في اليوم الثاني من غياب كاسيان عن القصر، كنت أواصل التحقيق في بيئة مريحة للغاية..
لحسن الحظ، كانت أعباء العمل اليومية قد خفت كثيرًا بفضل الأمير الرابع، الذي جاء بعرض كريم
“أرجو أن تسمحي لي بالمساعدة بأي طريقة أستطيع، المساعدة ساليس. أعلم أنني لا أملك سلطة التدخل في التحقيق، لكنني أود على الأقل تخفيف أعبائك اليومية. أطلب منك هذا أيضًا من أجل والدتي.”
وبفضل إلحاحه، تولّى جزءًا كبيرًا من العمل بدافع إخلاصه لوالدته.
في هذه الأثناء، كانت الإمبراطورة الأولى مشغولة تمامًا بإشغال دوق لوبيز بقضايا أخرى، حتى لا يتمكن من التدخل في شؤوننا.
أما عن قضية سقوط الزوجة الثالثة عن ظهر الحصان…
فقد أثارت تساؤلات لا حصر لها حول تورط دوق جاموتي والإمبراطورة الأولى، خاصة أن الحادثة وقعت لمحظية إمبراطورية من أصول ملكية أجنبية، وكان من المفترض أن تُعامل بحذر بالغ، ومع ذلك، كان التعامل مع القضية سطحيًا إلى حدٍ مثير للريبة..
‘كاد دوق لوبيز أن يفقد حقه في وراثة منصبه بسبب هذه القضية.’
نظرًا لأن الشؤون الدبلوماسية كانت مسؤولية عائلة لوبيز، فقد كان الدوق في مأزق حقيقي بعد الحادثة.
طالب موطن المحظية الثالثة، مملكة باسماه، بتحقيق نزيه وكشف الحقيقة، لكن القضية أُغلقت بسرعة شديدة، وبطريقة تدعو إلى الشك..
‘في ذلك الوقت، كان دوق لوبيز عائدًا من بعثة دبلوماسية إلى باسماه، لذا لم يكن لديه خيار سوى تقبّل الضربة بكل أبعادها.’
وحين عاد مسرعًا إلى الإمبراطورية فور سماعه بالخبر، كانت القضية قد أُغلقت تمامًا، مع شهادات وأدلة “قاطعة” أنهت الأمر بسرعة غير معهودة.
الإمبراطورية اعتبرت الحكم مناسبًا، لكن باسماه لم تتقبل الأمر مطلقًا..
وكأن كل هذا لم يكن كافيًا، فقد حرّك دوق جاموتي والإمبراطورة الأولى النبلاء الموالين لهم، ودفعوا لإعدام الفارس الذي كان مسؤولًا عن حماية المحظية الثالثة، بعد اتهامه بالجريمة..
غضبت باسماه وقطعت جميع العلاقات التجارية مع الإمبراطورية، مما تسبب في أزمة اقتصادية طالت حتى التجارة مع دول الجنوب، وكان العبء كله يقع على عاتق عائلة لوبيز..
بعد أن خسروا جزءًا كبيرًا من نفوذهم الدبلوماسي لصالح دوقية جاموتي، حاولوا بكل الطرق الحفاظ على مكانتهم السياسية.
‘رغم كل هذه الإهانة، لا يمكن إنكار ذكائهم السياسي عندما أبقوا الأمير تشارلي ضمن خياراتهم.’
الأحقاد شيء، والمصالح شيء آخر. كانت قدرتهم على الانحناء عند الحاجة ثم الهجوم بلا تردد عند اتخاذ القرار سببًا في بقاء عائلتهم في السلطة كل هذه السنوات..
‘باختصار، إن كانوا في صفي، فهم سند قوي، وإن كانوا محايدين، فالأمر مقلق، أما إن كانوا أعدائي، فهم كارثة تمشي على قدمين.’
أما الإمبراطورة الأولى، فلابد أنها تعيش حالة من الفوضى الآن—غاضبة، متوترة، ومضطرة إلى مواجهة كل هذا بمفردها، بعد أن وجدت نفسها محاطة بأشخاص لا يمكنها الوثوق بهم.
شعرت بشيء من الرضا بينما دفعتُ التحقيق إلى الأمام بكل حماس..
***
‘لم تكن الإمبراطورة الثانية تخبرنا عن حادثة سقوط المحظية الثالثة لمجرد لفت انتباه الإمبراطورة الأولى إليها.’
في الليلة الثالثة من غياب كاسيان عن القصر، كنت أتفحص الشهادات والأدلة المتبقية، وازددت يقينًا بشيء واحد:
“الأسلوب متشابه جدًا.”
خاصة بعد أن علمت بمحاولات اغتيال متكررة استهدفت أحد الخدم المسجونين في الزنزانة تحت الأرض..
لم يُعلن ذلك بعد، لكنني وقائد الفرسان كنا متفقين على أن احتمال أن يكون الجاني أحد الخدم أكبر من احتمال كونه الإمبراطورة الثانية أو رئيسة وصيفاتها.
فالسم المستخدم كان معقد التركيب، ولم يكن من السهل الحصول عليه، مما جعله خيارًا غير عملي لو كان الهدف الحقيقي هو اغتيال الإمبراطور.
لو كان القاتل يريد الإمبراطور ميتًا فحسب، لكان اختار مادة أسرع مفعولًا وأسهل استعمالًا.
لكن السبب الحقيقي الذي دفعنا لاستبعاد الإمبراطورة الثانية ورئيسة وصيفاتها كان طبيعة السم نفسه..
‘إنه من النوع الذي لا يصبح فعّالًا إلا عند ملامسته لعاب رجل.’
ولهذا السبب، عندما أجرى طبيب القصر الفحص الأول، لم يظهر التسمم إلا في كأس الإمبراطور..
لاحقًا، عندما أُضيف لعاب رجل إلى كؤوس أخرى، ظهرت استجابة خفيفة للسم فيها.
بناءً على ذلك، استُبعدت الإمبراطورة الثانية ورئيسة وصيفاتها من قائمة المشتبه بهم، لأنهما ببساطة لم تكونا قادرتين على تفعيل السم بأنفسهما.
‘كما أن هذا السم لا يحتفظ بفعاليته إلا إذا حُفظ في درجة حرارة شديدة البرودة، وإلا فإنه يفقد قوته تدريجيًا.’
لو كانت الإمبراطورة الثانية أو رئيسة وصيفاتها قد وضعتاه في كأس الإمبراطور شخصيًا، لكان قد فقد فعاليته قبل أن يشربه، مهما كانت سرعتهن في التنفيذ.
هذا يعني أن الجاني الحقيقي كان خادمًا يمكن شراؤه.
لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة—فالسم احتوى على عشبة نادرة لا تنمو إلا في أراضي الشمال المتجمد أو بالقرب من مقاطعة كلوبيا، حيث أملك إقطاعيتي..
بمجرد اكتشاف ذلك، أمر قائد الفرسان بالتكتم التام على المعلومة..
‘ليس لحماية الجاني، بل لمنع تعرض الأبرياء للظلم.’
كنت أثق في قائد الفرسان وفرسانه، لكن من لم أكن أثق بهم هم…
‘أطباء القصر.’
فمع تقدم التحقيق، بدأ يتضح أنهم كانوا يدفعون الأمور عمدًا باتجاه اتهام الإمبراطورة الثانية وأنا.
كان الأمر مكشوفًا للغاية، بل إن الإمبراطورة الأولى لم تكتفِ بذلك، بل نصبت فخاخًا إضافية على أكثر من مستوى..
لكن الشيء الوحيد الذي لم تحسب حسابه هو أنها لم تتمكن من التدخل في التحقيق بنفسها.
وبما أنها لا تستطيع معرفة التفاصيل من خلال فرسان القصر، فمنطقي أن تحاول شراء أطباء القصر لاختلاق الأدلة ضدنا.
‘على الأقل، عرفت الآن أي خادم وضع السم.’
إجاباته خلال الاستجواب كانت تتناقض في كل مرة، كما أن سجله الشخصي حمل بعض التفاصيل المثيرة للشك..
‘والأهم من ذلك… لم يكن واحدًا من الذين استُهدفوا بمحاولات الاغتيال.’
أما الخدم الذين كانوا على وشك الموت، فقد عملوا في جناح الليلك في الماضي—أي المكان الذي كان مرتبطًا بالإمبراطورة الثانية.
وكأن شخصًا ما أراد أن يوجه الشكوك نحوها عمدًا..
بعبارة أخرى، الجاني كان واضحًا تقريبًا، لكن المشكلة كانت في الخطوة التالية، إعلان النتائج..
كان قائد الفرسان رجلاً حذرًا، ولن يكشف التفاصيل قبل إنهاء التحقيق بالكامل، لكنه كان عرضة بشدة للوقوع في الفخ..
“كما حدث في قضية سقوط المحظية الثالثة عن ظهر الحصان.”
آنذاك، لم يكن الفارس المسؤول موضع شك منذ البداية، لكن فجأة ظهر خادم ليشهد أنه عبث بسرج الحصان.
ثم تقدمت خادمة من جناح المحظية الثالثة وقالت إن الفارس والمحظية الثالثة قد تشاجرا بشدة قبل أسبوع.
‘وتبع ذلك تعليق مشؤوم: ’لن أجرؤ حتى على ذكر السبب، فقد كان أمرًا فظيعًا للغاية‘.’
ثم، عندما أجرى طبيب القصر فحص النبض، تبيّن أن حمل المحظية الثالثة لا يتطابق توقيته مع آخر مرة أمضت فيها ليلة مع الإمبراطور، فانفجر الموقف تمامًا.
إثارة الشكوك سهل، لكن إثبات البراءة صعب للغاية.
لذلك، كنت أبقى على أهبة الاستعداد، حتى لا تضيع المعلومات التي قدمتها لي الإمبراطورة الثانية سدى.
لكن بينما كنت أُنهي إعداد تقريري النهائي، اقتحمت وصيفات جناح الورود مكتبي في قصر الشتاء.
“عليكِ المجيء معنا هذه المرة، آنسة ساليس!”
حتى أنهم تخلوا عن ألقابي، وكأنني لم أعد مساعدة أو نبيلة!
“ما الأمر يا سيدات جناح الورود؟”
“كم أنتِ وقحة! الإمبراطورة الأولى علمت بكل ألاعيبك القذرة، وعرفت أنكِ من أسكت قائد الفرسان!”
“أنا؟ منعت قائدي المباشر من الكلام؟”
هذا اتهام ثقيل للغاية.
“لا تحاولي التظاهر بالبراءة! الإمبراطورة الأولى غاضبة جدًا، وقد استدعت الجميع، بدءًا من قائد الفرسان! هذه المرة، لن تفلتي!”
كشفوا للإمبراطورة أمر السم بعد يومين، ربما علي أمدح أطباء القصر على عدم سقوطهم في الإغراء فورًا؟
‘مع ذلك، سيخضعون لعقوبة لتعطيل عملي على الأقل بعد انتهاء التحقيق.’
طلبت منهم الانتظار ثلاث دقائق، بحجة أنني بحاجة لإغلاق الملفات وإتمام آخر إجراء قبل المغادرة—كان عليّ فقط إنهاء تدويناتي الأخيرة وترك رسالة سرية لأحد فرسان قصر الشتاء الموثوق بهم.
‘حسنًا، طالما هناك دليل قاطع، سيكون من التخاذل أن أرفض الحضور.’
حملت ملف تحقيقاتي النهائي وابتسمت، كما لو أنني كنت ببساطة متعاونة تمامًا مع الوصيفات.
“هذه الثقة لن تدوم طويلًا!”
“كان عليكِ أن تبقي في الظل وتتصرفي وفق مكانتك، بدلًا من التورط في أمور تفوقكِ شأنًا!”
لكن بالنظر إلى ارتفاع نبرة أصواتهن، بدا أنهن كنّ أكثر توترًا مني.
***
جمعَت الإمبراطورة الأولى الجميع في قاعة الاستقبال في قصر الشمس، وكانت اليوم أكثر شراسة من أي وقت مضى.
علمتُ أن دوق جاموتي قد زار جناح الورود بعد ظهر اليوم. من الواضح أنها قدمت له شيئًا في المقابل، ربما وافقت على إعادة التحقيق في حادثة سقوط المحظية الثالثة.
‘تُرى، هل تخلّى دوق جاموتي عن بعض حقوقه في الدبلوماسية وتعهّد بالعزلة كتعويض؟’
هذا يعني أن الإمبراطورة الأولى ستكون في مزاج سيئ، وبالتأكيد ستكره الإمبراطورة الثانية أكثر من أي وقت مضى لأنها أثارت قضية سقوط المحظية الثالثة من جديد.
“—قائد الفرسان! كيف لشخص يدّعي ولاءه المطلق لجلالة الإمبراطور أن يكون بهذا الضيق في الأفق؟!”
“لا أفهم قصدكِ، جلالة الإمبراطورة الأولى.”
“هل ظننتَ أن بإمكانك خداعي بهذه الخرافة القديمة التي تقول إن من يخون الإمبراطور سيتوقف قلبه فورًا؟!”
بمجرد أن أنهت حديثها، أومأت لوصيفات جناح الورود.
“ألقوا القبض على روزليتا ساليس، هذه المجرمة الفظيعة، واجعلوها تركع فورًا!”
“جلالة الإمبراطورة!”
صاح قائد الفرسان لمنعهن، لكن الإمبراطورة الأولى حدّقت فيه بشراسة لتفرض هيبتها..
“لقد سمعتُ كل شيء! لقد تبيّن أن العشبة المستخدمة في سمّ جلالته لا تنمو إلا في أراضي الشمال المتجمد ومقاطعة كلوبيا! فماذا يعني هذا؟!”
ماذا يعني؟ هذا يعني ببساطة أنكِ نصبتِ لي فخًا، ولا تستطيعين حتى إخفاء نواياكِ بشكل جيد.
أرسلتُ نظرة تحذيرية إلى الوصيفات المتجهات نحوي، وكأنني أقول لهن: إن كنتم تريدونني أن أركع، فعليكم دفع ثمنٍ باهظٍ جدًا.
بدت إحدى السيدات مترددة—تلك التي أحرجتها بشدة قبل أيام—لكن الأخريات تمكنّ في النهاية من إجباري على الجلوس على الأرض.
“حسنًا، طالما أن هذا هو أمر الإمبراطورة، فلا خيار لي سوى التحدث وأنا جالسة.”
“هل تجرئين على السخرية وأنتِ مجرمة؟!”
“لا، بل كنتُ فقط أريد تصحيح بعض الحقائق لكِ.”
“عذرًا، لكن يبدو أنكِ نسيتي تفصيلة مهمة جدًا.”
“كما قلتِ، هذه العشبة نادرة ولا تنمو إلا في أراضي الشمال المتجمد ومقاطعة كلوبيا، وهذا صحيح. كما أن استخدامها في تحضير السم أمر مؤكد. ولكن، جلالة الإمبراطورة الأولى…”
نظرتُ مباشرة إلى عينيها بثقة مطلقة.
“هذه العشبة كانت ضمن الشحنة الأولى من البضائع التي تم استيرادها أثناء اتفاقية التجارة التي أشرف عليها الأمير تشارلي بنفسه الشهر الماضي.”
“ماذا؟!”
كانت هذه المعلومة جديدة تمامًا عليها..
لأن الأمير تشارلي أصرّ على أن يُثبت جدارته بنفسه في هذا الاتفاق، ولم يكن لجناح الورود أي تدخل تقريبًا في الأمر.
ليس هذا فحسب—بل حتى المساعدة الجديدة في قصر الصيف، التي بالكاد تخضع لنفوذ الإمبراطورة الأولى، هي التي راجعت الوثائق المتعلقة بهذا الاستيراد.
لكنها ليست من النوع الذي قد يُهمل التدقيق تمامًا، لذا كانت هذه المعلومة بالتأكيد ضربة غير متوقعة لها.
“تلك العشبة كانت من المواد التي استُبعدت في البداية، لكنها أُضيفت لاحقًا بناءً على طلب أطباء القصر. فكما تعلمين، أي عشبة يمكن أن تكون علاجًا أو سمًا، حسب طريقة استخدامها.”
واصلتُ التحديق في عينيها بثبات..
“ويا للصدفة، وصلت هذه الشحنة الأولى قبل أسبوعين فقط. مما يعني أنه، بناءً على منطقكِ الخاص، فإن القادرين على صنع هذا السم ليسوا أنا والإمبراطورة الثانية فقط، بل الأمير تشارلي أيضًا.”
ثم، دون أن أكسر تواصلي البصري معها، أخرجتُ ملفًا واحدًا من بين الوثائق التي كنت أحملها..
“وفوق ذلك، أحد الخدم الذين عملوا في غرفة الشاي في يوم الحادث كان يعمل في قصر الصيف
حتى العام الماضي.”
“وهذا يعني أن أكثر شخص يثير الشبهات هنا هو… الأمير تشارلي نفسه، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ بألطف ابتسامة ممكنة وأنا أنظر إلى الإمبراطورة الأولى، محملةً إياها بكل المعاني الخفية التي قد تفهمها جيدًا..
التعليقات لهذا الفصل " 92"