ما إن صعدت إلى القطار وأخرجت دفتري كالمعتاد، حتى قام كاسيان بتغطيته بيده.
“يمكنكِ أن ترتاحي قليلاً.”
“… إنها مجرد عادة.”
“من خلال هذه الرحلة، فهمت جيدًا أنكِ كنتِ هكذا حتى قبل أن تأتي إلى جانبي.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة وهو يسند مرفقه إلى النافذة..
“وأيضًا، أدركت مدى حب سكان البارونية لكِ، سواء في قلعة ساليس أو في القرى المجاورة.”
“ألم تلاحظ أنهم جميعًا يعاملونني كأنني مجرّد ثرثارة مزعجة؟”
“ليس عليكِ التظاهر بإخفاء خجلكِ بهذه الطريقة.”
توقفت للحظة بعد ملاحظته المباشرة، ثم أومأت برأسي..
“أجل، الجميع هناك مثل العائلة… لقد اعتنوا بي منذ صغري، وكانوا يعطونني دائمًا ألذ الطعام.”
“يبدو أنني سأحتاج إلى بذل جهد أكبر إذن.”
تنهد كاسيان بعمق، وكأنه لا يريد تركي أبتعد عنه..
كان يمكنني تفهم ذلك.
‘أنا أيضًا لا أريد أن أرى فرانسيس أشوود يقدم استقالته.’
كانت مجرد فكرة احتمال خسارة خمسة إداريين دفعة واحدة كابوسًا بحد ذاته.
لذا، طمأنته قائلة
“لا تقلق، جلالتك.”
“همم؟”
لكنه بدا قلقًا بالفعل..
“ما زال لدي الكثير من العمل لأقوم به في العاصمة.”
“… صحيح.”
“وحتى إن قدمتُ استقالتي، فسأتأكد من إنهاء إجراءات التسليم والبحث عن بديل مناسب! لم يعد سوء سمعتك كما كان في السابق على أي حال.”
قبل ذلك، عليّ إيجاد طريقة للتعامل مع رقابة الإمبراطورة الأولى.
لم يكن كاسيان مديرًا سيئًا لدرجة تدفعني للاستقالة بشكل غير مسؤول.
“كما أنني لا أريد مغادرة قصر الشتاء وأشخاصه المهمين لي.”
قلت ذلك بكل صدق، لكن تعبير كاسيان لم يكن سوى خليط من العبوس والتذمر.
“أنتِ لا تفهمين شيئًا حقًا.”
“ماذا؟”
ماذا بالضبط الذي لا أفهمه؟!
ألقيت عليه نظرة مستفسرة، لكنه اكتفى بإطلاق تنهيدة عميقة.
“حتى لو أخبرتكِ، ستتظاهرين بأنكِ لم تفهمي… غبية، روز.”
ثم تمتم بعبارات طفولية مستاءة..
يبدو أنه تأثر كثيرًا بالجو في بارونية ساليس، وهذا مقلق بالفعل.
‘إذا أصبح مثل سكان قريتنا، فسيكون ذلك كارثة عندما نعود إلى العاصمة.’
رجوت في داخلي أن يتخلى عن مثل هذه التصرفات. لكن بدلاً من ذلك، شدّني بين ذراعيه بقوة وأخفى وجهه عني.
***
بشكل غير معتاد، استمر استياء كاسيان لفترة أطول من المتوقع، مما اضطرني إلى مناداته بطريقة مختلفة والتنازل عن بعض المهام حتى يهدأ..
كان لديه عادة غريبة… عندما ينزعج، يأخذ كل أعمالي ليقوم بها بنفسه.
“أنتِ حقًا ماكرة.”
“لستَ في موقع يسمح لكَ بقول ذلك، إيان.”
بعد أن أجبرني على تغيير طريقة مناداته مجددًا..
بحلول ذلك الوقت، مرّ حوالي اثنتي عشرة ساعة منذ انطلاق القطار.
كان وقتًا طويلاً، لكنه لم يكن غير مريح، بفضل اننا في الدرجة الأولى.
لم نكن من النوع الذي يدقق في مكان النوم كثيرًا على أي حال.
“رغم أنها المرة الثانية فقط لي على هذا القطار، إلا أنني أشعر بالملل.”
قبل عامين، عندما جئت إلى العاصمة، سافرت عبر هذا القطار المباشر أيضًا.
لكنني كنت حينها في الدرجة الثالثة.
“هذا لأنكِ أنجزتِ كل أعمالكِ في طريقنا إلى بارونية ساليس.”
“وأنتَ كذلك، سموك.”
بينما كنا نتحدث، أدركت فجأة أن لدي عادة محزنة جدًا.
لاحظتُ أن كاسيان يحدّق بي بتمعن.
“… إيان أيضًا.”
ما إن قمت بتصحيح كلماتي، حتى أطلق تنهيدة حزينة.
أشعر أن عدد تنهيداته زاد منذ زيارتنا لبارونية ساليس.
كما أن حاجته للحنان أصبحت أكثر وضوحًا.
نظر إليّ بإحباط، ثم التقط الهاتف الموجود في المقصورة واستدعى أحد العاملين في القطار..
طلب منهم تجهيز الإفطار، ثم وجه إليّ نظرة جادة وقال:
“روز، أعلم أن هذه الرحلة كانت لأغراض العمل، لكن…”
“نعم؟”
“لا أحد يجهل أننا سافرنا معًا وحدنا لما يقارب أسبوعين، صحيح؟”
“صحيح؟”
“ونحن مخطوبان ونحب بعضنا، أليس كذلك؟”
أومأت برأسي دون تفكير..
في تلك اللحظة، دق الجرس معلنًا وصول الإفطار.
حاولتُ النهوض، لكنه أوقفني وتولى استلام صينيتين بنفسه ووضعهما على الطاولة.
كانت وجبة الإفطار تتكون من خبز محمص ذهبي اللون، وبيض مقلي بعناية، وطماطم، ونقانق، وقليل من الخضار، مع المربى والزبدة.
سكب الشاي لنفسه، بينما ملأ لي كأسًا بعصير البرتقال.
يبدو أنه تذكر شكواي بشأن سوء مذاق القهوة أثناء رحلتنا إلى البارونية..
“إذن، روز، باعتبارنا خطيبين سافرنا معًا لأسبوعين… ألا تعتقدين أنه يجب أن يكون هناك تغيير في علاقتنا؟”
قال ذلك بينما كان يقطع قطعتي النقانق الخاصة بي بكل سهولة..
راقبته بفضول، ثم أجبتُ بجدية
“تقصد أن تغيير طريقة مناداتنا لبعضنا سيبدو أكثر طبيعية؟”
“تمامًا، وسيفترض الجميع أننا اقتربنا أكثر.”
بدا كلامه منطقيًا.
“إذن، ما تقوله هو أنه حتى لو ناديتك بـ إيان بشكل طبيعي، فلن يكون ذلك غريبًا؟”
“إجابة صحيحة، لذا يرجى ألا تترددي بسبب قلق غير ضروري.”
رغم شرحه الواضح، لم يبدُ عليه أي ارتياح..
بل بدا وكأنه يتساءل لماذا يحتاج إلى قول ذلك صراحة.
شعرتُ فجأة بالحزن.
لم يسبق له أن انتقدني بخصوص عملي، لكنه بدا الآن محبطًا بشكل واضح.
ربما يجب أن أقرأ بعض الروايات عن الزيجات التعاقدية عندما نعود إلى العاصمة… لأفهم كيف يفترض بي أن أتصرف.
***
{يجب أن يكون هناك تعويض واضح في حالة التأخير غير المتوقع.
التعامل مع الحالات الطارئة غير كافٍ. إن كان هذا الأمر متكرر الحدوث، فمن الضروري وضع دليل إرشادي للتعامل معه.}
بمجرد صعود القطار مجددًا، بدأ كاسيان في كتابة ملاحظاته بينما كانت روز نائمة..
في حوالي الساعة العاشرة صباحًا، توقف القطار الذي كان يسير بسلاسة فجأة.
أسرع أحد موظفي القطار، الذي كان على علم بوجود كاسيان وخطيبته في الدرجة الأولى، لشرح الموقف. كانت هناك مشكلة في المحور الذي يثبت العجلات، لذا تم إيقاف القطار مؤقتًا حفاظًا على السلامة..
أومأ كاسيان برأسه متفهمًا، فالأمر أفضل من وقوع حادث. لكن طريقة تعامل الطاقم مع الموقف أزعجتهما لاحقًا.
بعد إبلاغهما، بدأ الموظفون في التجول بين العربات لإبلاغ الركاب، لكن أصواتهم لم تصل إلى الجميع..
وللتأكد، توجهت روزليتا إلى الدرجة الثالثة لتفقد أحوال الركاب، فوجدتهم متوترين يراقبون الوضع بقلق..
على الفور، طلبت من الموظفين شرح الوضع للركاب بالتفصيل واقترحت تركيب جهاز تضخيم صوتي لاستخدامه عند الضرورة. ثم ساعدت الطاقم في طمأنة الركاب في جميع العربات.
بعد ثلاث ساعات من التوقف، استأنف القطار رحلته أخيرًا.
كاسيان، الذي لاحظ أن روزليتا لم تتوقف عن التحرك في جميع أنحاء القطار، أجبرها على أخذ قسط من الراحة.
ورغم احتجاجها بأنها بخير، إلا أنها كانت قد أنهت للتو جدولًا مزدحمًا استمر عشرة أيام، إلى جانب أنها لم تتوقف عن التحرك منذ وصولها إلى مقاطعة ساليس.
بالطبع، كانت إقامتها هناك أكثر هدوءًا من حياتها في العاصمة، لكن السفر الطويل مرهق بطبيعته.
أما كاسيان نفسه، فبفضل تدريباته الكثيفة وخبرته في السفر الطويل بمختلف الوسائل، لم يكن الأمر يمثل مشكلة كبيرة له. لكن بالنسبة لها، كان الوضع مختلفًا.
لحسن الحظ، كانت روزليتا من النوع الذي ينام بسرعة عندما يكون مرهقًا. لذا، بمجرد أن غطاها بالبطانية ووضع غطاءً خفيفًا على عينيها، تنفست بهدوء وغطت في النوم.
بعد تدوين الملاحظات حول النقاط التي تحتاج إلى تحسين، أغلق كاسيان دفتره وراح يتأمل ملامحها النائمة.
كان يستغل القصص التي سمعها في مقاطعة ساليس كذريعة ليشبع جشعه تجاهها.
وكان ممتنًا لأنها لم تدرك ذلك.
لأنه لو أدركت، فسيكون هو الشخص الذي سيجد نفسه في مأزق..
كانت بارعة في فهم مشاعر الآخرين، لكنها وضعت جدارًا غير مرئي عندما تعلق الأمر بهذا النوع من الأمور، مما سمح له بالتقدم خطوة بعد خطوة كما يشاء.
“لكن هذا لا يعني أنني أتوقع شيئًا منك.”
سواء كانت تدلِّلُهه أو تتجادل معه، كان يستغل براءتها كفرصة للتقرب منها أكثر.
مع أنه يعلم يقينًا أنه إذا اقتربت هي، فسيهرب.
خرج كاسيان عن قراراته وهو يتذكر كلماتها في الماضي:
“أريد فقط أن أعيش بسعادة مع والديّ، تمامًا كما هو الحال الآن.”
كانت الطفلة النبيلة الصغيرة التي بقيت إلى جانبه لأنه تمسك بها..
حينها، كان مجرد طفل غير مرغوب فيه داخل العائلة الإمبراطورية، لكنه ظن أنه على الأقل قادر على تحقيق أمنيتها الصغيرة.
قبل أن يفترقا، سألها إن كان لديها أي طلب.
لكن إجاباتها كانت أكثر الأشياء التي لا يستطيع منحها لها كلما زاد جشعه نحوها.
ومع ذلك، كان عليه تحقيقها.
حتى الوحوش ترد الجميل، فكيف له أن يرد لطفها عليه بشقاء عظيم بدلًا من السعادة البسيطة التي تمنت أن تعيشها؟
‘لهذا، حتى لو كان قليلاً فقط، وحتى يحين الوقت الذي تحتاجني فيه، أريد أن أبقى بجانبها.’
روزليتا لم تكن تعلم، لم تكن تعلم كم كان دائمًا جشعًا، سواء في الماضي أو الآن.
وعد نفسه بأنه عندما يحين الوقت الذي يتعين عليه تركها، سيبذل جهدًا ليتركها تذهب.
لكن حتى أثناء تفكيره بذلك، سخر من نفسه.
لأنه في النهاية، سيفعل ما كان يفعله دائمًا—سيتظاهر بأنها مجرد مزحة، وسيهمس مرارًا وتكرارًا: “لا تتخلّي عني. لا ترحلي.”
***
لسببٍ ما، كانت القيلولة المفاجئة أحلى من النوم العميق في الليل..
شعرتُ بطمأنينةٍ تامة عندما لامست جبيني وخدي يدٌ مألوفة، مما جعلني أغرق في النوم بعمق.
لم يكن هناك سوى شخصٍ واحدٍ يلمسني بهذه الطريقة—كاسيان.
وإذا كان هو بجانبي، فلن يكون هناك ما يدعو للقلق.
لكن لا أعلم كم مرّ من الوقت وأنا نائمة.
بااام—!
دويٌّ هائلٌ أيقظني عنوةً، مصحوبًا بارتجاجٍ عنيفٍ في جسدي..
“…أوه.”
ثم سمعت أنينًا عند أذني، مما جعلني أستعيد وعيي بالكامل.
كان ذلك صوت كاسيان..
“إيان!”
“حتى بعد أن استيقظتِ فجأة، لم تغيّري طريقة مناداتك لي… هل يجب أن أكون سعيدًا لأن إقناعي نجح؟ لا أدري.”
كان كاسيان يحتضنني وهو يثرثر بكلماتٍ لا معنى لها.
أسرعتُ بفحص حالته، لكنه مسح خدي بيده مطمئنًا إياي بابتسامة.
“أنا بخير. لقد استخدمت طاقة الهالة لحماية المناطق التي تلقت الصدمة.”
“هل أنت متأكد؟”
“يمكنكِ التحقق بنفسكِ إن أردتِ.”
بما أنه لا يزال يمزح، فهذا يعني أنه لا يكذب هذه المرة.
“لكن الأهم من ذلك…”
“يبدو أنها حادثة خروج عن السكة، لم أشعر بأي اصطدام بشيء خارجي.”
ربّت كاسيان على معصمي بلطف، حيث كانت هناك سلسلة صغيرة تتدلى من سوارٍ صغير على شكل تعويذة مصغّرة.
“على ما يبدو، هذا مرتبطٌ بنا بطريقةٍ ما، أليس كذلك؟”
أومأت برأسي.
فقد كان هذا أحد الأسباب التي جعلتنا نختصر الرحلة، وأحد الأسباب التي دفعته إلى إجباري على الراحة رغمًا عني.
التعليقات لهذا الفصل " 82"