة.
“لا. لا مشكلة.”
لم أعد راغبة في قول الحقيقة لرونان.
لا بطلة، ولا هروب، ولا شيء.
لكن رونان لم يقتنع، وأمال رأسه بخفة.
“… لقد رأيتُ—من غير قصد—تعبيرك القَلِق في حفل الزواج، وكذلك محاولتك للهرب. هل لهذا علاقة؟”
‘كان هناك وقتها، ولم يُصلِّ إذن!’
تسمرتُ للحظة: هل هناك آخرون رأوا ذلك أيضًا؟
لكنني هززت رأسي بسرعة نافية.
ابتسمتُ ابتسامة مُرة وقلت:
“فقط… أريد أن أعيش. هذا كل شيء.”
“لا أفهم―”
صرّت العربة فجأة وتوقفت.
فُتح الباب.
لم أنتظر شرحه، بل خرجت أولًا من العربة.
***
ذهبتُ إلى موقف عربات آخر وركبت عربة.
وما أن عدتُ إلى القصر حتى أسرعتُ مباشرةً إلى غرفتي.
اكتشفتني الوصيفة فشهقت مذعورة:
“يا إلهي، سيدتي! ماذا حدث حتى صارت ثيابك على هذه الحال…!”
فقد ابتلت أطراف ثوبي بالوحل من كثرة الركض، أما شعري فكان قد جفّ أغلبه، لكنه ما زال في حالة مزرية.
قالت مسرعة:
“سأملأ لك حوض الاستحمام حالًا!”
لم أكن أطيق أن أستلقي على السرير بهذا الشكل، لذلك جلستُ على الأريكة.
وبعد أن أخبرتني الوصيفة أن ماء الحمام قد امتلأ، دخلتُ للاستحمام ثم غيّرتُ ملابسي.
ترددت قليلًا إن كان عليّ ارتداء أدوات الحماية، ثم رميتها جانبًا.
فما الفائدة منها؟
لم يعد هناك أمل كبير في النجاة، وارتداؤها لن يزيد الأمر إلا إزعاجًا.
زحفت بتثاقل إلى السرير.
رأسي كان يثقل عليّ وكأنني سأسقط.
ربما الحمى اشتعلت بي من شدة التوتر.
زد على ذلك أنني تبللت تحت المطر الغزير، فلابد أن نزلة برد قاسية تنتظرني.
ارتجف جسدي من البرد.
غطيتُ نفسي باللحاف حتى الرأس، لكني ما زلت أرتجف.
رأسي ملتهب، بينما جسدي بارد كالثلج.
‘يا لَها من حالٍ بائسة’.
أغمضتُ عينيّ.
بسبب الحمى، ظللت أغفو وأستيقظ مرارًا.
وبينما كنت أغرق مجددًا في النوم، دوّى صوت طرقات على الباب.
طرق بدا متوترًا وملحًا.
“فيفي، هذا أنا.”
آه… لعل ساعة العشاء قد حلّت.
لم أنتبه للوقت من شدة الإعياء.
نظري كان ضبابيًا من حرارة جسدي.
كدت أن أقول له ادخل، لكنني أمسكت لساني.
لم أرغب في رؤية سينييل الآن.
وبما أن الغرفة لم يصدر منها أي صوت، تكلم بصوت يملؤه القلق:
“انتظرتُ طويلًا ولم تأتي، فقلقت وجئت لأطمئن. أيمكنني الدخول ولو قليلًا؟”
ما أن سمعت كلماته حتى خفق رأسي من الألم.
جمعت ما بقي لي من قوة كي أنطق:
“لا… لا تدخل.”
توقف سينييل مرتبكًا.
وواصلتُ أنا بصوت متعب:
“لن تكون هناك وجبة عشاء الليلة. عد من حيث أتيت.”
“لكن…”
“لا بأس. اذهب.”
لم أسمع صوت خطوات مغادرة.
وبعد دقائق طويلة، سمعت أخيرًا وقع أقدام تبتعد تدريجيًا.
عدتُ لأتكوّر تحت اللحاف، ورأسي يكاد ينفجر من الصداع.
***
ظل سينييل واقفًا أمام الباب زمنًا طويلًا، ثم اضطر أخيرًا للعودة إلى غرفته.
صدره يعتصره الألم وقلبه يخفق بوجع.
حين استيقظ صباحًا ورأى فيفي بجواره، كاد أن يفقد وعيه من الصدمة.
الغرفة كانت في حالة فوضى، وكأن شيئًا قد حدث ليلًا.
تجمد الدم في عروقه.
لقد كان الأمر أكثر صدمة حتى من تلك المرة التي استفاق فيها بغرفة البيانو.
أحس حينها بأن قلبه قد توقف عن الخفقان.
التفت سريعًا، فإذا بها نائمة بجانبه، تتنفس بسلام.
وما أن فتحت عينيها ورأته، حتى بدت عليها علامات الضيق والانزعاج بوضوح.
سألها عما حدث، لكنها لم تُجبه سوى بأجوبة غامضة لم يستطع فهمها.
ثم طردته من الغرفة ببرود.
ومنذ ذلك الوقت، لم يستطع التركيز في عمله قط.
ظلّت صورة الغرفة المبعثرة ووجهها الخالي من أي إصابة حاضرة في ذهنه طوال اليوم.
حاول أن يسترجع ما حدث في الليلة الماضية، لكنه لم يتذكر شيئًا.
لم يكن أمامه سوى أن ينتظر حلول المساء، عسى أن يجد عندها تفسيرًا، أو أي كلمة تهدئ قلقه.
عند وصوله القصر، لم يبدل حتى ثيابه.
أسرع مباشرةً إلى قاعة الطعام.
كان قبل أيام فقط يسمع عزف البيانو في كل أرجاء القصر، أما الآن فقد خيّم الصمت.
ورغم أنه لم يسمع عزفها سوى ليومين، بدت الأجواء الصامتة غريبة ووحيدة.
انتظر ساعة كاملة في قاعة الطعام، لكن فيفي لم تأتِ.
علم من الوصيفة أنها خرجت اليوم وعادت في حالٍ يُرثى لها، ولم تخرج بعدها مطلقًا، ما يعني أنها في القصر لا شك.
حينها لم يتمالك نفسه، وهرع إلى غرفتها بخطوات لاهثة، شاحب الوجه، تتملكه فكرة مخيفة أن مكروهًا قد أصابها.
طرق الباب بعجلة:
“فيفي، هذا أنا.”
لم يأتِه رد.
كاد يفتح الباب بالقوة، لكن تردد.
كان يدرك أنها غاضبة ومجروحة منذ الصباح.
أخذ نفسًا عميقًا وقال بقلق:
“انتظرتُ ولم تأتي، فخشيت أن مكروهًا قد أصابك. أيمكنني الدخول قليلًا؟”
فأجابته بصوت مبحوح ضعيف:
“لا… لا تدخل.”
تجمد مكانه.
بدا صوتها متهالكًا وكأنها مريضة.
أراد أن يسأل إن كانت بخير.
أراد أن يعتذر عن كل شيء.
لكن لسانه انعقد.
كان يعرف أن الاعتذار الفارغ لن يُجدي، بل سيزيدها ألمًا.
“لن تكون هناك وجبة عشاء. عد إلى غرفتك.”
“لكن…”
“لا بأس… اذهب.”
وقف سينييل عند الباب عاجزًا.
أحس أنه تافه إلى حد الجنون.
والأسوأ من عجزه، أنه لم يستطع أن يقول لها كلمة مواساة واحدة، أو يسأل عن حالها، أو يقدم لها أي عزاء.
شخص غريب عنها تمامًا ربما استطاع أن يفعل ذلك، لكنه هو… لم يكن له الحق.
لم يكن يملك أي مؤهلات ليقترب منها أكثر.
في تلك اللحظة، شعر أن بينه وبينها فجوة لا تُردم.
لم يحتقر نفسه يومًا بقدر ما فعل الآن.
عاد إلى غرفته.
في المزهرية لم يبق سوى أزهار الأمس، ذابلة وحيدة.
لم يكن يفترض أن يشعر بالفراغ، ومع ذلك أحسّ بفراغ قاتل.
كان يعرف أن فيفي لم تُعطه الزهور إلا بسبب كيد، ومع ذلك لم يستطع أن يمنع قلبه من الشعور بالوحشة.
وكلما ازداد ذلك الفراغ، ازداد الألم في صدره.
شعر أنه بغيض ومقزز إلى حدٍ لا يُطاق.
♤♧♤♧♤♧♤
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 23"