بينما كنا ندفئ أجسادنا، بدأنا نسترجع حكايات الماضي واحدة تلو الأخرى..
كان الأمر أشبه بتصفح ألبوم صور قديم، بلا ترتيب معين، مجرد ذكريات تتدفق إلى الذهن فنرويها كما هي. نوع من المحادثة العفوية المليئة بالحنين.
“في الحقيقة، استعدت وعيي ذات مرة لكنني تظاهرت بأنني لم أستعده بعد.”
“إذن لهذا السبب تعرفت عليّ؟”
“لم يكن الأمر صعبًا. مهما كان آل ساليس لا يهتمون كثيرًا بالفوارق الطبقية، فهذا لا يعني أن البارون وزوجته لم يربّياك على الإطلاق.”
بعبارة أخرى، أسلوبي في الحديث وتصرفاتي كانت مختلفة قليلاً..
حسنًا، ذلك كان في حدوده الدنيا، لكن بعد ذهابي إلى العاصمة، كان الأمر كافيًا ليجعلني عرضة لانتقادات النبلاء المهووسين بالإتيكيت الصارم.
“وربما لأنكِ كنتِ صغيرة، أو لأنك لم تملكي وقتًا للاستعداد…”
قال كاسيان ذلك بينما كان يمرر أصابعه بين خصلات شعري، كما لو كان يمشطه ببطء.
“مع مرور الأيام، كان شعركِ المستعار الأرجواني الفاتح يتشابك أكثر فأكثر، وبدأت خصلات شعرك البني الجميل تظهر تحته شيئًا فشيئًا.”
لم أستطع إلا أن أبتسم..
كان هناك الكثير من الأدلة.
بسبب انشغالي بالتنقل دون إخبار والديّ بالوضعية، كنت أرتدي الباروكة على عجل وأثبتها بأي شريط شعر متاح..
“ثم، كنت أعرف وجه السيدة فيلهلمينا مسبقًا.”
“…لأنك كنتَ الأمير؟”
“لا، ليس لهذا السبب، بل لأنني تصرفتُ بطريقة لا تليق بأمير.”
ضحك كاسيان كما لو كان طفلاً صغيرًا..
“بسبب شدة بطش الإمبراطورة، كنتُ رسميًا الطفل الذي لا وجود له.”
“وتقول ذلك بهذه البساطة؟”
“لماذا تشعرين بالحزن بدلاً مني؟ أنا لم أشعر بأي شيء حيال ذلك.”
قال كاسيان ذلك وهو يداعب يدي التي كان يمسكها برفق.
“في الواقع، كان الأمر مريحًا بطريقة ما. لم يكن هناك من يراقبني باستمرار. حسنًا، بالطبع، كان هناك فرسان أو خدم يمرّون أحيانًا وكأنهم يتأكدون مما إذا كنت لا أزال على قيد الحياة.”
ثم أضاف قائلاً إنه يعتقد أن الإمبراطور نفسه هو من أرسلهم..
عندما كان صغيرًا، ظن أنه كان تحت المراقبة، لكنه الآن بعدما استرجع الماضي، يتساءل إن كان ذلك تعبيرًا عن اهتمام من نوع ما.
استمعتُ إلى كلماته وتساءلتُ عما إذا كان كاسيان لا يتسامح كثيرًا مع الأمور فحسب. حتى لو كان ما يقوله صحيحًا، ألا يملك قلبًا واسعًا جدًا؟
لكن إن كان هذا التفكير يريحه، فليكن..
“كما تعلمين، أنا شخص لا يستطيع كبت فضوله، أليس كذلك؟”
“بالطبع، يكفي أنك اكتشفت هوية الفتاة الأرستقراطية الطيبة والضعيفة التي حاولت مساعدتك سرًا.”
“هذا مؤلم بعض الشيء.”
آه، لكنه لا يجد أي مشكلة في كونه “الطفل الذي لا وجود له”؟
استدرتُ نحوه وأنا أشعر بالذهول، لكنه ابتسم لي بعينين تتوهجان بالسعادة..
“على أي حال، لهذا السبب كنت أتسلل إلى القصر كلما أقيمت حفلة هناك.”
“لقد كنت أميرًا بكل معنى الكلمة منذ صغرك، إذن.”
“نعم، لكن الشخص الذي ترينه اليوم هو مِن صُنعكِ أنتِ.”
“…أنا؟”
كيف يعقل أنني، الأصغر منك بعامين، قد صنعتك؟
“كنتُ أصغي جيدًا إلى كل ما كنتِ تثرثرين به بلطافة.”
عانقني كاسيان بقوة أكبر..
حتى في هذا الكوخ الذي بالكاد يمنع تسرب الهواء البارد، ومع استمرار الموقد بالاحتراق ودفء أجسادنا المتلاصقة، بدأت أشعر بالحرارة.
ورغم ذلك، لم يخطر ببالي حتى مجرد التفكير في إبعاد يديه عني..
لأنني تذكرت الماضي—
“هل ستذهبين؟”
عندما سألني ذلك، ترددت للحظة، ثم أجبت أخيرًا.
“سأذهب، لكنني سأعود. لقد وعدتك أنني سأبقى حتى تخرج.”
سواء في ذلك الوقت أم الآن، كنت دائمًا ضعيفة أمام كاسيان بطريقة غريبة..
ربما لأنني…
“أضعف أمام الجمال.”
صحيح أنه لم يكن لطيفًا مثل الأمير جويل السادس، لكن الطفل الذي كان عليه حينها كان أكثر من مجرد شخصية جميلة في رواية، بل كان أجمل مما تخيلته يومًا..
كان من الأفضل أن أكتفي بهذا التفسير.
تذمرت عمدًا وأنا أجيبه:
“كيف لك أن تثق بسهولة بكلام فتاة صغيرة؟”
“بدوتِ لي جديرة بالثقة، أيضًا…”
اقتربت شفتا كاسيان مرة أخرى من أذني وهمس برقة..
“الناس في مقاطعة ساليس يقولون جميعًا إنه لا يمكن أن تخطئ نصيحة روز.”
لكن هذا ما سمعته بالأمس فقط!
شعرتُ ببعض الغيظ، فدفعت جسدي أكثر باتجاهه، لكنه لم يتحرك حتى قيد أنملة، مما زاد من إحباطي..
ضحك كاسيان بصوت سعيد وهو يراقبني..
هل أنا الوحيدة التي تستمر في الخسارة هنا؟
رغم إحساسي بالظلم، لم أستطع الشعور بالسوء حقًا.
صحيح أن كاسيان الطفل كان أجمل مما توقعت، لكن—
على عكس ما تصورت وأنا أقرأ الرواية، فقد عاش طفولة مثقلة بالمعاناة، بالكاد متمسكًا بالحياة..
لذلك، أحببتُ رؤية كاسيان البالغ الآن، وهو يسخر مني بمرح، مليء بالدهاء، ومخادع حتى النخاع.
***
بينما كنا مستغرقين في الحديث، قال كاسيان فجأة..
“لكن روز، أنتِ كنتِ تعرفين أنني أنا منذ ذلك الوقت، أليس كذلك؟”
هل… هل ينوي الآن أن يسألني كيف عرفت أنه كان الأمير الثاني؟
إذا كان كذلك، فسيكون الأمر مزعجًا بعض الشيء..
بدأت أفكر بسرعة: هل أخبره أنني قرأت ذلك في الصحف؟ وبينما كنت أبحث عن إجابة مناسبة، فاجأني بسؤال مختلف تمامًا عما توقعته..
“لكن لماذا لم تعودي تنادينني كما كنتِ تفعلين في الماضي؟”
“…هاه؟”
“كنتُ أحب ذلك كثيرًا.”
“…هل كان هذا يعجب سموك؟”
“الآن بعد أن فكرت في الأمر، كنتِ تتحدثين معي دون أي ألقاب أيضاً، صحيح؟”
“لا تقل لي أنك ستتهمني الآن بإهانة العائلة الإمبراطورية..”
“أتمنى لو تفعلين ذلك حقا.”
هل تعرضت الجزء المسؤول عن قيمه لضربة قوية وهو يكبر؟
نظرتُ إليه بقلق، لكنه بدلاً من أن يبدو متأثراً، راح يتدلل عليّ أكثر وكأنه يتوسل..
“همم؟ ألا يمكنك فعل ذلك على الأقل عندما نكون وحدنا؟”
“لكن… كنا أطفالًا حينها! كيف لي أن أخاطب صاحب السمو الإمبراطوري بهذه الطريقة الآن—”
“وأنتِ كنتِ تعرفين ذلك منذ البداية.”
لماذا هو واثق إلى هذه الدرجة؟!
هل كنتُ بالفعل طفلة ساذجة عندما كنتُ في التاسعة من عمري؟
هل قلتُ شيئًا دون أن أدرك؟
بصراحة، بذلتُ قصارى جهدي لتجنب لفت الانتباه، لذا لم أكن أتذكر كل كلمة قلتها..
أو بالأحرى، من الطبيعي ألا أتذكر التفاصيل الدقيقة لما قلته في التاسعة!
‘عندما كنتُ صغيرة، كان يمكنني التذرع بطفولتي، لكنني الآن راشدة رسمياً بعد ظهوري وتحيتي الاولى.’
“وأنا أقول إنه لا بأس بذلك.”
قطب كاسيان حاجبيه بأسى، وكأنه طفل غاضب..
لا تفكر أن كل شيء سينجح لمجرد أنك جميل، أيها اللعين.
أبعدت نظري عنه متظاهرة بعدم الاكتراث..
“على الأقل، لا أطلب منك مناداتي باسمي الحقيقي. وقد ناديتِني بذلك سابقًا بالفعل.”
“إيان؟ لكنني أذكر أنني كنت أناديك بسيان.”
“لا، كان إيان.”
ضحك كاسيان وهو يحك عنقه..
“في ذلك الوقت، كانت أسنانك اللبنية تتساقط، فكان نطقك مضحكًا.”
يا له من شخص شرير!
تذكّر بكل وضوح أكثر لحظاتي الطفولية إحراجًا، والآن—
“ناديني بذلك مجددًا، نعم؟”
أنا واثقة أن حتى جلالة الإمبراطور لا يعرف هذا الجانب من ابنه..
أن ابنه، الذي من المفترض أن يكون صارمًا ومهيبًا، يصرّ على شيء تافه كهذا، متجاهلاً هيبته بالكامل أمام مرؤوسته.
“فقط عندما نكون وحدنا صحيح؟”
“نعم.”
“وإذا أمرت الإمبراطورة بالقبض عليّ بتهمة إهانة العائلة الإمبراطورية، عليك أن تحميني.”
“سأتمرد إن لزم الأمر.”
“لا تقل أشياء مرعبة مثل التمرد من أجل مجرد لقب!”
“مجرد لقب؟ بالنسبة لي، هذا ليس مجرد لقب.”
سمعتُ نبرة خفيفة من العتاب في صوته، فلم أستطع إلا أن أبتسم..
حسنًا، إذا كان كل ما يريده هو هاتين الكلمتين، فلا بأس.
من النادر أن أُمنح فرصة لمحادثة ودية مع رئيسي.
“إيان.”
“همم.”
“أشعر أنك نسيت كل ما قلته قبل قليل.”
“هاه؟”
ضحك كاسيان مجددًا..
“ألم تكوني أنتِ من أخبرني ألا أعيش في الماضي كثيرًا؟”
“نحن فقط نسترجع ذكريات جميلة معًا، لا أكثر. ومع ذلك، يبدو أنك تتذكر هذا الكلام تحديدًا؟”
“لأنني سمعتُ منكِ الكثير من الطلبات السخيفة.”
رغم حديثي العادي، بدا على كاسيان أنه سعيد جدًا، مما جعلني أشعر بالحرج.
ولهذا السبب، كنتُ دائمًا أؤكد عليه ألا يتشبث بالماضي.
لأني أردتُ أن أعيش حياة هادئة، بعيدًا عن أي شيء قد يجعلني بطلة القصة.
لكن بالنظر إلى الوضع الآن…
أليس كاسيان هو من يدمر كل مخططاتي؟
وربما—
ربما هو الجزء الذي أفسدته أكثر من أي شيء آخر في الحبكة الأصلية.
***
عندما بدأ الوقت يقترب لوصول السائق ليقلني، اكتشفتُ حقيقة مذهلة..
“… إذًا، الشخص المجهول الذي تبرع بسداد جميع ديون عائلتي عندما أفلسنا، كان إيان؟”
حافظتُ على لقبه كما هو، لكني عدّلت نبرتي قليلًا لأتناسب مع الموقف..
يمكنني التذرع بخطبتنا لتبرير مناداتي له بـ”إيان”، لكن التحدث إليه بطريقة غير رسمية بدا لي مخاطرة.
كاسيان، الذي كان يراقب كيف غيّرتُ سلوكي فجأة، تذمر قائلاً إنني قاسية جدًا..
لكن بالنسبة لي، الأهم كان أن أضمن نجاتي أولًا.
“صحيح، لكنكِ كنتِ قاسية ورفضتِ العرض.”
“ذلك لأن…”
“لأن؟”
ابتلعتُ كلماتي بصمت..
عرضٌ مثالي في مثل هذا التوقيت؟
بصراحة…
{سأقوم بسداد جميع ديون مقاطعة ساليس.
وكل ما أطلبه بالمقابل هو ردود لطيفة على رسائلي من الآنسة ساليس.
– من المتبرع المجهول.}
لقد بدا وكأنه عملية احتيال هاتفية متقنة!
التعليقات لهذا الفصل " 79"