استيقظتُ هذه المرة أسرع، وكأنني لم أغرق في النوم كما في الأمس.
هل أصبح الصباح بالفعل؟
أردتُ أن أعرف الوقت لكن لم يكن لدي ساعة.
حتى ساعة الطاولة التي كنتُ قد وضعتها فوق البيانو بالأمس أعدتُها إلى الغرفة، فلم يبقَ أمامي سوى النظر من النافذة وتقدير الوقت.
بما أن الشمس بدأت تشرق، فلا بد أن الساعة تجاوزت السادسة.
فركتُ خصري وأدرتُ رقبتي بحركة دائرية.
على الرغم من أنني قضيتُ الأمس كله أعزف على البيانو، ثم نمتُ جالسة على الكرسي، شعرتُ بانتعاش غريب.
لماذا؟ كيف أشعر بالراحة هكذا؟
آه… صحيح. سينييل قال أنه استخدم قوّة مقدّسة وهو يوقظني أمس.
ربما ما زال مفعولها قائمًا.
لو كان الأمر هكذا، فهو حقًا أفضل منشّط طبيعي للبشر.
أدرتُ جسدي وأنا ما زلتُ جالسة على كرسي البيانو، وحدّقتُ في سينييل.
وجهه وقد لامسته خيوط الفجر بدا هادئًا ومضيئًا.
وهو نائم لم يظهر على ملامحه أي أثر للحزن.
لو لم يكن هناك تجارب ولا شيء آخر، لظلّ يحتفظ بهذا الوجه المسالم دائمًا.
وضعتُ ذراعي على طرف البيانو وأسندتُ ذقني عليها.
ربما شعر بنظراتي، إذ انقبض جبينه قليلًا.
سرعان ما ارتعشت رموشه الطويلة، ثم فتح عينيه ببطء.
رمش وهو يحدّق في وجهي للحظة، ثم أطرق رأسه متأملًا جسده، وبعدها رفع عينيه نحوي باستغراب.
“صباح الخير يا سينييل.”
“…ما الذي… كيف حدث هذا؟”
نهض سينييل من على الأريكة.
كان ثوبه ممتلئًا بالتجاعيد من النوم ليلًا جالسًا.
“يبدو أن عزفي أعجب كيد. كالعادة بدأ يطلب أمورًا غريبة.”
زمّ سينييل حاجبيه غير مقتنع، لكن لم يكن عندي ما أضيفه.
فقد كان هذا ما جرى بالفعل.
اقترب مني بخطوات سريعة، ثم كاد أن يمسك بذراعي، لكنه تراجع بخفة.
“غير هذا… لم يحدث شيء آخر؟ لم تُصابي بأذى؟”
كان دومًا ما يحافظ على مسافة فاصلة بيني وبينه، وكأني مرض معدٍ يجب تجنّبه.
لكن فجأة صار قربه مني أقرب من المعتاد، مما جعلني أشعر بارتباك طفيف.
ربما لم يكن قد أفاق تمامًا بعد.
“لا، لم يحدث أي شيء. كما ترى، أنا بخير تمامًا.”
لكن سينييل لم يتراجع رغم طمأنتي.
ظل يحدّق في وجهي بعينين قلقتين.
ولأنني كنتُ أكثر نشاطًا من المعتاد، شعرتُ أن نظرته تلك تثقلني.
مددتُ يدي وأمسكتُ ذراعه القوية كأنني أطلب منه أن يهدأ.
“يبدو أنك مرتبك لأنك استيقظت للتو. اهدأ، لم يحدث شيء سوى عزف البيانو ليلًا.”
دفعتُ ذراعه قليلًا، فانزاح بسهولة.
تراخت ملامحه بعض الشيء.
“آسف… ربما صرتُ حساسًا بعد أن قضيتُ يومين متتاليين أستيقظ خارج غرفتي.”
وله كل الحق في أن يكون كذلك.
أومأتُ برأسي موافقة.
“وهل نمتِ هنا مرة أخرى؟”
“نعم. لم أقضِ الوقت كله أعزف، لكن الأمر انتهى هكذا.”
حاولتُ اختصار الكلام، لكنه بدا متردّدًا، يفتح فمه ليقول شيئًا ثم يغلقه.
كالعادة… سيتراجع عن الكلام.
لم أتوقع أن يُكمل.
“…إذًا، هل تسمحين لي أن أستخدم قوّتي المقدّسة من أجلكِ؟ أستطيع أن أساعدكِ على التخفيف من التعب.”
ماذا؟
كلماته خرجت رقيقة مهذّبة، أربكتني للحظة.
كانت عيناه وكلماته نقية، مختلفة تمامًا عن كيد.
وجدتُ نفسي أومئ برأسي تلقائيًا.
تألّق من يديه نفس الضوء المقدّس الذي كان يستخدمه لعلاج ركبته من قبل.
أغمضتُ عيني للحظة من شدّة الوهج، ثم أحسستُ بالدفء يقترب مني، وما لبث أن غمرني شعور بالخفة كأنني وُلدتُ من جديد.
لم أتمالك نفسي من الإعجاب وقلت بصوت مسموع: “واو…”
“آسف… هذا كل ما أستطيع فعله من أجلكِ. لكن إذا شعرتِ يومًا ما بتعب أو ألم، تعالي إليّ في أي وقت.”
كل ما يستطيع؟ ما فعله لا يُقدَّر بثمن!
رغم أن أمامي يومين فقط قبل الرحيل سرًا، إلا أن فرصة الاستفادة من قوة الكاهن الأعلى ليست شيئًا يحدث كل يوم.
أومأتُ سريعًا: “ن، نعم، بالتأكيد سأفعل ذلك يا سيادة الكاهن الأعلى.”
لكن رغم حماسي، بدت على وجهه مسحة حزن، كأنه ما زال يظن أنه لم يقدم لي شيئًا ذا قيمة.
فقررتُ أن أغيّر مسار تفكيره.
“يا سيادة الكاهن المحترم، ألا يجدر بك الاستعداد للخروج الآن؟ عملك بانتظارك.”
فالخروج لعمله البارد كفيل بجعله يستفيق تمامًا.
انتبه سينييل فجأة، كأنه تذكّر شيئًا.
“سأذهب الآن. أراك مساءً.”
أهو هو من قال بنفسه “أراك مساءً”؟ هذا تقدّم كبير!
لوّحتُ بيدي وأنا أنظر إليه يبتعد.
“نعم، إلى اللقاء.”
***
بفضل الطاقة المقدسة التي منحني إيّاه سينييل قضيت اليوم بأكمله وأنا أشعر بخفة ونشاط.
حين فكرت بالأمر، حتى البارحة لم أشعر بأي تعب وكنت في كامل حيويتي.
“جيد. عليّ فقط أن أصمد ليومين آخرين هكذا.”
يكفي أن أتحمل هذه الليلة وليلة الغد، ثم سيكون موعد الهروب.
“حتى كيد لم يعد يخيفني!”
تجرأت على التباهي، وأنا أعلم أن ذلك التبجح سيتبخر بمجرد ظهوره.
امتلأت حماسًا قبل الهروب، فبدأت أجهز أمتعتي الصغيرة سلفًا:
المجوهرات، وأدوات الحماية، وجرعة التمويه التي ستخفي مظهري.
أما بطاقة الهوية المزيفة، فقد وضعتها مسبقًا تحت السرير حتى لا أنساها، وقررت أن أضعها في الحقيبة آخر شيء.
“كامل. كل شيء مثالي.”
البقاء حية أمام كيد… مجرد لعبة أطفال.
قضيت اليوم بأكمله أبتسم بسعادة.
بعد العشاء مع سينييل، وكما في العادة عندما أهديته زهرة، ثم خلدت إلى النوم.
في أعماقي تمنيت أن يتوقف كيد عن زيارتي، لكنه ظهر مجددًا في غرفتي.
مع ذلك، لم يقل الكثير هذه المرة.
فقط كلمتين: “تقدّمي” و”اعزفي البيانو”.
هكذا قضيت الليل كله أعزف البيانو كعلبة موسيقى صغيرة تعيد لحنها بلا توقف.
وعندما جاء الصباح حييت سينييل بخجل، كما فعلت بالأمس.
ظل سينييل مرتبكًا يتفحصني بقلق، ثم تنفس بارتياح وهو أكثر حذرًا من قبل.
في داخلي واسيتُه: “لن تضطر لمعاناتي وقتًا أطول بعد الآن.”
ثم، بعد أن عدت إلى وحدتي… كنت أقفز فرحًا، محتفلة ببقاء يوم واحد فقط قبل الهروب.
نظرت إلى التقويم لأتأكد من التاريخ.
راجعت أكثر من مرة.
نعم، غدًا بالتأكيد هو يوم الرحيل.
غمرتني الدهشة حتى اغرورقت عيناي بالدموع.
“أخيرًا! أخيرًا!”
كررت نفس الكلمة بغباء، ثم فتحت النافذة بفرح.
لكن الطقس لم يرحب بي كما توقعت.
“ما هذا الطقس؟”
الغيوم الرمادية ملأت السماء وحجبت الشمس، ورائحة الأرض الرطبة أنبأت بأن المطر سينهمر قريبًا.
“لكن البارحة فقط كان الجو مشمسًا…”
تبدل المشهد المظلم أزعجني. بدأ القلق يتسلل:
“ماذا لو لم تُبحر السفينة بسبب الطقس العاصف؟”
لكنني أقنعت نفسي: السفن لا تتوقف إلا إن كان إعصارًا كبيرًا قادرًا على نسفها.
هذا العالم يملك السحر والقوة المقدسة، فالأحوال الجوية لن توقفهم.
هكذا قالت لي ذكريات فيفي.
“رجاءً… لا تجعلوني أفشل.”
دعوت ألّا تكون الأحوال الجوية سببًا في عرقلتي.
أغلقت النافذة وأنا أتنفس بعمق.
“السفينة ستبحر. يجب أن تبحر.”
كما قالوا: إذا رغبت بشيء بصدق، فسيحدث.
طردت الأفكار السوداوية من رأسي، وأقنعت نفسي بأن لا احتمال آخر سوى أن أكون غدًا على متن تلك السفينة.
***
لا أتذكر حقًا ما تحدثت به مع سينييل على العشاء.
طوال الوقت كنت أبتسم وأقول كلمات غير مترابطة.
ثم، بابتسامة، قدمت له زهرة.
كانت آخر زهرة أهديها له.
“تصبح على خير الليلة. عش حياتك كما كنت تفعل دومًا… بجد واجتهاد.”
حتى ألقيت عليه تحية الوداع.
عندها فقط أدركت أن النهاية باتت حقيقية.
فكرة أنها النهاية جعلتني أشعر بغصة.
لم يكن لدي أي ضغينة تجاهه، فخرجت كلمات التشجيع بسهولة.
حين نظرت أكثر إلى وجهه، شعرت بشيء غريب.
كان كأنني أودّع صديقًا تعرفت عليه للتو، وسأفترق عنه إلى الأبد.
ففضلت أن أسرع في المغادرة.
“فيفي.”
ناداني سينييل.
تفاجأت، فهو لم يسبق أن حاول أن يوقفني.
أملت رأسي باستغراب.
‘هل لاحظ أنني سأرحل؟’
لكن حتى لو لاحظ، لم يكن يهمني.
استدرت إليه بلا مبالاة.
حينها مدّ نحوي كتاب نوتة موسيقية وزهرة.
أخذتها ببطء، وأنا أحدّق به متسائلة.
“كنت دائمًا ممتنًا، وأردت أن أرد لك الجميل.”
سكت قليلًا، ثم أضاف:
“لا… لمجرد أنني أردت أن أهديك شيئًا.”
لماذا يعطيني هدية الآن بالذات؟
نظرت طويلًا إلى النوتة والوردة الحمراء في يدي.
لم أستطع قول شيء. لم أشعر بالذنب… بل العكس.
“من الجيد أنني سأرحل الآن.”
أنا لست من يجب أن يبقى في هذا القصر.
“…شكرًا.”
عندها فقط ابتسم سينييل ابتسامة صغيرة.
ذلك الوجه المطمئن جعل قلبي يهوي فجأة. شعرت أنني أرتكب ذنبًا في حقه.
“سأرحل أولًا. أحلامًا سعيدة يا سينييل.”
استدرت بسرعة، ومشيت بخطى سريعة وكأنني أهرب.
***
وضعت كتاب النوتة الموسيقية والوردة التي أعطاني إياها سينييل على الطاولة الجانبية كما هي.
لم أفكر يومًا في الاحتفاظ بها أو حتى أخذها معي، فليست أشياء تخصني.
استعددتُ للنوم، فأحضرت أدوات الحماية الخاصة بي، ثم أخذت نفسًا عميقًا وزفرت وأنا أستلقي على السرير.
حاولت أن أنسى هدية سينييل.
بدلًا من ذلك، انغمستُ في التفكير بالجزيرة المليئة بالأمل التي سأتوجه إليها.
قد يستغرق الأمر وقتًا طويلًا للتأقلم هناك، لكن ذلك سيكون متعة جديدة من متع الحياة.
“لم يتبق سوى بضع ساعات فقط.”
بمجرد أن فكرت بأن الساعات قليلة، بدأ قلبي يخفق بقوة.
على الأرجح، حين أصبر مشغولة هناك فلن تعود ذكرياتي هنا تخطر ببالي أبدًا.
“وعليّ أيضًا أن ألتقي برجل بعضلات مفتولة يليق بالمناخ الدافئ للجزيرة.”
شعرت بسعادة، ارتفعت زوايا شفتي وشددت وجنتاي. ومعها بدأ التوتر يذوب تدريجيًا.
بهذه الحالة المزاجية، حتى لو جاء كيد، كنت واثقة أنني سأستقبله بهدوء. أغمضت عينيّ وأنا في غبطة.
“استيقظي.”
كما في كل مرة، أيقظني صوته التحذيري.
لم يكن شعور الاستيقاظ ممتعًا أبدًا وهو يقطع نومي في كل ليلة.
لكن هذه الليلة بالذات، قررت أن أمرر الأمر بسخاء.
كالعادة، كانت المصابيح مشتعلة في الغرفة، فرأيت وجه كيد بوضوح.
حدّق فيّ قليلًا، ثم ضاق بعينيه وكأنه انزعج من شيء ما. قابلت نظرته بوجه بريء متجاهل.
فتجعد وجهه بشدة.
“يبدو أنك في مزاج جيد جدًا وأنت أمام قاتل.”
تلاشى انتشائي في لحظة، وبرودة الواقع اجتاحتني فجأة.
لم أكن قد صعدت إلى السفينة بعد، ولا يمكن أن يُكشف أمري قبل الهروب.
خفضت بصري، متجنبة الرد.
كنت أعلم أن أي جواب سيوقعني في مأزق: لو قلت إنني سعيدة سيسأل “لماذا؟”، ولو قلت إنني حزينة سيستجوبني أيضًا.
أردت فقط أن أمرر الموقف بأكبر قدر من الطبيعية.
لكن كيد، وهو يحدق بي، مد يده فجأة ووضعها على مسند السرير خلفي، ثم انحنى نحوي.
اقترب وجهه من وجهي حتى باتت أنفاسه تلامس أنفي.
ارتعبت، وحاولت غريزيًا أن أبتعد، لكنه أمسك وجهي بيده الأخرى، قاطعًا عليّ أي فرصة للهروب.
“عادةً، الذين يفكرون في الهرب مني يملكون نفس هذا التعبير.”
لم أستطع الرد.
“سأقولها لك بوضوح. إن كانت لديك أي أفكار حمقاء، فتخلّي عنها فورًا.”
الحمد لله أن يديّ كانتا تحت الغطاء، وإلا كان سيرى ارتجاف أصابعي.
ابتلعت ريقي بصعوبة.
لم يكن مسموحًا لي بفقدان أعصابي حتى اللحظة الأخيرة.
ما زالت أمامي فرصة للتدارك.
“كـ… كيف يمكنني أن أفكر بالهرب؟ لم يخطر ببالي مثل هذا الشيء أبدًا… أبدًا.”
ضغطت يده قليلًا على وجنتي، لم يكن ألمًا، لكنه أخافني من أن يمسك عنقي في أي لحظة.
ظل صامتًا، يدرسني بعينيه، بينما قلبي يخفق بعنف.
وبعد برهة طويلة، ترك وجهي أخيرًا.
“جيد. آمل أن تحافظي على هذا الشعور.”
عضضت لساني بخفة حتى لا أتنفس الصعداء.
“وبهذه المناسبة، هيا أخبريني. خلال هذا الأسبوع، إلى أي حدّ تقرّبتِ من سينييل؟ أعطني النتيجة.”
“… كنت أتناول العشاء معه كل يوم. وكنت أهديه الزهور دائمًا…”
“أهذا كل شيء؟”
عضضت باطن خدي من الداخل.
فكرة استخدام جهاز الصعق تحت الوسادة لم تخطر ببالي حتى.
وحتى لو أمسكت به، فسيلحظ الأمر وينتزعه مني فورًا.
أرهقت رأسي في التفكير، لكن ذهني الفارغ لم يُسعفني بفكرة مناسبة
في النهاية، لم أجد إلا أن أذكر ما حدث اليوم.
“سينييل أعطاني كتاب نوتة موسيقية ووردة حمراء.”
“حقًا؟ وأين هما؟”
“على الطاولة الجانبية.”
مد كيد يده عن مسند السرير، وأخذ الكتاب والوردة من الطاولة.
قلّب النوتة بسرعة، ثم أعادها بازدراء مكانها.
“وماذا أيضًا؟”
“… لا شيء آخر. سأبذل جهدًا أكبر غدًا.”
لم يكن يسألني من قبل عن تفاصيل علاقتي مع سينييل، وفجأة صار دقيقًا ومتشددًا.
بدا الأمر وكأنه يحاصرني لأنه شك في نيتي بالهرب.
شعرت بنبضي يقفز من رقبتي بفزع.
لم يكن أمامي خيار سوى أن أظهر له أنني مجرد فأرة محاصرة داخل المصيدة، لا أكثر.
—
بنات ليش ماحدا خبرني بالكومنتات ان الفصول من ١٦ لِـ ٢٠ مش موجودة؟ حتى جيت انزل الفصل ٤٠ لأنتبهت
••••◇•••••••☆•♤•☆•••••••◇••••
ترجمة : 𝑁𝑜𝑣𝑎
تابعونا على قناة التلغرام : MelaniNovels
التعليقات لهذا الفصل " 20"