تأمل سينييل وجهي مطولًا وأنا أبتهج بالمفتاح الذي تسلمته، حتى شعرت بالحرج.
مددت يدي أتحسس وجهي بلا وعي. هل علق فيه شيء؟
وكأنّه قرأ ارتباكي، قال: “آه”، ثم صرف بصره متأخرًا.
‘قد يسرح الإنسان أحيانًا محدقًا في وجه غيره، لا بأس، لنتجاوز الأمر.’
انشغلت برهة أتفحص المفتاح بفرح، لكن سرعان ما خطرت لي فكرة:
أليس عليه أن يذهب الآن إلى عمله؟
“ألا يجب أن تذهب إلى عملك؟ أظنك تأخرت.”
“……هل تعرفين كم الساعة الآن؟”
هززت رأسي نفيًا.
لم يكن عندي ساعة يد، فكيف لي أن أعرف؟
نظرت أرجاء الغرفة باحثة عن ساعة، فلم أجد شيئًا.
بدأ الارتباك يعلو ملامح سينييل، مثل تلميذ مثالي يتأخر لأول مرة.
لكنه كاهن كبير، فمن ذا الذي سيجرؤ على مؤاخذته؟
رغم ذلك لم يستطع أن يخفي قلقه، فانحنى قليلًا مودعًا:
“سأذهب الآن.”
“آه، حسنًا. أراك مساءً.”
غادر بسرعة، وبقيت وحدي في الغرفة أرمش للحظة ثم خرجت بدوري.
أردت أن أخلع أدوات الدفاع التي أحملها عند خصري وأبدلها بملابس مريحة.
ارتديت فستانًا فضفاضًا بلا مشد، ثم نزلت إلى الطابق الأول حيث غرفة البيانو.
كان بصري حادًّا للطريق فلم أتعثر حتى وصلت سريعًا.
وضعت الساعة الصغيرة التي جلبتها على سطح البيانو، كي لا أفوت وقت الغداء.
جلست على الكرسي أمام المفاتيح، تغمرني ابتسامة لا إرادية.
اليوم لم يكن لدي مكان أذهب إليه، ولا عمل عاجل أقوم به.
عليّ أن أتذكر أن أجلب الزهور لسينييل فحسب.
‘اليوم، سألهو!’
كهدية لنفسي بمناسبة نجاتي من كيد البارحة، قررت أن أمنح نفسي يومًا من الحرية.
مددت يدي فوق مفاتيح البيانو.
***
“سيدي، لقد عدت.”
كان قد وصل أبكر من المعتاد.
بادل سينييل كبير الخدم بتحية مقتضبة بعينيه، ثم صرف نظره.
في الطابق الأول انتشر عزف البيانو بدفء غامر.
‘هذا الصوت… هو نفسه الذي سمعته البارحة.’
حين كان صغيرًا، تعلم سينييل قليلًا من العزف على يد والدته.
لكنه لم يهتم يومًا، كان يعزف بلا شغف، فقط كما يعلَّم.
بعد وفاتها، قطع علاقته بالموسيقى تمامًا.
لم يكن ذا معرفة ولا ذوق خاص فيها، بل كان يرى جميع الأصوات متشابهة.
لكن هذه المرة، أدرك أن نظرته كانت خاطئة.
نسي وجود كبير خدمه أمامه، إذ سلبت موسيقى البيانو كل تركيزه.
راقبه الخادم بدهاء، ثم انحنى وقال:
“سأخبر سيدتي بوصولك.”
استعاد سينييل وعيه بسرعة، وأمسك بذراع الخادم.
“لا تخبرها.”
لم يرد أن يقطع عزفها.
توقف الخادم في حيرة، لكن سينييل أومأ برأسه بجدية.
“آه… حاضر.”
وبعد أن أنهى كلامه مع الخادم، همّ بالذهاب إلى غرفته.
لكن للوصول إليها كان عليه أن يمر أمام غرفة البيانو.
توقفت قدماه تلقائيًا أمام الباب، وعجز عن التحرك.
ذلك الصوت الهادئ الذي حسبه حلمًا في الليلة الماضية، صار كالمغناطيس يجذبه.
امتلأ القصر الصامت بأصداء جديدة.
كل موضع لمستْه فيفي أخذ يتغير: غرفة الطعام التي صارت أكثر دفئًا عند العشاء، غرفته التي تتزين يوميًا بزهرة صغيرة، وصوت البيانو العذب.
لم يكره تلك التغيرات.
لكنه تساءل بمرارة: هل يُسمح له أصلًا بأن ينعم بها؟
ظل واقفًا مكانه كالمسمَّر حتى انتهت المقطوعة.
عندها فقط استطاع أن يحرك قدميه.
كان يتوق لمواصلة الاستماع، لكنه عاتب نفسه بأن ذلك ليس له.
أدار ظهره لغرفة البيانو ومضى.
وما إن ابتعد حتى عاد الصوت يتردد من جديد، يتعالى بثبات يشبه عزيمتها هي.
وبلا وعي، استحضر صورة فيفي.
[لقد عشتَ حياة مجتهدة حقًا.]
لم يفهم حتى الآن لماذا قالت ذلك.
أي جانب فيه رأت لتقول إنه عاش بجد؟
في الحقيقة، لم يفهم الكثير من كلماتها.
لم يفهم ما الذي يحدث كل ليلة بينها وبين كيد، ولا علاقة الزهور التي تجلبها له ببقائها على قيد الحياة.
كان كل شيء غامضا، ومع ذلك أطاع كلامها.
كان يكفيه أنها ما زالت حيّة بقربه.
هكذا، وهي تقول أشياء لا يستوعبها، مدت يدها لمصافحته.
أمسكته بيدها الصغيرة مقارنة بيده، لكنها أوصلت إليه شعورًا لم يستطع التخلص منه، وكأن قبضتها الصغيرة لا يمكن الفكاك منها.
[لنَعِش بجدّ، نحن الاثنين.]
لكن سينييل لم يستطع أن يجيبها بذلك الوعد قط.
كل ما طلبته منه من أمور غريبة وغير مفهومة، قدر
على الرضوخ لها.
غير أن هذا الطلب وحده لم يستطع أن يوافق عليه.
وحتى الآن ما زال الأمر على حاله.
‘هل أملك حقًّا أهلية أن أعيش بجدّ، يا فيفي؟’
كانت جملة تمنّى أن يقولها، لكنه كتمها خوفًا من أن تُعَدّ تذمّرًا.
شعر بطعم مر ينتشر في فمه.
***
عاد سينييل إلى غرفته حيث صمت البيانو، لم يجد حياة فيها، غير أن زهرة الفريزيا المشرقة هي التي استقبلته.
أما أنا، فبعد أن عزفت قدر ما أشتهي، رفعت يدي عن المفاتيح بخفة.
طوال العزف تمنّيت لو أن عندي نوتة موسيقية، ومع ذلك استمتعت كثيرًا.
خرجت إلى الحديقة، قطفت زهرة جميلة، ثم دخلت بها إلى قاعة الطعام.
أنهينا الطعام بهدوء كالمعتاد.
وبعد أن أتممت كل واجباتي، عدت إلى غرفتي من غير تردد.
لم يبقَ على الهروب سوى ثلاثة أيام.
اجتزت موعد الموت، فلِمَ لا تمرّ هذه الأيام الثلاثة بسلام؟
غمرني الأمل حتى صار قلبي يرفرف.
هيّأت كل شيء، ثم تمددت على السرير براحة.
صحيح أنه لم يحن وقت الاطمئنان بعد، لكن عبوري العقبة الكبرى البارحة جعلني أكثر هدوءًا.
بعد أن نجوت من ثلاث أزمات، تسلّل إليّ شعور غريب أن لا شيء بعدُ يرعبني.
شعور هشّ، أعرف أنه سيزول فور أن أرى كيد، لكنه موجود الآن.
‘لننم إذن.’
فجسدي أنهكه النوم على سطح البيانو ليلة البارحة.
أغمضت عيني واستسلمت للسرير.
***
“ألن تنهضي؟”
لم يكن عليّ أن أسترخي.
دخل كيد غرفتي وأيقظني من نومي.
وإذ بي أجد الكأس الزجاجية، التي كانت سليمة قبل لحظات، محطمة بفظاعة على الأرض.
كم تمنّيت لو أنه أيقظني بطريقة عادية!
أنار الغرفة بمصباح، وأنا أعضّ باطن خدي وأجلس.
سحق بقدمه الزجاج المحطم.
“قلتُ لكِ أن تعزفي حتى آمركِ بالتوقف.”
حول نظره من الزجاج إليّ.
شهقت دون وعي.
دمي تجمّد، ورأسي خلى من الأفكار.
‘يعني أنه كان مستيقظًا؟’
لو استيقظ، لما تركني أنام بسلام!
ارتبكت: أأعتذر؟ أم أتمسّك بكذبة أنني عزفت حتى النهاية؟
كيد ضحك ساخرًا ونقر على رأسي بخفة بإصبعيه.
“أسمع صوت دماغك وهو يدور حتى هنا.”
“……أ… آسفة.”
كان أقل شراسة من البارحة، لكنه ما زال كيد.
ضممت كتفي وأنا أتحسس مزاجه.
قبض على ذقني ورفع رأسي فجأة، فاضطررت أن أحدّق في عينيه مباشرة بلا مهرب.
“حتى لو لم تعزفي حتى النهاية، فقد بقيتِ في تلك الغرفة حتى الصباح، أليس كذلك؟”
‘ما هذا؟ يبدو وكأنه نفسه لا يجزم. إذن هو يختبرني؟’
“لا تقولي إنكِ هربتِ قبل أن آمرك بالخروج؟”
“لـ… لا طبعًا!”
عيناه الحمراوان اللامعتان انعكستا بفتنة، مائلة بابتسامة غامضة.
“إذن رأيتِ وجهي هذا الصباح.”
“…….”
أحسست بخطر داهم.
إن أجبت بنعم أو لا، ستكون النتيجة هلاكًا.
فآثرت صامتة.
ابتسم أكثر وهو يرى صمتي.
“كيف كان شعورك وأنتِ ترين سينييل وجهاً لوجه؟”
كأن مطرقة هوت على رأسي.
“ماذا…… م… ماذا تقول؟”
“أنتِ اكتشفتِ منذ زمن أنني سينييل، أليس كذلك؟ من يملك عينين لا بد أن ينتبه.”
‘نعم، لا بد أن ألاحظ… لكن لماذا تفصح عن هذا الآن؟ لماذا عشتُ البارحة بجهد إذن؟!’
عُقد لساني.
“كل من عرف حقيقتي قتلتُه. فماذا أصنع بكِ؟”
‘أنقذني يا رب.’
جسدي كله أخذ يرتجف، وأسناني تصطك.
لم أعرف ماذا أقول، فأغمضت عيني بقوة.
“ترتعبين بسرعة.”
ترك ذقني، فشهقت أتنفس بحرية وأدرت وجهي.
“قلتُ أن أمامك مهامًا أخرى، وإنني سأُبقيكِ حيّة بعض الوقت. عليّ أن أوفي بعهدي، أليس كذلك؟”
‘منذ متى صرتَ تفي بالعهود أيها العبقري؟ ومع ذلك… شكرًا لك.’
“لو لم تعزفي جيدًا البارحة، لأمرتُك أن تحطمي البيانو. لكن يبدو أن لكِ موهبة.”
“……أعرف بعض المعزوفات فقط.”
“وهل لديك مواهب أخرى؟”
“لا… أقصد، أستطيع أن أنجح في أي شيء تأمرني به.”
كذبت خوفًا أن يُقطع رأسي إن قلتُ لا.
ابتسم بخفة، ثم أخرج شيئًا من صدره.
‘مـ… سيف؟’
تذكرتُ الهدية التي تلقيتها منه في اليوم الأول، فارتجف جسدي كله.
قال إنه سيبقيني حيّة.
من غير وعي أغمضت عيني بشدّة.
عندها جاء الأمر من فوقي:
“افتحي عينيكِ، ومدّي يديكِ.”
“ن، نعم!”
مددتُ يديّ وارتجاف عينيّ لا يتوقف.
سقط شيء معدني على راحتي يديّ.
فزعتُ للحظة، لكن الحمد لله لم يكن سكينًا.
مفتاح؟
كان يشبه المفتاح الذي أعطاني إياه سينييل صباح اليوم.
“خُذيه. لم أعد بحاجة إليه.”
“ماذا؟ آه… شكرًا لك.”
تأملتُ المفتاح بدهشة.
كان يشبه مفتاح سينييل لكن لونه مختلف؛ مفتاح سينييل فضي، أما هذا فكان يلمع بوهج أزرق غامق.
وماذا سأفعل به الآن؟
نظرتُ إلى كيد بزاوية عيني أنتظر أي توضيح، لكنه ظل صامتًا.
في النهاية جمعتُ شجاعتي وسألتُ بخفوت:
“…أين يستحسن بي استخدام هذا المفتاح؟”
سمعتُ صوت لسانه ينقر بأسى:
“ظننتك ذكية أكثر. ألا ترين؟ هذا مفتاح غرفة البيانو.”
“آه… فهمت.”
وكيف لي أن أعرف ذلك؟
لكنني حصلتُ بالفعل على مفتاح لتلك الغرفة من سينييل.
هل يُدير كلٌّ منهما مفاتيحه الخاصة؟
سمعتُ إشاعات تقول إن كيد لا يحب أن يلمس سينييل أغراضه.
لا بد أن أحدهما نسخة مكررة.
ورجّحت أن مفتاح كيد الأزرق هو النسخة.
لكن، ما الذي يُفترض بي أن أفعله به الآن؟
تمسّكتُ بالمفتاح بتردّد وأنا أراقب كيد مرة أخرى.
كنتُ على وشك أن أنحني شاكرةً، لكنه نقر بلسانه مرة أخرى بنفاد صبر.
“ألا تعرفين حتى القاعدة الأساسية التي تقول إنه إذا تلقيتِ هدية فعليكِ أن تردّيها بهدية؟ انهضي.”
“ن، نعم!”
طيب… عندما أعطيتني سكينًا، هل كنتَ ستقبل أن أجرّبه على وجهك كهدية مقابلة؟
“تقدّمي.”
كنتُ بلا قوة، بلا نفوذ، بلا أي شيء.
تنهّدتُ بمرارة ثم وقفتُ.
فكرتُ أن الممر سيكون مظلمًا من دون ضوء، فأمسكتُ بمصباح الزيت بحذر.
تطلّعتُ إلى كيد لأستأذنه بصمت، فلم يقل شيئًا.
عندها أمسكتُ المصباح بثبات.
ومع الضوء أمامي، بدأتُ أمشي في الممر.
كان صدى خطوات كيد خلفي يدوّي في أذني حتى كدتُ أختنق.
إنها مجرد خطوات، لكنني شعرتُ وكأنه يلاحقني ليقتلني.
وصلتُ إلى غرفة البيانو، وفتحتُ الباب بالمفتاح الذي أعطاني إياه.
دخلتُ، ثم وضعتُ المصباح بعناية على الأرض قرب البيانو.
جلس كيد مباشرةً على الأريكة، طوى ساقيه الطويلتين، وشبك ذراعيه، وأغمض عينيه كأنّه استعدّ منذ البداية للراحة.
جلستُ مترددةً على الكرسي، وضبطتُ المسافة بيني وبين البيانو.
“هـ… هل أعزف الآن؟”
أومأ كيد فقط، من غير كلمة.
مررتُ أصابعي فوق المفاتيح من دون ضغط، التقطتُ نفسًا عميقًا، ثم ضغطتُ أول نغمة بحذر.
المقطوعة الأولى التي اخترتها كأغنية تهويدة لكيد كانت سوناتا بيتهوفن الثامنة – باثيتيك، الحركة الثانية.
قطعة حالمة، عاطفية، لا بد من عزفها وكأنها غناء.
ورغم أن بها جزءًا عاصفًا، إلا أنها هادئة في مجملها، مثالية كتهويدة.
انتهيتُ، وزفرتُ أنفاسي المحبوسة، ثم انتظرتُ أمره. لكنه أشار بذقنه فقط وكأنه يقول “تابعي”.
“…….”
فهمتُ أنه يريد حفلًا منفردًا مثل الأمس.
عزفتُ بعدها حلم الحب لفرانز ليست، مقطوعة صعبة السمعة.
رغم أنني لا أحب موسيقى ليست عمومًا، فإن هذه القطعة بالذات كانت قريبة لقلبي، كثيرًا ما تدربتُ عليها، وكنتُ واثقة منها.
كما أنني واثقة من قدرتها على تنويمه.
بعد أن أنهيتُ المقطوعتين، رفعتُ عيني لأتفقد حاله.
لم أصدق أنه قد غفا بهذه السرعة!
لماذا يجرّني إلى هنا ليتعبني إذا كان سيلفح النوم وجهه على الأريكة هكذا؟
حتى هو لا بد أن هذا الوضع غير مريح له.
هززتُ رأسي ساخطًة، ثم عدتُ إلى وضع يدي فوق المفاتيح. كنتُ أنوي أن أعزف بضع مقطوعات أخرى ثم أخلد إلى النوم.
••••◇•••••••☆•♤•☆•••••••◇••••
ترجمة : 𝑁𝑜𝑣𝑎
تابعونا على قناة التلغرام : MelaniNovels
التعليقات لهذا الفصل " 19"