ساد الصمت للحظة.
على الرغم من أن كاسيان كان يمر بوقت حرج حيث كل ثانية ثمينة، إلا أنه انتظر بصبر سكوني.
ولهذا، لم أحتج إلى وقت طويل للتخلص من المشاعر العالقة التي كانت تثقل صدري..
حدّقت في عينيه البنفسجيتين الواثقتين، وكأنني أستند إليهما، ثم فتحت فمي أخيرًا.
“سيتمكن أهل القصر الإمبراطوري من اكتشاف الأمر.”
“إذن، المشكلة تكمن في كيفية إيصال هذه المعلومات لهم بطريقة ملتوية، آمل فقط أن يتمكنوا من معرفة نوع السم قبل أن نضطر إلى إخبارهم.”
كالعادة، كنت واثقة من أن كاسيان، بمكره المعتاد، سيتمكن من حل هذه المشكلة ببراعة.
“إذا عرفنا اسم العشب السام، فسيمكننا أيضًا معرفة تركيبة الترياق.”
“لو كانت هذه الوثيقة دليلاً شاملاً، لما كنتِ تنزعجين منها في كل مرة تقرئينها، أليس كذلك؟”
كانت ملاحظته العفوية كفيلة بجعلي أشعر بارتياح لم أشعر به من قبل.
أخيرًا، أدركت السبب الحقيقي وراء شعوري بالضيق المستمر—المعلومات التي كنت أملكها كانت كلها ناقصة وغير مكتملة.
لم أكن كاتبة القصة الأصلية، وحتى لو كانت هذه “النبوءة” مجرد تلاعب من القدر مستندًا إلى الرواية الأصلية، فإن كونها غير مكتملة لم يكن أمرًا يتغير..
بالنسبة لي، التي أفضّل الوضوح في كل شيء، كان هذا النقص أمرًا مزعجًا للغاية.
“حسنًا، إذن الخطوة التالية هي فك شفرة الإشارات اليدوية، أليس كذلك؟”
“وأمر آخر، لقد همست لي جلالة الإمبراطورة الثانية بشيء مهم.”
تحدثت عن حادثة سقوط المحظية التي لقيت مصرعها، وعن الأدلة التي كانت بحوزتها..
ثم أخبرتني أن الإمبراطورة الأولى على الأرجح هي من تخلصت من تلك الأدلة.
“أعتقد أن صاحبة الجلالة لم تكن تملك سوى شكوكٍ غير مؤكدة، لكنها مع ذلك أرادت إيصالها إليّ.”
“لا ينبغي تجاهل حدس الأشخاص الذين عاشوا طويلًا داخل القصر الإمبراطوري، خاصة إذا كانت صاحبة الجلالة إمبراطورة وإبنة ملك سابقة. أليس كذلك؟”
أومأ كاسيان موافقًا وهو يشير إلى المخطوطات أيضًا..
كانت تلك إشارة إلى أن هذه المعلومات لم تظهر بشكل عشوائي..
“إذن، علينا فك شفرة الإشارات اليدوية أولًا، يبدو أنها تشير إلى موقع معين.”
ذكر كاسيان أن هذه الإشارات اليدوية تشبه تلك التي يستخدمها فرسان مملكة الثلج في ساحة المعركة.
ثم سحب دفتر ملاحظاته، الذي كان قد دوّن فيه هذه الإشارات سابقًا، وبدأ في البحث عنه..
بمجرد أن وجده، ناولني إياه بسرعة، ثم خرج من قصر الشتاء، متجهًا لإبلاغ أهل القصر الإمبراطوري بمعلومات السم.
أما أنا، فبدأت فورًا في تفحص دفتر الإشارات اليدوية، مسترجعة في ذهني الحركات التي قامت بها الإمبراطورة الثانية.
وفي النهاية، تمكنت من فك الشيفرة.
“ملكة مايو، بين السقف القزحي الألوان…”
تمتمت بالكلمات أثناء تأملها، ثم خطوت بسرعة إلى الأمام.
‘يا لكِ من جريئة، جلالة الإمبراطورة الثانية.’
لم يكن عبثًا أن المعلومات الجديدة في اللّفافة تضمنت ملاحظة تقول: “لا تزال تحمل شخصية الأميرة السابقة.”
“ملكة مايو” ترمز إلى الورود، و”السقف القزحي الألوان” يشير إلى شيء واحد فقط.
الحجرة ذات الأعمدة البلورية، الواقعة في نهاية الحديقة المليئة بالورود المتفتحة.
لم تكن الإشارة إلى سقف الحجرة نفسها، بل إلى المساحة بين الأعمدة والسقف.
لابد أن هناك الدليل الذي أرادت جلالة الإمبراطورة الثانية أن أكتشفه..
حاولت تصور الموقف بناءً على شخصيتها القوية التي رأيتها حتى الآن.
‘لا بد أنها فقدت إحدى الأدلة التي جمعتها بنفسها، لكن بما أنها كانت أميرة نشأت في مملكة الشمال، حيث لم يكن كل شيء يسير بسلاسة، فبالتأكيد لم تترك الأمر عند هذا الحد.’
لم تكن لتكتفي بنسخة واحدة من الوثائق، بلا شك.
لكن المشكلة تكمن في أن هذه الوثائق مخبأة داخل قصر الورود.
هل ينبغي لي محاولة رشوة إحدى الخادمات هناك؟ كنت أفكر في الخيارات بينما كنت أسير، حتى هبت فجأة ريح قوية، وغمرني دفء مفاجئ..
“ماذا…؟”
وفي نفس اللحظة، تغير المشهد من حولي تمامًا.
كما حدث عندما انتقلت إلى الماضي مع كاسيان أثناء حياة الإمبراطورة الراحلة.
كنت قد خرجت للتو من قصر الشتاء، لكنني الآن كنت وسط غابة كثيفة.
أصابني الذعر، فاختبأت غريزيًا بين الشجيرات الكثيفة.
“أليس هذا غشًا؟ كيف يتم إلقائي فجأة في موقف مثل هذا وأنا مجرد شخص عادي بالكاد يستطيع النجاة؟!”
أنا لست مثل كاسيان، لا يمكنني القفز على الأسطح والمراوغة مثل الفرسان!
على الأقل أعطوني تحذيرًا مسبقًا، أيها الكاتب المجنون!
وازداد الموقف سوءًا عندما سمعت أصوات خطوات تقترب، مما جعل دقات قلبي تتسارع..
أليس قصر الشتاء مكانًا مهجورًا في الماضي؟ لماذا كان خاليا عندما جئت إلى هنا سابقًا، والآن أصبح مليئًا بالأشخاص؟!
تمنيت من كل قلبي ألا يتم اكتشافي، لكنني لم أكن خبيرة في التسلل مثل كاسيان…
“هل أنتِ الخادمة الجديدة التي تم تعيينها في قصر الشتاء؟”
فوجئت بسماع صوت شخص يوجه إليّ حديثه..
استدرت ببطء نحو مصدر الصوت، وعندما رأيت وجهها، انحنيت بسرعة وأديت تحية رسمية كما تفعل الخادمات.
“ن- نعم، جلالتك المحظية.”
“كيف عرفتِ أنني محظية؟”
“ماذا؟”
كيف لي ألا أعرف؟ إنها المحظية الرابعة، أليس من الطبيعي أن أخاطبها بهذه الطريقة؟
رفعت رأسي بارتباك، لكنها اكتفت بالتنهد وقالت..
“حسنًا، لا داعي للقلق، أنا مجرد محظية رابعة، لستُ شخصًا مهمًا.”
كانت هذه تريشا، التي أصبحت لاحقًا الإمبراطورة الثانية.
ضغطت شفتيها قليلًا قبل أن تتمتم:
“لكن يبدو أنكِ على الأقل تملكين بعض الولاء لسيدك.”
“عفواً..؟”
“كنتِ تبحثين في هذه الأدغال في وقت متأخر من الليل، لا بد أنكِ تحاولين العثور على بعض الأعشاب الطبية لمساعدته.”
“هذا جزء من واجبي، جلالتكِ.”
أجبتها بإجابة عامة، مما جعل تعابير وجهها تتراخى قليلًا.
ثم ألقت إليّ بكيس صغير.
“إذا جاء طاهٍ جديد إلى المطبخ، تأكدي من أن تعطيه واحدة من هذه الحبوب كل ليلة. احتفظي بها جيدًا، ولا تدعي أحدًا يراها.”
“حاضرة، جلالتك.”
“لا، في الواقع…”
تريشا، التي كانت على وشك قول شيء آخر، تراجعت فجأة، ثم استدارت مبتعدة وهي تتمتم..
“إذا كنتِ تريدين الخروج من هنا سالمة، فلا تخبري أحدًا بأنني كنت هنا، ولا بأنني أعطيتكِ هذا. ولا حتى الأمير نفسه.”
على الرغم من برودتها الظاهرة، إلا أنني شعرت بالدفء في كلماتها..
راقبتها وهي تبتعد، ووجدت أنها لم تكن تتجه إلى “قصر الليلك” حيث تقيم، بل نحو “قصر الورود”.
وهنا أدركت…
..هل هذا هو اليوم الذي قامت فيه جلالة الإمبراطورة الثانية بإخفاء الوثيقة؟
لكنني لم أتمكن من التحرك..
لأنني كنت أمسك بكيس الدواء الذي أعطتني إياه.
… إذا ذهبت للبحث عن الوثائق الآن، فمن المؤكد أن کاسیان سيقع في الخطر.
لذلك، قررت إنقاذ كاسيان أولا.
حتى لو كان هذا مجرد ماض ثابت لا يمكنني تغييره، لم أكن على استعداد للمخاطرة.
***
كان عام 1743 هو العام الذي وقعت فيه حادثة سقوط المحظية الملكية من على صهوة جوادها، وكان كاسيان حينها في السابعة من عمره..
أي في نفس العمر الذي كان فيه الأمير السادس، جويل، حين قادني إلى قصر الليلك بكل براءة.
وأنا في طريقي إلى غرفة النوم في قصر الشتاء، تمنيت بشدة ألا يكون كاسيان الصغير قد امتلك في هذا العمر الحاسة المرعبة التي يتمتع بها في المستقبل.
‘… الآن بعد أن فكرت في الأمر، لم أدخل غرفة الأمير في الواقع من قبل، ولا أي غرفة نوم أخرى في قصر الشتاء.’
لكن ها أنا ذا، أتسلل إليها في الماضي بدلاً من الحاضر..
أعتذر، أيها الأمير. لم أقصد انتهاك خصوصيتك، كنت فقط أحاول إنقاذك، لذا أرجوك تغاضَ عن الأمر.
حاولت أن أتمسك بهذه الأفكار الخفيفة لأخفف من توتري، لكن كلما اقتربت، زاد شعوري بالثقل في صدري.
فأنين الطفل المريض كان يزداد وضوحًا مع كل خطوة.
وحين نظرت إلى السرير، كدت أنهار تمامًا في مكاني.
لم يكن سريرًا يليق بأمير، بل بدا بائسًا إلى حد يثير الشفقة..
كان واضحًا تمامًا ما تعنيه عبارة “الطفل الذي يُعامل وكأنه غير موجود”.
كان كاسيان الصغير يتلوى من الألم، متشبثًا بلحافٍ قديم ورقيق بالكاد يغطيه..
‘حقًا… لماذا عليه أن يعاني إلى هذا الحد؟’
حياتك كانت صعبة بمافيه الكفاية، أليس كذلك؟
على عجل، أخرجت الدواء ووضعته في فم الطفل، ثم أسقيته الماء ليساعده على بلعه.
بدا عليه الارتباك للحظة، لكنه سرعان ما ابتلعه دفعة واحدة، وكأنه ممتن لمجرد حصوله على الماء..
‘… لكنني سأختفي قريبًا.’
هذا ما قاله كاسيان عن تجربته عندما انتقل إلى الماضي. لقد عاد إلى الحاضر بعد فترة قصيرة من حديثه مع الإمبراطور.
أما الإمبراطورة تريشا، فقد طلبت مني الاحتفاظ بالدواء وإخفائه، لكن ذلك كان مستحيلًا في ظل هذه الظروف..
ترددت للحظة، ثم قررت أخيرًا وضع كيس الدواء تحت وسادة الطفل قبل أن أرحل..
وفي تلك اللحظة، فتح كاسيان الصغير عينيه فجأة.
تجمدتُ في مكاني، وشعرت كما لو أن الزمن توقف وأنا أنظر إلى تلك العيون البنفسجية الصافية.
لكن في اللحظة التالية، ابتسم الطفل رغم ألمه، بابتسامة جميلة وبريئة بشكل مؤلم..
ثم قال بصوت مرتجف:
“هل… سأموت اليوم؟”
قال ذلك وكأنه يهمس بشيء حتمي، مما جعل قلبي ينهار تمامًا.
واتباد: ki_lon2
التعليقات لهذا الفصل " 88"